اطبع هذه الصفحة


وقفات مع الصيف
 28/6/1428هـ
جامــع الإحسان

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
الحمد لله أعز من أطاعه واتقاه ، وأذل من أضاع أمره وعصاه ، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا إله غيره ولا رب لنا سواه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم لقاه ... أما بعد :
فيا عباد الله : لقد جعل سبحانه في هذه الدار الفانية أزماناً وأمكنة وأجساماً تذكر بالدار الباقية ، فما في هذه الدنيا من النعيم فهو يذكر بنعيم الجنة ، وما فيها من الألم يذكر بألم النار . فمما يذكر في الدنيا بنعيم الجنة من الأزمان : زمن الربيع ، فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها ، وكأوقات السحر ، فإن بردها يذكر ببرد الجنة ، ومن الأماكن التي تذكر بالجنة تلك البلدان الباردة وما فيها من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا مما يذكر بنعيم الجنة .
وأما ما يذكر بالنار وحرها وزمهريرها أجارنا الله منها فقد جعل الله تعالى في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه وبما فيها من الآلام والعقوبات ، من أماكن وأزمان واجسام وغير ذلك :
أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر والبرد ، فبردها يذكر بزمهرير جهنم وحرها يذكر في جهنم وسمومها ، و أما الأزمان فشدة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير ، و أما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد حرها ، وقد روي أنها خلقت من النار وتعود إليها أ هـ .
أيها المسلمون : لئن كان قدرنا ونصيبنا أن ننال من الشمس الشيء الكثير، يعد الناس في الصيف عدتهم للهروب منها ومن سمومها ، فإننا لن نعدم فوائد نجتنيها ، ووقفات تأمل واعتبار نجدها في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شيء ، وكل شيء عنده بمقدار.
عباد الله: لقد أخبرنا ربنا أن من صنع أولي الألباب والعقول الوافرة التفكر في خلق الله ، والتأمل في آيات الله الكونية : " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ... الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " .
أيها المسلمون : إن في اشتداد الحر وسخونة الأجواء دليل على ربوبية الله سبحانه وتعالى ، وشاهد على حكمته وحسن تدبيره فهو الذي يقلب الأيام والشهور ، وهو الذي يطوي الأعوام والدهور ، هو الواحد الأحد الفرد الصمد سبحانه وبحمده .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليها ، وفكر في دخول أحدهما على الآخر ، بالتدرج والمهلة حتى يبلغ نهايته ، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات ، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك ، وفي كلام له آخر رحمه الله يقول: ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم ، إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه ... الخ رحمه الله .
أيها المسلمون : من أين يأتينا الحر ؟ وما مصدر هذه الأجواء الساخنة التي نكتوي بها في هذه الأيام ؟.
لعل كثيراً من المسلمين تخفى عليهم هذه الحقيقة التي أخبرنا عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فهو أشد ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير .. قال ابن البر رحمه الله تعالى : وأحسن ما قيل في هذا المعنى ما فسره الحسن البصري رحمه الله قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضها فخفف عني ، قال : فخفف عنها ، وجعل لها كل عام نفسين ، فما كان من برد يهلك شيئاً فهو من زمهريرها ، وما كان من سموم يهلك شيئاً فهو من حرها . ، وقال ابن حجر رحمه الله : النفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف .
عباد الله : إذا كان هذا الحر الشديد الذي يعيقنا عن كثير من الأشياء ، ويهرب منه الناس في شتى الاتجاهات إنما هو نفس أذن لجهنم أن تتنفس به ، فكيف بجهنم نفسها، فكيف بمن يعذب فيها ، وكيف حال من هو خالد فيها ؟ نسأل الله العافية والسلامة .
عباد الله : الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس ويتذمرون منها ، تراهم يهربون من وهجها وحرارتها إلى أماكن الظل والجو العليل ، ونسي أولئك أو تناسوا أن هذه الشمس التي يهربون منها انهم ملاقوها يوم القيامة بأشد وأقرب ما يكون ؟ قال صلى الله عليه وسلم : تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم بمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه .. أخرجه مسلم .
فيا مسلم يا عبد الله : لئن كنت اليوم تتقي الحر ولهيب الشمس بأجهزة التكييف ، والماء البارد ، والسفر إلى المصائف فبأي شيء ستتقي حر جهنم ، وشدة الوقوف ودنو الشمس في عرصات الحساب ؟
تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا
ولست تطيق أهونها عذابا *** ولو كنت الحديد بها لذبتا
ولا تنكر فإن الأمر جد *** وليس كما حسبت ولا ظننتا .
أيها المسلمون : جاء الصيف فعلينا أن نستشعر تلك النعم التي يتقى بها الحر وشدته ، وأن نحمد الله تعالى عليها ، ونشكره على تسخيرها ، وسهولة الحصول عليها .
فبشكر النعم تدوم على أصحابها في الدنيا ، ويبقى شكرها ذخراً لهم في الآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ما انعم الله على عبده نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة وإن عظمت .... أخرجه الطبراني وغيره .
عباد الله : إن مما يعين على دوام النعم وشكرها أن يتذكر المسلم حال من سبقوه من آباء وأجداد ، وليتأمل وليتفكر في معاناتهم ، وشدة حياتهم ، وشظف عيشهم ، مستهم البأساء والضراء ، وربما تغيرت جلودهم ، واسودت وجوههم من لفح السموم وشدة الحر فصبروا وصابروا، فهل نذكر أبناءنا وأجيالنا ما هم فيه من نعمة الآن ، ليرعوها ، ويشكروا الله عليها .
ثم لنتذكر أيضاً حال أولئك المسلمين الفقراء ، المشردين الضعفاء ، الذين يعيشون تحت لهيب الشمس صيفاً ، ويتعرضون لشدة البرد شتاء ، عراة حفاة ،، قد عصفت بهم الحروب من كل حدب وصوب ، أي حر يقاسون ، وأي برد يعانون، وأي جرح يداوون .
ولنتذكر أيضاً حال أولئك المجاورين لنا الذين لبسوا جلباب الحياء ، امسكوا ألسنتهم ، وكفوا أيديهم ،وغضوا أبصارهم حياء وعفة ... يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف .
عباد الله : هل نتذكر بحرارة الجو هذه الأيام مأساة هؤلاء وما نحن فيه من نعمة ، وهل يكفي مجرد التذكير السلبي ، أم لابد من شكر على النعمة بالقلب واللسان ، ولابد أيضا من شكر بالمال ومد يد المساعدة للمحتاجين والمساكين .
يا مسلمون :
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتى *** وكان صحيحاً جسمه وهو في امن
فقد ملك الدنيا جميعا وحازها *** وحق عليه الشكر لله ذي المن
بارك الله لي ولكم ....

الخطبة الثانية :

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتدى .
أما بعد فيا عباد الله : هل الحر عائق لنا عن طاعة الله سبحانه ؟ أم أن الصفوة من عباد الله يرون في الحر غنيمة لا تفوت ؟
هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين حضرته الوفاة لم يتأسف على مال ولا ولد ، ولم يبك على فراق الدنيا ، ولكنه تأسف على قيام الليل ، ومزاحمة العلماء بالركب ، وعلى ضما الهواجر بالصيام في أيام الحر الشديد .
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يوصي أحبابه فيقول : صوموا يوماً شديد حره لحر يوم النشور ، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور .
كانت بعض الصالحات تتوخى أيام الحر الشديد فتصومها ، فيقال لها في ذلك فتقول : إن السلع إذا رخصت اشتراها كل واحد ، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم ، وهذا من علو الهمة لديهم رحمة الله عليهم أجمعين .
يروي أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج في سفر ومعه أصحابه ، فلما وضعوا سفرتهم ، مر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم ، فقال أني صائم ، فقال ابن عمر : في مثل هذا اليوم الشديد حره ، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال الراعي أبادر أيامي هذه الخالية .
عبد الله :
بادر شبابك أن يهرما *** وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات *** فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به *** ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئ قادم *** على بعض ما كان قد قدما

اللهم يا حي يا قيوم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلى صبر ، وإذا أذنب استغفر.
 

أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية