اطبع هذه الصفحة


نعمة الأمطار
6/11/1427هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : إننا نتقلب في هذه الآيام في نعم من الله زاخرة ، وخيرات عامرة ، فسماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر ، وأرضنا تخضر، فتح الله لنا برحمته أبواب السماء ، فعم بخيره الأرض ، وانتفع العباد .
أيها المسلمون: لا يخفى على أحد ما حصل للعباد والبلاد من الضرر بتأخر نزول الغيث في الأعوام الماضية ، فالآبار قد نضبت ، والثمار قد ذبلت ، والمواشي قد هزلت ، ومعها القلوب قد وجفت ، حتى كاد اليأس أن يصيب بعض القوم لما رأوا في مزارعهم وديارهم ، فإذا بالرحيم سبحانه ينزل بعض رحمته ، فتنهمر السماء وترتوي الصحراء ، فلا إله إلا الله ، ما أعظم جوُدَهُ ، ما أكرم عطاءًه ، [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ] {الشُّورى:28} .
عباد الله : إن إنزال الغيث نعمة من أعظم النعم واجلها ، نعمة امتن الله بها على عباده ، وأشاد بها في كتابه، فقال سبحانه : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:21} ، [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:22} ، وإن مما يدل على عظم تلك النعمة ، تلك الأوصاف المتعددة التي وصف الله تعالى بها الغيث في كتابه ، فأحياناً يصف الماء بالبركة ، وأحياناً يصفه بالطهر ، وأحياناً بأنه سبب الحياة ، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة يقول سبحانه: [وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ] {ق:9} ، ويقول سبحانه :[وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا] {الفرقان:48} ، ويقول سبحانه :[وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ] {النحل:65} .
أيها المسلمون: لما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد ، غفلوا عن أشياء كثيرة ، وفاتهم غيث القلوب ، وهو النظر بنظر البصيرة ، والاعتبار إلى هذه الآية العظيمة ، ففي هذا الغيث العديد من مواطن للعبر ، والكثير من آيات للتذكر ولعل من أبرزها أنه دليل باهر ، وبيانٌ قاهر على توحيد الله ، وعظيم أمره وجليل سلطانه ، فلو اجتمع الأنس والجن والملائكة ، وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {يس:82} .
عباد الله : ينشئ المولى سبحانه السحاب فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة ، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدد دون بلد آخر ، وإلى مكان محدد دون مكان آخر ، فينزل المطر بقدر معلوم ، وفي أوقات معلومة بتقدير العزيز العليم ، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : ليس عام أكثر مطراً من عام ، ولكن الله يقسمه كيف يشاء ، فيمطر قوم ، ويحرم آخرون ، وربما كان المطر في البحار والقفار ، وهذا معنى قوله سبحانه : [وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] {الشُّورى:27} ، ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر : (( فيرش السحاب على الأرض رشاً ، ويرسله قطرات منفصلة ، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى ، لا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها ، بل تنزل كل واحدةٌ في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة ، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره ، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة ، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه ، ثم قال رحمه الله : فـتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل ، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني ، في الأرض الفلانية ، بجانب الجبل الفلاني ، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش )) . فتبارك الله أحسن الخالقين ورب العالمين .
أيها المسلمون: ومن الآيات والعبر في نزول الغيث أنه دليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى وإثبات البعث والنشور ، فالذي يحي الأرض بعد موتها بالغيث ، قادر على إحياء الموتى بعد مفارقتهم للحياة ، [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {فصِّلت:39} ، [وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ] {فاطر:9} " .
عباد الله : إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته ، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا ليس بها أنهار ، وأنها تعتمد بعد الله في بعض شؤونها على مياه الآبار التي تغذيها الأمطار ، فعلينا أن نقوم بشكره سبحانه على نعمته ، وأن نستعين بها على طاعته ، فإن من قام بشكر الله زاده الله ، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله ، [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] {إبراهيم:7}  .
أيها المسلمون: إن إنزال المطر ليس بالتأكيد أن يكون دليل رضاً من الله عن خلقه ، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر صباح مساء وعلى مدار العام ، فالمطر قد ينزل إنعاماً ، وقد ينزل استدراجاً ، وقد يكون رحمة ، وقد يكون عذاباً ، ولقد أهلك الله بهذا المطر أقواماً تمردوا على شرعه ، وتنكروا لهديه ، قال سبحانه  كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ، وحملناه على ذات ألواح ودسر* تجري بأعيننا جزاء لمن كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر  .
عباد الله : إن من مظاهر كفران نعمة إنزال الغيث التشبه بأهل الجاهلية في نسبة إنزال الغيث إلى غير الله من الكواكب والأنواء وغيرها من الأسباب ، عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : (( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماءٍ كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب )) رواه مسلم.
أيها المسلمون : ومن كفران النعم أيضاً تسخير هذه النعمة في معصية الله تعالى ، حيث يخرج بعض الناس بعد نزول المطر إلى المتنزهات والصحاري ، مصطحبين منكراتهم ، ومعاصيهم من أنواع اللهو المحرم ، وكثير من أولئك وللأسف يضيعون الصلاة أو يؤخرونها عن وقتها ، وقد يصطحبون معهم أطباق الفضائيات ومختلف الآلات ، وأما إهمال البنين والبنات ، وتبرج النساء وعدم الاحتشام في تلك الرحلات أمر ظاهر لا يخفى ألا فاتقوا الله عباد الله ، وخذوا على أيدي السفهاء ، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، [ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {المائدة:2} ، يقول مجاهد رحمه الله : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر ، تقول : هذا بشؤم معصية بن آدم .
اللهم أجعل ما أنزلته علينا عوناً على طاعتك .
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل .

نعمة الأمطار
الخطبة الثانية
عباد الله : ثبت عن نبيكم صلى الله عليه وسلم سنن قولية ، وسنن فعلية ، كان يأتي إذا نزل المطر ومن ذلك : أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رأى الغيث ( اللهم صيباً نافعاً ) رواه البخاري ، وفي رواية لأبي داود ( اللهم صيباً هنيئاً ) وثبت عنه أيضاً أنه قال : ( مطرنا بفضل الله ورحمته ) رواه البخاري ، أما إذا نزل المطر وخشي منه الضرر فيدعا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام ، والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر ) أخرجه الشيخان .
أيها المسلمون: ومن السنن الفعلية الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم عند الغيث استغلال وقت نزول المطر بالدعاء ، واستحب بعض العلماء رفع اليدين أثناء الدعاء لحديث ، ( ثنتان لا يرد فيهما الدعاء عند النداء ، وعند نزول المطر ) أخرجه الحاكم ، وحسنه الألباني رحمه الله .
وكذلك يستحب كشف بعض البدن حتى يصيبه المطر ، ثبت في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض بدنه ليصيبه المطر ، وقال : ( إنه حديث عهد بربه ) أي حديث عهد بتخليق الله تعالى له ، وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن رأسه حتى يصيبه المطر .
أيها المسلمون : هذه الأمطار ، وتلك الأجواء الباردة تدفعنا أحياناً لجمع الصلوات ، ولبس الخفاف والجوارب ، وهذه الأفعال أفرد لها علماؤنا أبواباً متفرقة في كتبهم ، وحري بكل مسلم فضلاً عن طالب علم ، أن يتفقه في دينه ويتعلم أحكام تلك الأفعال ،حتى يقدم على عبادة ربه على بينة وبصيرة من دينه.
ثم صلوا على السراج المنير .


 

أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية