اطبع هذه الصفحة


الحصار من عكا إلى غزة
19/4/1429هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله: حادثتانِ وقعتا، وحالتانِ مرتْ بهما الأمةُ الإسلاميةُ، إحداهما معاصرةٌ لنا، بل لا نزالُ كلَ فترةٍ نشاهدُ ونرى فصلاً جديداً من فصولها، أما الأخرى: فقد مضى عليها قُرابةُ (844) عاماً، أي أنها وقعت بين عامي (585) و(587)، أما موقعُ الحادثتينِ كلتيهما فهي البلادُ الطاهرةُ " فلسطينُ " .
أيها المسلمون: الحادثةُ المعاصرةُ هي حصار غزة وتجويع أهلها، وهذه الحادثة لا حاجة لمزيد من الحديثِ عنها، لأن أحدَاثها تُنقلُ لنا في شتى وسائلِ الإعلامِ، ويُتابعُ الناسُ كلَ يومٍ الجديدَ من أنبائِها وأخبارِها، فهي حادثةٌ فريدةٌ من نوعِها في مثلِ هذه الأزمانِ التي يُدَّعى فيها الحريةُ والديمقراطيةُ، وتُراعى فيها حقوقُ الحيوانِ قبلَ الإنسانِ، أما الحادثةُ الأخرى: فسأعرضُها لكم باختصارٍ، لتقارنوا بينَ واقعٍ وواقعٍ، وأمةٍ وأمةٍ، ومواقفٍ ومواقفٍ.
أيها المسلمونَ: احتلَ الصليبيونَ الكثيرَ من الممالكِ الإسلاميةِ في فلسطينَ وشمالِها، وكانَ مما احتلوه بيتُ المقدسِ، فصُعقتِ الأمةُ الإسلاميةُ لهذه الأحداثِ المتواليةِ وهبت لجهادِ الصليبينَ، وقامَ قادةٌ كبارٌ- مثلُ نورِ الدينِ محمود زنكي، وعمادِ الدينِ زنكي، وصلاحِ الدينِ الأيوبي- وغيرِهم بإحياءِ روحِ الجهادِ في الأمةِ الإسلاميةِ، فسارت جحافلُ الجهادِ تقاتلُ الصليبينَ حتى انتصروا عليهم وقضوا على كثيرٍ من ممالكِهم، وقد تُوجَ ذلكَ باستردادِ بيتِ المقدسِ على يدِ صلاحِ الدينِ الأيوبي، فكانَ يوماً مشهوداً، فرحَ به المسلمونَ فرحاً عظيما، وأغتاظَ الصليبيونَ لاستردادِ المسلمينِ بيتَ المقدسِ، ولبسَ رهبانُهم وقساوستُهم السوادَ، وأظهروا الحزنَ على خروجِ بيتِ المقدسِ من أيديِهم، وأخذهم البطريكُ الذي كانَ بالقدسِ وجالَ بهم بلادَ الصليب، يحثونَهم على الانتصارِ لبيتِ المقدسِ، ويحدِثُونَهم عما جرى على أهلِ السواحلِ من القتلِ والسبيِ وخَرابِ الديارِ، وقد صوروا صورةَ المسيحِ وجعلوهُ مع صورةِ عربيٍ يضربُه، وقد جعلوا الدماءَ على صورةِ المسيحِ عليه السلامُ المزعومةِ، وقالوا لهم: هذا المسيحُ يضربُه نبيُ العربِ وقد جرحه فماتَ، فعظمَ ذلكَ على الصليبينَ، فحشروا وحشدوا حتى النساءَ والأطفالَ، ومن لم يستطع الخروجَ استأجرَ من يخرجُ عوضَه، أو يعطيَهم مالاً على قدرِ حالِه، فاجتمعَ لهم من الرجالِ والأموالِ مالا يتطرقُ إليه الإحصاءُ.

أيها المسلمونَ: توجه الصليبيونَ إلى عكا المسلمةِ وكانت على ساحلِ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ وشرعُوا في حصارِها لأنها مدينةٌ حصينةٌ اشُتهِرت بأبراجِها وحصونِها العاليةِ، وهي الطريقُ إلى بيتِ المقدسِ محطَ أنظارِهم وهدفِهم الكبيرِ، ولم يكتفِ الصليبيونَ بمحاصرةِ عكا، فهاجموا مدينةَ صورٍ واتخذوها مركزاً لهم تُشنُ منها الغاراتُ على جيشِ صلاحِ الدينِ لتشغلَه عن نَجدةِ أهلِ عكا المحاصرينَ.

عبادَ اللِه: وأمامَ هذه الجيوشِ الجرارةِ الحاقدةِ بقيت مدينةُ عكا صامدةً وثابتةً، صمدت أمامَ جيوشِ قارةٍ كاملةٍ، جيوشٍ تحملُ أحقادَ حطينَ وسقوطَ القدسِ في يدِ المسلمينَ، جيوشٍ ملأت البرَ والبحرَ فضاقت بها سواحلُ الشامِ، يقولُ ابنُ الأثيرِ رحمه اللهُ تعالى في وصفِ جيشِ الصليبينَ: " قصدوا عكا ومحاصرتَها ومصابرتَها، فساروا إليها بفارِسهم وراجِلهم، وقضِّهم وقضيضِهم، ولزموا البحرَ في مسيرِهم لا يفارقُونه في السهلِ والوعرِ، والضيقِ والسعةِ، ومراكبُهم تسيرُ مقابلَهم في البحرِ، فيها سلاحُهم وذخائرُهم، ولتكونَ عُدةً لهم إن جاءَهم ما لا قِبَلَ لهم به ركِبُوا فيها وعادوا .

أيها المسلمونَ: اشتدَ الحصارُ على عكا وأصبحَ همُ صلاحِ الدينِ الكبيرُ أن يمدَ المحاصرينَ بالمالِ والنفطِ والرجالِ، لأن إمداداتَ الصليبينَ تصلُ إليهم بسهولةٍ ، وإمداداتُ المسلمينَ لا تصلُ إليهم إلا بشقِ الأنفسِ .
أرسلَ ذاتَ يومٍ والي عكا إلى صلاحِ الدينِ أنه لم يبقَ عندَهم من الطعامِ إلا ما يكفي لبضعةَ أيامٍ، فأرسلَ إليهم صلاحُ الدينٍ الأقواتَ واللحومَ وغيرَها في سفينةٍ مغنومةٍ من الصليبينَ، وأمرَ من فيها من البحارةِ أن يتزيوا بزي النصارى حتى إنهم حلَقوا لحاهُم وشدوا الزنانيرَ على أوساطِهم، وعلّقوا الصلبانَ، واستصحبوا معَهم في السفينةِ شيئاً من الخنازيرِ، فلما وصلوا إلى عكا لم يشّكَ النصارى أنها لهم، فلم يتعرضوا لها حتى وصلت إلى ميناءِ عكا، ففرحَ بها المسلمونَ فرحاً شديداً، وانتعشوا وقويت نفُوسهم، وتبلَّغُوا بما فيها، ولما كشفَ الفرنجةُ هذه الحيلةَ وجاءت السفنُ مرةً أخرى ، أحاطوا بها من كلِ جانبٍ، ولما علمَ البحارةُ المسلمونَ أنهم لا شكَ واقعونَ في قبضةِ العدوِ، وفي السفنِ المؤنُ والسلاحُ، قالوا : واللهِ لا نقتلُ إلا عن عزٍ، ولا نسلّمُ إليهم من هذه السفنِ شيئاً ،ً فوقعوا في السفنِ من جوانبِها بالمعاولِ يهدمُونها حتى خرقوا السفنَ فغرِقت بمن فيها، وغرِقوا معها شهداءَ بإذنِ اللهِ تعالى.

عبادَ اللهِ : يقولُ العلامةُ أبو شامةَ المقدسيُّ نقلاً عن القاضي البيسانيِّ رحمهما اللهُ : ومن نوادرِ القتالِ على عكا أن عواماً مسلماً يقالُ له عيسى كانَ يدخلُ البلدَ بالكتبِ والنفقاتِ على وسطه على غِرةٍ من العدوِ، وكانَ يغوصُ ويخرجُ منَ الجانبِ الآخرِ من مراكبِ العدوِ، وذاتَ ليلةٍ شدَّ على وسطه ثلاثةَ أكياسٍ فيها ألفَ دينارٍ وكتباً للعسكرِ، وعامَ في البحرِ فجرى عليه أمرٌ أهلكٌه وأبطأَ خبرُه عنا، وكانت عادُته إذا دخلَ البلدَ طارَ طائرٌ عرَّفنا بوصولِه فأبطأ الطائرُ فاستُشعرَ هلاكُه، فلما كانَ بعدَ أيامٍ بينا الناسُ على طرفِ البحرِ في البلدِ، وإذا البحرُ قد قذفَ إليهم ميتاً غريقاً فوجدوه عيسى العوامَ، ووجدوا على وسطه الذهبَ والكتبَ، وكانَ الذهبُ نفقةً للمجاهدينَ ، فما رُؤي من أدى الأمانةَ في حالِ حياتِه وقدَّرَ اللهُ له أداءَها بعدَ وفاتِه إلا هذا الرجلَ .

أيها المسلمونَ: اصطنعَ الصليبيونَ أبراجاً من خشبٍ وحديدٍ، وألبسوها جلوداً مسقاةً بالخلِ حتى لا تنفذَ فيها النيرانُ، وهي مركبةٌ على عجلاتٍ لكي يديرونَ كلَّ برجٍ متى شاءوا وكيفَ شاءوا، وعلى ظهرِ كلِّ برجٍ منجنيقٌ كبيرٌ، فلما رأى المسلمونَ ذلكَ أهمَّهُم أمرُها، وتقطعت قلوبُهم منها، فلما علمَ صلاحُ الدينِ بذلكَ أعملَ فكرَه في إحراقِها وإهلاكِها، وجمعَ الصناعَ وباحثَهم في الاجتهادِ في إحراقِها ووعدَهم بالأموالِ الطائلةِ والعطايا الجزيلةِ، وكانَ من جملةِ من حضرَ شابٌ نحاسٌ من دمشقَ فذكرَ أن له صناعةً في إحراقِها وأنه إن أمكنه الدخولُ إلى عكا وحصلت له الأدويةُ التي يعرفُها أحرقَها، فحصلَ له جميعُ ما طلبَه ودخلَ إلى عكا وطبخَ تلكَ الأدويةَ مع النفطِ في قدورٍ من نُحاسٍ حتى صارَ الجميعُ كأنَه جمرةٌ من نارٍ ، ثم رمى كلَّ برجٍ منها بقدرٍ من تلكَ القدورِ بالمنجنيقِ من داخلِ عكا، فاحترقت الأبراجُ الثلاثةُ بإذنِ اللهِ عزَ وجلَ حتى صارت ناراً لها في الجوِ ألسنةٌ متصاعدةٌ، فصرخَ المسلمونَ صرخةً واحدةً بالتهليلِ والتكبيرِ ، واحترقت الأبراجُ بمن فيها من الصليبينَ، وكانَ يوماً على الكافرينَ عسيرا، وكانَ الصليبيونَ تعِبوا في بناءِها سبعةَ أشهرٍ، واحترقت في يومٍ واحدٍ " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ".

عبادَ اللهِ : اشتدَ الحصارُ ، وضعفت مقاومةُ المسلمينَ، وجاءت إمداداتٌ كثيرةٌ للنصارى، ففتَ ذلكَ في عَضُدِ المحاصرينَ في عكا، ومما يصورُ تلكَ الحالِ رسالةٌ بعثها صلاحُ الدينِ إلى بعضِ الأطرافِ يستنصرُهم على الأعداءِ وفيها: " وما ينقضي عجبُنا من تضافرِ المشركينَ وقعودِ المسلمينَ، فلا ملبيَ منهم لمنادٍ، فانظروا إلى الفرنجِ، أيَ موردٍ وردوا، وأيَ حشدٍ حشدوا، وأيَ ضالةٍ نشدُوا، وأيةَ نَجدةٍ نجدُوا، وأيةَ أموالٍ غرِموها وأنفقُوها، ولم يبقَ ملكٌ في بلادِهم وجزائِرهم، ولا عظيمٌ ولا كبيرٌ من عظمائِهم وأكابِرهم إلا جارى جارَه مضمارَ الإنجادِ، وبارى نظيرَه في الجدِ والاجتهادِ، واستقلوا في صونِ ملتِهم بذلَ المُهجِ والأرواحِ، وأمدُوا أجناسَهم الأنجاسَ بأنواعِ السلاحِ مع أكفاءِ الكفاحِ، وما فعلوا ما فعلوا، ولا بذلوا ما بذلوا إلا لمجردِ الحميةِ لمتعبَّدهم والنخوةِ لمعتقدِهم، والمسلمونَ بخلافِ ذلكَ قد وهنوا وفشلوا، وغَفَلوا وكسلوا، ولزمِوا الحيرةَ، وعدِموا الغيرةَ، ولو انثنى –والعياذُ باللهِ– للإسلامِ عِنانٌ، أو خبا سناً ونَبا سِنانٌ، لما وُجِدَ في شرقِ الأرضِ وغربِها، وبُعدِ الآفاقِ وقُربِها، من لدينِ اللهِ يغارُ، ومن لنصرةِ الحقِ على الباطلِ يختارُ، وهذا أوانٌ رفضِ التواني، واستدناءِ أولي الحميةِ من الأقاصي والأداني، على أنا بحمدِ اللهِ لنصرِه راجونَ، وله بإخلاصِ السرِ وسرِّ الإخلاصِ مناجونَ، والمشركونَ بإذنِ اللهِ هالكونَ، والمؤمنونَ آمنونَ ناجونَ ..أ.هـ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعنا بما فيه من الآياتِ ...

الخطبة الثانية


أيها المسلمونَ: لما قَرُبَ سقوطُ مدينةِ عكا المحاصرةِ بعدَ الشهورِ الطويلةِ بل بعدَ السنواتِ المتواليةِ من الحصارِ، وأرادَ الصليبيونَ من المسلمينَ الاستسلامَ، أخذَ المسلمونَ يتفاوضونَ مع النصارى في الشروطِ، فكانَ أن كتبَ النصارى إلى صلاحِ الدينِ في الشروطِ ومنها شرطٌ عجيبٌ : حيثُ طلبوا منه حتى يرفعوا حصارَهم عن عكا أن يُسلمَ لهم القدسُ.
فلما سمعَ أهلُ عكا بذلكَ ، كتبوا هذهِ الرسالةَ العاجلةَ إلى صلاحِ الدينِ الأيوبيِّ: " يا مولانا لا تخضع لهؤلاءِ الملاعينِ الذينَ أبوا عليكَ الإجابةَ إلى ما دعوتَهم فينا، فإنا قد بايعنا اللهَ على الجهادِ حتى نقتل عن آخرِنا ، واللهُ المستعانُ، والسلامُ ".
لقد أعلنوها عبادَ اللهِ: لا تُرجع لهم القدسُ من أجلِ أرواحِنا، فقد تبايعنا على الموتِ، والموتُ خيرٌ من الذلِ، ولنكن ثمناً وفداءً للقدسِ والمسجدِ الأقصى والبقاعِ الطاهرةِ.
هذه أيها المسلمونَ قَصصُ تأرِيخنا الإسلاميِّ في أحَداثٍ كِبارٍ مع الصليبينَ، فأين نحنُ اليومَ مما يفعلُه اليهودُ والصليبيةُ المعاصرةُ، وأين نصرتُنا للمحاصرينَ في غزةَ من نصرةِ أولئكَ لإخوانِهم في عكا.

اللهم يا ذا الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العلى قاتلِ الكفرةَ الذينَ يحاربونَ دينَك ويقاتلونَ أوليائَك، اللهم أنزل عليهم رجزكَ وبأسكَ إلهَ الحقِ .
اللهم يا حيُ يا قيومُ ثبت المجاهدينَ في سبيلكَ في جهادِهم، والمرابطينَ في ثغورِهم، وأقرَ أعينَنا وأعينَهم بالنصرِ، واشفِ صدورَنا وصدورَهم من قومٍ كافرينَ.



 

أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية