اطبع هذه الصفحة


منح من محنة الدانمارك
24/2/1427هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : مع مرور السنون والأعوام ، وتعاقب الليالي والأيام ، تكثر على المسلمين الفتن ، وتعظم المحن، فيرقق بعضها بعضاً ، ولا تقوم الساعة حتى تتعاقب على المسلمين فتن ممحصة ، وابتلاءات ماحقة ، يمحق الله بها الكافرين ، ويثبت بها المؤمنين .
وهذه الفتن والمحن عباد الله وان كان ظاهرها الشر والأذى، إلا أنها تحمل في طياتها من المنح والعطايا ما تعجز عنه الإفهام حينا ، وتقف مشدوهة أمامه حيناً آخر .
قد ينعم الله بالبلوى وان عظمت * ويبتلي الله بعض الخلق بالنعم
وأصدق من ذلك قول الله سبحانه .. وعسى أن تكرهوا شيئاً [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء:19} ، وقوله صلى الله عليه وسلم : عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك إلا للمؤمن .. أخرجه الإمام مسلم رحمه الله .
عباد الله : إن ما وقع من الاستهزاء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دولة الدنمارك الحاقدة أثار حمية المسلمين لله تعالى ولرسوله ، وأيقظهم من سباتهم ، وبصرهم بأعدائهم ، فهي طعنة آلمتنا لكنها أيقظتنا ، وقد قال الله تعالى في حادثة الافك التي هي صورة من صور أذيته صلى الله عليه وسلم : " [إ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] {النور:11}.
فهذي أمة الإسلام ضجت * وقد تجبى المنى بالنائبات
وقد تشفى الجسوم على الرزايا * ويعلوا الدين من كيد الوشاة
وقد تصحو القلوب إذا استفزت * ولفح الثأر يوقظ من سبات
عباد الله : إن من أولى هذه المنح في طيات محنة الاستهزاء والسخرية بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي تغير نظرة الغرب للمسلمين ، حيث كان الغربيون ينظرون إلى الأمة الإسلامية وكأنها الرجل المريض الذي أصيب بالشلل فمهما ضربته فلن يتأوه ، ولن يكون له رد فعل ، لكن الموازين انقلبت وأثبتت هذه الحادثة الدنيئة أن أمتنا أمة عظيمة وفيها خير كثير ، ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول لكنها إذا استيقظت تحركت كالبركان ، وهذا ما رأيناه من التسابق في المساهمة والبذل وما نسمعه من استنفار الأمة كلها والتحرك في جميع المجالات ، ولقد أثارت هبة المسلمين لنصرة نبيهم وللدفاع عن حبيبهم صلى الله عليه وسلم شجون الباحثين الغربيين لدراسة ظاهرة حب المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم.
عباد الله : لقد كنا ولا زلنا إذا رأينا ما يتمتع به الغرب الكافر من عابرات للقارات ، وأنواع الدبابات وصنوف الصواريخ والمدمرات ، تملك بعضنا اليأس ، وأصابه القنوط للحال الذي وصل إليه المسلمون، يتساءل الواحد منا ونحن معه عن ذلكم السلاح الذي يمكن للعرب والمسلمين أن يؤذوا به عدوهم من غير أن يعلنوا الحرب والمعاداة ، وجاءت هذه المحنة ، وأبى الله إلا أن يظهر للمسلمين ما يغيظوا به عدوهم ألا وهي المقاطعة ، ذلكم السلاح الذي جعل الغرب يستنفر عن بكرة أبيه ، فراحوا يعقدون المؤتمرات ويجرون المحادثات رغبة في إيقاف هذه المقاطعة ، التي خسروا بسببها ما بنوه في سنوات طويلة .
عباد الله: لقد أراد الغرب دوماً ألا ينتج المسلمون سلعهم الأساسية ، وأن يكونوا على الدوام منجذبين إلى البلدان المنتجة التي تتحكم بهم وبقوتهم ، وقد نجحوا إلى حد كبير في ذلك ، غير أنهم لم يفطنوا إلى أن هذا الانجذاب وهذه الأسواق المفتوحة قد يصبح إغلاقها لعارض كهذا كارثة تحل بالدول المنتجة ، ألا فاحمدوا الله عباد الله على أن رزقكم ما تنهكون به عدوكم ، وتزعزعون به اقتصاده ، وقد جعل سبحانه في ما ينتجه أبناء المسلمين فرجاً ومخرجاً ، ففي مقاطعتنا لأولئك المعتدين دعم لإخواننا التجار ، وفيها أيضاً إنهاك لعدونا وإشعار له بان لنا حرية الاختيار إذا كان لهم حرية التعبير .
فلنتجمع يا حماة الدين قاطبة * لنصرة الدين في جد من العمل
وأيسر الأمر أن تلقى بضائعهم * ردت إليهم جزاء المارق الثمل
عباد الله : لقد ساهمت هذه المحنة في إقبال الغرب عموماً ، و الدنماركيين خصوصاً ، على تعلم الإسلام ومعرفة
المسلمين
، ومحاولة التعرف على هذا الرجل الذي ملأ الدنيا بأكملها وشغل الناس .
ففي
الدنمارك مثلاً كل نسخ القرآن الكريم التي كانت متوفرة في المكتبات الدنماركية قد نفدت بسبب الإقبال الكبير من الدنماركيين على اقتناءه وقراءته ، وأضحى الإسلام بعلومه المتنوعة ونبيه الكريم في طريقه لأخذ مكانة خاصة به حسب ما أفاد به أحد المتخصصين في القانون ، وقد أعلن قسم علوم اللاهوت في جامعة كوبنهاجن عن نيته توسيع دائرة اهتماماته ليضم قسم الدراسات الإسلامية مما يساعد في تزويد الأشخاص الراغبين في الإسلام بما يكفيهم من معلومات ومعارف ، أما في خارج الدنمارك فقد أعلن مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية ( كير ) وهو أكبر المنظمات المعنية بالدفاع عن صورة الإسلام والمسلمين لدى وسائل الإعلام الأمريكية ، عن تلقيه أكثر من ( 1600 ) طلب من أمريكيين وكنديين يطلبون الحصول على مواد تعريفية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك خلال 48 ساعة فقط من إطلاق المجلس حملة تعريفية بالرسول صلى الله عليه وسلم .
عباد الله : إن من المنح التي ضمنها المولى سبحانه هذه المحنة والفتنة أن اطلعنا جميعاً على حقيقة بلد الدنمارك وعنصريته وعدوانه للإسلام والمسلمين ، حتى على الذين يعيشون على أرضه بل ويحملون جنسيته ، ففي دراسة أجراها المركز الأوربي لمراقبة العنصرية والعداء للأجانب التابع للإتحاد الأوربي أن الدنمارك تقع في المرتبة الثانية في أوربا الموحدة بعد بلجيكا في عدم التسامح إزاء المهاجرين والأقليات ، أما مناهجهم فهي تقدم صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين مما يعزز الانطباعات السلبية المستقرة في الوعي الجمعي للمواطنين الدنماركيين ، ولا غرابة في ذلك يا عباد الله فهاهي دولة الدنمارك لم تعترف حتى الآن بالدين الإسلامي ، رغم انه الديانة الثانية من حيث عدد السكان ، في حين تعترف تلك الدولة البغيضة بديانة السيخ التي يبلغ عدد المنتسبين لها 170 فردا فقط ، والاعتراف بالديانة رسمياً يحقق لهم أحقية إقامة دور العبادة وبناء المساجد التي تفتقر إليها دولة الدنمارك ويرجع ذلك إلى الموقف المتحفظ للسلطات الدنماركية إزاء السماح بإنشاء دور العبادة للمسلمين .
عباد الله : إخوانكم في الدانمارك يتم التضييق عليهم ودفعهم إلى الرذيلة بصور شتى منها منعهم من تعدد الزوجات وتحديد سن الزواج هناك ببلوغ أربع وعشرين سنة ، والتضييق على المسلمات في ارتداء الحجاب .
عباد الله : حين بدأت المحنة تنادي بعض الكتاب والإعلاميين والصحفيين بعدم المقاطعة وإلى الرفق بذلك البلد وأهله
لأنهم مسالمون ولم يظهر لنا منهم العداوة في السابق ، لكن إخواننا هناك اثبتوا لنا أن عداوتهم للإسلام ليست جديدة بل متأصلة لدى ساستهم وحكومتهم ، فها هو أحد الساسة السياسيين لديهم يدعو إلى طرد المسلمين من الدنمارك وتجميعهم في معسكرات ، ويدعو كذلك إلى بيع فتيات المسلمين في سوق النجاسة مقابل مبالغ مالية تذهب إلى خزينة الدولة ، وهذا سياسي آخر يقول : هناك جوانب معينة من الدين الإسلامي لا يمكنني أن أقبلها ، فمن غير المناسب أن يتم قطع العمل أربع مرات يومياً من أجل الصلاة .
هذه عباد الله بعض عداواتهم وما ظهر على ألسنتهم وما خفي كان أعظم فأين أدعياء التسامح عن ذلك ؟
عباد الله : في حال الرخاء والأمن والاستقرار يظهر أدعياء الوطنية وحماة الدين والفضيلة ، ولكن حين تحين ساعة الشدة وتتوالى الفتن يتضح من بكى ممن تباكى ، وهكذا في هذه المحنة تبين للناس أجمع من هم أخوان محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه حقاً ، ومن هم أعدائه وإتباع أعدائه صدقاً ، فلقد ميزت هذه الفتنة الصفوف وأبرزت أعدائنا الذين من بني جلدتنا ممن يتمسون بأسمائنا ، ويتكلمون بألسنتنا ، وممن اعتدنا ألا نفقدهم في كل حادثة تلم بالأمة الإسلامية ، حيث يثبطون العزائم ويضعضعون القوى ، ويتحدثون بخنوع وخضوع للغرب ، فيتلمسون له العذر وينافحون عنه بما لا ينافح هو عن نفسه ، تعرفهم بسيماهم ذليلة أعناقهم للغرب ، مرفوعة أنوفهم في وجه بني جلدتهم ، سهامهم إلى قلوبنا مسومة ، ورماحهم إلى صدورنا مصوبة ، وفي هذه الأزمة بالتحديد انزعجوا لما لمسوا من أحباب محمد صلى الله عليه وسلم انتصاراً وغيرة لم يألفوها ، فحصرت صدورهم أن يروا المجتمع بأكمله يهب لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه ومقاطعة منتجات تلك الدولة البادئة ، وقد صدق فيهم قول القائل :
أكرار على قوم كماة * وفي وجه الأعادي كالبنات
وإن مس العدو مسيس قرح * رفعتم بيننا صوت النعاة
ومن يرجو بني علمان عوناً * كراج الروح في الجسد الرفات
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني بما فيهما من الآيات والحكمة .

الخطبة الثانية :
عباد الله : أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن انس رضي الله عنه قال : كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران ، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد نصرانياً ، فكان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله ، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا : هذا فعل محمد وأصحابه ، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه ، فحفروا له فاعمقوا ، فأصبح وقد لفظته الأرض ، فقالوا : هذا فعل محمد وأصحابه ، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه ، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا ، فأصبح وقد لفظته الأرض ، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه .
أيها المسلمون: هذا نموذج لانتصار الجمادات للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإليكم نموذجاً آخر في انتصار الحيوانات لنبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم : ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ما مختصره : أن جماعة من النصارى توجهت لحضور حفل تنصر أحد أمراء المغول ، وفي الحفل تكلم أحد القساوسة ، وأخذ ينال من الإسلام ويشتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان هناك كلب مربوط في شجرة فلما بدا هذا الصليبي في سب النبي صلى الله عليه وسلم زمجر الكلب وهاج ثم وثب على الصليبي فخلصوه منه بسرعة ، فتعجب الحاضرون وقال أحدهم : لعل هذا الكلب هاج لأنك شتمت هذا الرجل ، فقال القسيس مستخفاً : بل لعله هاج لما رآني أحرك يدي ظناً منه أني سأضربه ، ثم قال لهم أحكموا وثاقه ففعلوا : ثم عاود كلامه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوثب الكلب من وثاقه وأطلق يعدو حتى أكب على عنق ذلك النصراني فنهشه نهشة شديدة ، فما استطاعوا أن يخلصوه إلا بعد أن فارقت روح ذلك الصليبي جسده فعندها أسلم من المغول نحو أربعين ألفاً لما رأوا غيرة الحيوانات على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فيا عبدالله: ها هي الحيوانات غارت ، والجمادات انتصرت ولم يبق إلا أنت فأخبرني متى تغضب ؟ إذا انتهكت محارمنا ، إذا ديست كرامتنا ، إذا سخرت أراذلنا ولم تغضب فأخبرني متى تغضب ؟ إذا لله للإسلام للقرآن للحرمات لم تغضب فأخبرني متى تغضب ؟ متى التوحيد في جنبيك ينتصر ؟ متى يستل هذا الجبن من جنبيك والخور؟ متى بركانك الغضبي للحرمات ينفجر فلا يبقي ولا يذر ؟
عباد الله : هذه أزمة أمة تحتاج منا لمثابرة وصير وغيرة منظمة ، وحسن إدارة حتى تؤتى أكلها على أكمل وجه بإذن الله ، وحرى بنا أن نسير وفق آراء علمائنا وأولي الحل والعقد فينا في المعلومة والفعل حتى نحقق بعضاً من حق نبينا صلى الله عليه وسلم ، ثم صلوا على خير البرية ورسول البشرية نبينا محمد كما أمركم الله بذلك اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد .



 

أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية