اطبع هذه الصفحة


سلسلة حوار مع القلوب
على متن الطائرة

د. فيصل بن سعود الحليبي
13/10/1418هـ

 
ثلاثون دقيقة وأنت تطل وبشغف من هذه النافذة الصغيرة ! والذي يراك هكذا يحسب أنك لم تركب طائرة قبل هذه المرة ! هل ستستمر هكذا طيلة الطريق ، وتتركني للسآمة والملل ، ما هكذا تكون الصحبة يا أخي !!
رويدك رويدك يا رفيقي ، فهذه المناظر الخلابة قد أخذت من لباب عقلي كل مأخذ .
أخبرني ماذا رأيت ، هل أبصرت شيئاً جديداً !! أرجوك اغضض من صوتك حتى لا يسمعك أحد فتكون مثار دهشتهم أو حتى ضحكهم .
نعم ، السماء هي السماء ، والجبال هي الجبال و ..
والأرض هي الأرض طبعاً ..ماذا في ذلك ؟
لكن الإنسان في حياته اليومية منشغل عن هذه العبادة العظيمة .
يظهر أن مشقة السفر بدأت تحط رحالها في فكرك قبل أن تسافر ، وإلا فأيّ عبادة تتحدث عنها وأنت تحملق بعينيك من هذه النافذة ؟
ألا تثير إعجابك هذه المئات من الناس التي تصحبك على متن هذه الطائرة ، وكيف هي متعلقة الآن بين السماء والأرض ، وقد لفّ قلوبهم الأمان ، وتوّج نفوسهم الاطمئنان ؟
الحق أن هذا المنظر قد اعتدت عليه ،فلم يعد يثير مكامن الإعجاب في نفسي .
وهل يستحق منك في واقع الأمر تفكراً وتأملاً ؟
نعم وبدون ريب .
وممن تذهل ؟
أذهل من الإنسان ، وكيف بلغ عقله هذه الذروة في التفكير .
فقط ؟؟
وماذا غير ذلك ؟
إنها نتيجة كنت أريد الوصول إليها ، مع أني كنت أخشاها !!
أفصح عما في نفسك .
قل بربك أيّ شيء عقل الإنسان أمام هذه السموات العظام ، وتلك الجبال الضخام ؟
الحق : لاشيء ..
وأيّ شيء عقله مقابل ما بسط له في الأرض من ثمر وبحر ونهر ؟
أيضاً : لاشيء .
هل يستطيع عقل الإنسان أن يعلق جزءاً من سماء كما علق هذه الطائرة على حد قولك ، أم هل يستطيع علمه أن يجري السحاب كما ترى أمثال الجبال ، أم هل يستطيع أن يضيء الدنيا بشمس كهذه الشمس التي تضيء بنور خالقها سبحانه ؟
لا والله لا يستطيع . . لا يستطيع .
والآن قل لي : من الذي يستحق منا أن نتأمل في قدرته وعظيم خلقه ؟
إنه الذي يقدر على ذلك كله ؟
أتعلم من هو يا رفيق دربي ؟ إنه الذي خلق عقل الإنسان ، ورفع السموات بغير عمد نراها ، وبسط الأرض بكل مقدراتها ، وضرب أوتاد الجبال الشامخات أن تميد بنا الأرض ، وأجرى لنا الأنهار ، وأحاطنا بالبحار ، وفوق هذا كله أمدنا بعظيم كرمه ، وجميل حلمه ، إنه الله يا أخي ، نعم إنه الله .
سبحانه جلّ من خالق عظيم ، لكنك قبل قليل أطلقت لفظ العبادة ، فما صلت العبادة بموضوعنا هذا ؟
إن الله حينما سخر لنا هذه النعم ، ومكننا من الانتفاع بها ، أمرنا أن نتعبده بالتفكر في عظيم صنعه إياها ، وإبداعه لدقة خلقها ، والتأمل في سحر جمالها ، وجعل هذا من صفات أصحاب العقول النيرة ، والنفوس المؤمنة .
يبدو أنك تشير إلى قول الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . } .
ليس هذا الموضع من كتاب الله فحسب الذي يدل على هذا المعنى الجليل ، وإنما هي آيات كثيرة ، حثنا الله عز وجل فيها على هذه العبادة الشريفة ، التي غالباً ما ينشغل عنها الإنسان بسبب ما يدور في فلك فكره من هموم الدنيا ومشاغلها .
ولعلك توافقني الرأي أن مما يساعد الإنسان على أداء عبادة التفكر ، خروجه للنزهة ، أو السفر إلى منطقة يتجسد فيها الإبداع الإلهي أكثر من غيرها .
هو كذلك يا أخي .
لكنني لا أريد أن أفهم منك أنك تستحقر ما يبدعه عقل الإنسان من اختراعات ، وما ينشئه من حضارات .
كلا ، أنا لم أقصد هذه النتيجة الخاطئة ، كيف وإن كل عظمة يتوصل إليها بنو آدم تدل بكل معانيها وأسرارها على عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وهداه إلى هذا التقدم والرقي .
سبحان الله !!
مم العجب يا صاحبي ؟
إن حال الإنسان هي التي تثير عجبي ، فالله عز وجل يخبر _ وخبره اليقين _ أن الإنسان خلق من ضعف إذ يقول عز من قائل : {  وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا = 28 } ، وهو مع هذا يمن على عباده أن أظلهم بسماوات عظام واسعات ، وأقلهم بأرضين فساح مهد لهم فيها متاعهم ومنافعهم فقال سبحانه وتعالى : {  وَ السَّمَاءَ بَنينَاها بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .} .
والحال يقيناً يختلف بين هذه المخلوقات في خلقها وفي خُلقها .
أراك أدركت موطن الاستغراب ، فيا ليتك تكشف عنه .
لعلك تتذكر معي قول الله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، هل تأملت يا أخي كيف تسارعت هذه المخلوقات العظيمة إلى استجابة أمر خالقها بدون تردد أو عصيان .
هذا ما أريد ، ولكن يأبى الإنسان إلا أن يضيف إلى ضعفه جهلاً ، فتراه يقابل الفضل بالنكران ، والكرم باللؤم ، والجميل بالنسيان ، وإلا فالسماوات تطيع وهو يعصي ، والأرض تخضع وهو يتكبر !!.
وعلى مَنْ ؟ على مَنْ كرّمه على كل مخلوقاته ، وسخّر له أجلّ نعمه وأعظمها ، والله عليم بخلقه ، وخبير بجحودهم ، فهاهو سبحانه بعد أن عدد عليهم نعمه يقول : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ما أروع أن ينيب المرء إلى خالقه سبحانه ، فتعلوه سحابة الهيبة من جلاله وعظيم قدره ، لأنه بدون ذلك لا يستطيع أن يشعر بفقره لغناه ، وحاجته لفضله ، حتى يكون في محل التكريم الذي فضله الله به .
ما زالت مظاهر الجمال والإبداع الإلهي تثير في فكري معاني كثيرة .
هات ما عندك أرجوك ، فلا أجمل من أن يقطع الطريق بهذه العبادة الجليلة .
أجْمِل بالمرء أن يسمو كهذه السماء ؟
أنت تطلب المستحيل ؟
• لم تفهمني بعد !!
إذاً ماذا تقصد ؟
إن الذي رفع هذه السماء تعهّد بأن يرفع الإنسان ؛ إذا سلك أسباب السمو والرفعة ، أليس العلم يرفعه ، والتواضع يعليه ، والخلق الحسن يرتقي به في أعلى الدرجات ، وقراءة كتاب الله تعالى تسكنه أسمى الجنات ؟
بلى وربي إن ما تقوله حق ، وفي ذلك يقول عز وجل : {  يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . } ، ويقول صلى الله عليه وسلم : (ما تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) رواه مسلم .
ويقول كذلك عليه الصلاة والسلام : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، قَالَ الْقَوْمُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ :أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا ) رواه أحمد ،ويقول : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا ) رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وماذا توحي لك هذه الأرض المنبسطة مع صلابتها ، وتلك الجبال الممتدة مع شموخها ؟
إن لسان حالها يصرخ في وجه الإنسان : تواضع فإنك لن تقوى قوتي ، ولن تبلغ طولي ، فاعرف ضعف نفسك ، وقلة حيلتك .
ولقد صدق أحسن الخالقين حين قال : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا } ، والآن ماذا تقرأ في هذه اللوحة التي بدأت تطل من بعيد .
أتقصد أننا اقتربنا من الوصول ؟!
نعم ، وإلا فما معنى هذه المباني ، وتلك الأضواء .
سبحان الله ، لقد هان السير ، وانقضت مدة الطريق ونحن لم نشعر .
أرأيت ، لقد كنت تريد أن تتركني تفترسني وحوش الهموم والغموم في هذه المسافة ، فالحمد لله أن جعلني أشاركك تأملك وتفكرك في آلاء الله تعالى ، غير أني أريد أن تجيب على سؤالي الأخير .
إنها لوحة الفتنة والإغراء ، تلك هي الدنيا ، جمال .. ودعة .. واستقرار .. ولهو .. وزينة .. غير أن ذلك كله متاع قليل لا يساوي عند الله جناح بعوضة ، فطوبى لمن عرف قدرها الزائل ، وعمل لما هو أبقى .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا .
اللهم آمين .
اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، و رب الرياح وما ذرين ، نسألك خير هذه القرية ، وخير أهلها ، وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها ، وشر أهلها ، وشر ما فيها .
اللهم آمين .
 

د.فيصل الحليبي

  • مقالات
  • حوار مع القلوب
  • استشارات أسرية
  • كتب دعوية
  • الخطب المنبرية
  • مختارات صوتية
  • الصفحة الرئيسية