اطبع هذه الصفحة


سلسلة حوار مع القلوب
أقفال القلوب

د. فيصل بن سعود الحليبي

 
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ = 22 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ =23 أَفلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا =24 } .

أتسمح لي يا أخي بالدخول ؟
نعم ، تفضل .

لقد سمعتك تتمتم بكلماتٍ لها جرس في الأذن ، ووقع في النفس ، غير أني لم أدرك فحواها ، ولم أدر معناها ! أقفال .. قلوب .. صمم .. وعمى ، وشيئ من ذلك ، فما الأمر يا صاحبي ؟
الغريب في شأنك اليوم أنك دخلت مشدوهاً ، ثم إنك لم تقرأ عليّ التحية ، وما إن لبثت حتى بدأت تسائلني ، وكأنك تحقق مع متهم !! فهلا بدأت بالسلام ؟

عذراً إليك ، فقد شدني حديثك عن هذه الأقفال العجيبة ، السلام عليكم ورحمة الله .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، إن الحديث الذي استمعت إليه قبل قليل هو من كلام الله تعالى ، فهل أنت متهيئ لفهمه وإدراك المقصود منه .

وإن لم يكن ذاك ، فلم جئت إليك ساعياً هكذا ؟
إن كان الأمر كذلك ، فاسمح لي أن أوجه إليك سؤالاً ؟

تفضل ..
أما ترى أن هناك صلة وثيقة بين هذه الألفاظ التي تبادرت إلى سمعك من تلاوتي ؟

أتقصد الأقفال ، والصمم ، والعمى ؟
نعم ، هي بعينها .

أتصور أن المعنى الذي يجمعها هو تعطيل منفعة عظيمة لسبب ما ، لكن القفل غالباً ما يكون باختيار الإنسان ، أما الصمم والعمى فلا .
هذه خطوة رائعة منك في فهم المراد ، ولكن ماذا عساك فهمت من لفظ القفل والعمى والصمم في الآيات الكريمة ، هل تصورتها أشياء ترى بالعين وتلحظ بالجوارح ؟

لا أخفيك ، لا .
ولم رعاك الله ؟

لأنها اقترنت بأمر لا يرى في العادة ، وهو القلب ، ومع ذلك فهي لم تزل مبهمة في ذهني ،هل أعمى الله أبصارهم فعلاً حتى انعدمت عندهم الرؤيا !؟ وهل أصيبوا بالصمم الذي نعرفه !؟ ثم إني لم أسمع يوماً أن الأطباء اكتشفوا أن للقلب أقفالاً تمنعهم من فتحه وتشريحه !!
نعم حقاً ما تقول ، إن الأطباء من غير المسلمين لم يكتشفوا هذه الأقفال بعد ، مع أن قلوبهم مغلقة بها ، لكن القرآن أشار إليها منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن ، أرأيت يا أخي ماذا يصيب المرء في صدره إذا نابته مصيبة أو حلّت بداره كارثة ؟

إنه يصاب بضيق الصدر ، و ..
يكفي هذا فهو ما أريد ، وهل يضيق صدره حقيقة ؟

الآن فهمت ..
فهمت ماذا يا أخي ؟

أنت تقصد أنها أمور تعتري الإنسان من غير أن يشعر بكنهها ، وقد يشعر بأسبابها ، ويعرف عللها ، أليس هكذا ؟
نعم هو كما قلت ، ولتعلم أنه ليس العمى الحقيقي الذي يمنع الإنسان من بلوغ مراده هو الظلمة التي تمنع فاقدي البصر من رؤية ما حولهم من المخلوقات ، وإنما العمى الحقيقي تلك الظلمات التي تتراكم على شغاف القلوب بسبب البعد عن نور الهداية ..

الهداية إلى ماذا ؟
الهداية إلى طريق الله المستقيم ، الذي هو سبب الفلاح في الدنيا والآخرة .

وما شأن القرآن في الدلالة على هذا الطريق ؟
القرآن يا أخي هو سبيل النور الإلهي الذي يضيء للإنسان ذلك الطريق حتى لا يتركه يتخبط في مهاوي الرذيلة ، وظلمات الغواية ، يقول عز وجل : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا = 9 }

لقد اتضحت معالم جزء من المقصود في فكري ، أتعلم لماذا ؟
لماذا ؟

لأني تذكرت آية أخرى من كتاب الله تعالى تعين على إدراك ما أردت فهمه .
و ما هي هذه الآية حفظك الله .

إنها قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } .
لقد رأينا من الناس من لم يهبهم الله نعمة البصر ، يسيرون على الأرض وكأنهم يبصرون ، وليس هذا فحسب بل إن نفاذ بصيرتهم وقوة ملاحظتهم أصبحت تلفت أنظار الناس وتثير إعجابهم .

وكيف الوصول إلى نقاء البصيرة ، ونفاذ النظر ؟
إن هذا لايكون أبداً إلا بعد فتح تلك الأقفال .

وما هذه الأقفال ، وما مفاتيحها ؟
إن أقفال القلب كثيرة منها : الإعراض عن دين الله عز وجل ، والاستكبار عن عبادته ، والانغماس في معاصيه ، و الغفلة عن مراقبته ، والتهاون بأليم عقابه ، وتعاطي كل ما يغضبه ويسخطه .

لقد صورت لي هذه الأقفال القلب وكأنه بيت خرب قد أغلقه أهله ثم هجروه سنين طويلة ، فسكنته الهوام والداوب واتخذ مكاناً لرمي النفايات والقاذورات .
لقد سبقك إلى هذا التشبيه نبي الأمة ورسولها صلى الله عليه وسلم حينما قال : ( إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ ) .(قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ).

كأنك تريد أن تشير إلى مفتاح هذه الأقفال بعد أن ذكرت جزءاً منها ؟
وهل تستطيع أن تذكر نوع هذا المفتاح العجيب ؟

نعم ، إنه بلا ريب تدبر القرآن الكريم وفهم معانيه وحفظ آياته أو شيء منها ، والعمل بما فيه من أحكام وشرائع .
أحسنت يا أخي ، أما ترى أن البيت المقفل بحيث لا يفتح يزداد خرابه ويقل نفعه ، وليس هذا فقط ، بل لا يمكن أن يخرج خرابه ، وليس للنفع إليه سبيل .

مثل ذلك كمثل الكأس المقلوب لو صببت بحار الدنيا لتُدخل فيه ، ما ولجت منها قطرة واحدة ، وهو مع ذلك ملئ بالفراغ والهواء .
والنفس _ كما تعلم _ إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .

أتدري يا أخي ، مازالت في نفسي حيرة !!
وفيم الحيرة يا صاحبي ؟

لقد عرفت الأقفال ، وعلمت مفاتيحها ، لكن كيف أتيقن أن مغاليق قلبي قد فتحت للخير ، وانشرحت للهداية ؟
إن هناك علامات كثيرة تدل على ذلك ، منها : استغلال مواسم المغفرة في الطاعات ، والمواصلة علي الخير بعد انقضائها ، وازدياد الإيمان عند ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه الكريم ، والخوف من الله عز وجل عند العزم على فعل المعصية ، ورجاؤه بعد فعل الطاعة ، يتقدم ذلك كله الإخلاص في العمل ، واتباع خير البشر صلى الله عليه وسلم فيما تفعل وتذر ، وإلا فبماذا تفسّر تأثير القرآن الكريم على القلوب المشفقة في مثل قوله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ =23 }
سبحان الله !! أين تلك القلوب الغلف التي أغلقتها الشهوات ، من هذه القلوب المخبتة التي أنار دياجير ظلماتها القرآن ؟!
إذا عرفت الآن كم للقرآن الكريم من أثر على قلب الإنسان وحياته ، تدرك ثمن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حينما قال في كلمات أخيرة من حياته : ( تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ ) (رواه مسلم .).

إذاً هو نداء نبوي عظيم إلى هذا المفتاح العجيب الذي به تتلاشى الظلمة ، وتنكشف الغمة اللتان تخيمان على بصيرة الإنسان وعقله بسبب إعراضه عن تدبر كتاب الله العزيز .
نعم إنه نداء عظيم غير أن أكثر الناس عنه غافلون أو معرضون ، { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } .

الله أكبر إلى هذا الحد يصبح حال المعرض عن تدبر كتاب الله أن يكون حاله كحال الموتى ؟ اللهم اشرح صدورنا لتدبر كتابك ، وافتح قلوبنا لفقه سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم .
آمين ، لعلي ألقاك يا عزيزي في وقت آخر ، لكن أرجوك ألا تنسى أن تلقي تحية الإسلام التي نسيتها اليوم .

أرجو ذلك ، إلى اللقاء .
إلى اللقاء .

------------
*
نشرت في مجلة المجتمع ، العدد ( 1330 ) ، شعبان – 3/ رمضان 1419هـ
 

د.فيصل الحليبي

  • مقالات
  • حوار مع القلوب
  • استشارات أسرية
  • كتب دعوية
  • الخطب المنبرية
  • مختارات صوتية
  • الصفحة الرئيسية