اطبع هذه الصفحة


وجوب توقير العلماء

د. بدر عبد الحميد هميسه


العلماء هم ورثة الأنبياء ، وهم المؤتمنون على دعوة السماء بعد الرسل الكرام , يعلّمون الجاهل ، ويرشدون الضال ، ويقومون المنحرف المعوج ، وهم أهل الخشية قال الله تعالى : \" إنَّما يخشى الله من عباده العلماء \" [ فاطر:28] .
وأهل التقوى والإخبات إلى رب البريات , قال تعالى : \" إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا \" [ الإسراء :107-109 ] .
يقول الشاعر :

الناس من جهة التـمــثال أكفـاء ****** أبوهمُ آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهـم نسـب ****** يفاخرون به فالطين والــماء
ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ ****** على الهدى لم استهدى أذلاء
وقــدر كل امرأ ما كـان يحسنـه ****** والجاهلون لأهل العلم أعـداء

فمن عادى العلماء فهو معادٍ لله وقد آذنه الله بالحرب. قال صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ». رواه البخاري (11/340-341) من فتح الباري.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: «المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته». فتح الباري 11/342.
وروى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - أنهما قالا: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي . قال الشافعي: ( الفقهاء العاملون ). أي أن المراد : هم العلماء العاملون . الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه 1/55.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من آذى فقيها فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله -عز وجل- النووي : المجموع شرح المهذب 1/42.
والخوض في لحوم العلماء من الغيبة المحرمة شرعاً , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:هَلْ تَدْرُونَ مَا الغيبة ؟ قَالَ : قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ لَهُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ لَهُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ. أخرجه \"أحمد\" 2/230(7146) و\"مسلم\" 6685 و\"التِّرمِذي\" 1934 .
وفي سنن أبي داوود,عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ. رواه أبو داود وقال الألباني صحيح ( صحيح الجامع 5/ 51 ) .
قال الطحاوي رحمه الله تعالى: «ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل». العقيدة الطحاوية ص445.

واحترام علماء الإسلام وتوقيرهم دليل على صحة إيمان الأمة وسلامة إسلامها , فالأمة التي لا تقدر علماءها ولا تجعلهم في أسمى وأعلى مكانة ؛ هي أمة لديها خلل في تفكيرها , وتراجع في قيمها ومبادئها وأخلاقها .

ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في تقدير العلماء وتوقيرهم ومعرفة حقهم , عَنِ الشَّعْبِيِّ ؛ قَالَ : رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ ، فَقَالَ لَهُ : لا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا . فَقَالَ زَيْدٌ : أَرِنِي يَدَكَ . فَأَخْرَجَ يَدَهُ ، فَقَبَّلَهَا زَيْدٌ وَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه ابن سعد في الطبقات (2/360) والذهبي في السير (2/437) وابن الجوزي في صفة الصفوة (1/706) وابن عبد البر : المجالسة وجواهر العلم 4/146والحافظ في الإصابة (4/146) وجود إسنادها الحافظ في الفتح (11/57).
وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ حمدُوْن بنِ رُسْتُمَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى البُخَارِيِّ فَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلْ رجليكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِين، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِيْنَ، وَطبيبَ الحَدِيْثِ فِي عِلَلِهِ.سير أعلام النبلاء 23/425.

قال إسحاق الشهيدي : \" كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده ، فيقف بين يديه علي بن المديني و أحمد بن حنبل و يحيى بن معين وغيرهم ، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد منهم : اجلس ، ولا يجلسون هيبة له وإعظاما \" .
وقال حماد بن زيد قال سمعت أيوب يقول لقد جالست الحسن أربع سنين فما سألته هيبة . حلية الأولياء 3/11.
وعن حرملة قال : سمعت الشافعي يقول ـ وذُكر له أصحاب الحديث ، وأنهم لا يستعملون الأدب ـ فقال : \" ما أعلم أني أخذت شيئًا من الحديث ولا القرآن أو النحو أو غير ذلك من الأشياء ، مما كنت أستفيد ؛ إلا استعملت فيه الأدب ، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة ، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله العلم ، فازددت من ذلك ، حتى ربما كنت أكون في مجلسه ، فأصفِّح الورقة تصفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها \".
وعن الربيع بن سليمان قال : \" والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له \".
وقال الإمام أحمد : \" لزمت هشيمًا أربع سنين ما سألته عن شئ إلا مرتين هيبة له \".
قال عبدوس : \" رآني أبو عبد الله ( يقصد الإمام أحمد ) يومًا وأنا أضحك ، فأنا أستحييه إلى اليوم \".

جاءه سهل بن عبد الله التستري فقيل له: يا أبا داود، هذا سهل بن عبد الله قد جاءك زائراً، قال: فرحب به وأجلسه، فقال: يا أبا داود لي إليك حاجة، وما هي قال: حتى تقول قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج لي لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبله، قال: فأخرج له لسانه فقبله. وفيات الأعيان 2/405 .

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ:كَانَ العَبْدَرِيُّ أَحْفَظَ شَيْخٍ لَقِيْتُهُ، وَكَانَ فَقِيْهاً دَاوودياً، ذكر أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْق فِي حَيَاة أَبِي القَاسِمِ بنِ أَبِي العَلاَءِ، وَسَمِعتُهُ وَقَدْ ذُكِرَ مَالِك، فَقَالَ:جِلْفٌ جَاف، ضَرَبَ هِشَامَ بنَ عَمَّارٍ بِالدُّرَّة، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ(الأَمْوَال)لأَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ - وَقَدْ مرَّ قَوْلٌ لأَبِي عُبَيْدٍ - :مَا كَانَ إِلاَّ حِمَاراً مُغَفَّلاً، لاَ يَعرِفُ الفِقْه.وَقِيْلَ لِي عَنْهُ:إِنَّهُ قَالَ فِي إِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيّ:أَعْوَرُ سوء، فَاجتَمَعْنَا يَوْماً عِنْد ابْن السَّمَرْقَنْدي فِي قِرَاءة كِتَاب(الكَامِل)، فَجَاءَ فِيْهِ:وَقَالَ السَّعْدِيُّ كَذَا، فَقَالَ:يَكْذِبُ ابْنُ عَدِيٍّ، إِنَّمَا ذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيْم الجَوْزَجَانِيّ، فَقُلْتُ لَهُ:فَهُوَ السَّعْدِيّ، فَإِلَى كَمْ نحتمِلُ مِنْكَ سوءَ الأَدَب، تَقُوْلُ فِي إِبْرَاهِيْمَ كَذَا وَكَذَا، وَتَقُوْلُ فِي مَالِكٍ جَاف، وَتَقُوْلُ فِي أَبِي عُبَيْدٍ؟!فَغَضِبَ وَأَخَذته الرِّعدَة، وَقَالَ:كَانَ ابْنُ الخَاضبَة وَالبَرَدَانِي وَغَيْرهُمَا يَخَاف ُونِي، فآلَ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَقُوْلُ فِيَّ هَذَا؟! فَقَالَ لَهُ ابْنُ السَّمَرْقَنْدي:هَذَا بِذَاكَ.فَقُلْتُ:إِنَّمَا نَحْتَرِمُكَ مَا احترمتَ الأَئِمَّة.سير أعلام النبلاء (19/582).

وكان العالم المسلم (الكسائي) يربي ويؤدب ابني خليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد،وهما الأمين والمأمون وبعد انتهاء الدرس في أحد الأيام ، قام الإمام الكسائي فذهب الأمين والمأمون ليقدما نعلي المعلم له ، فاختلفا فيمن يفعل ذلك ، وأخيراً اتفقا على أن يقدم كلاً منهما واحدة ..ورفع الخبر إلى الرشيد ، فاستدعى الكسائي وقال له :من أعز الناس ؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين قال : بلى ،إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين ، حتى يرضى كل منهما أن يقدم له واحدة فظن الكسائي أن ذلك أغضب الخليفة فاعتذر الكسائي ،فقال الرشيد : لو منعتهما لعاتبتك ، فإن ذلك رفع من قدرهما .ابن خلكان : وفيات الأعيان 2/510 .

وجاء هارون الرشيد خليفة ونزل في بيت الإمارة فيطلب مالك, ليأتي بموطئه ليقرأه عليه وعلى الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد , فينظر إليه مالك ويقول: يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي..؛ فجاء هارون وقف على باب مالك واستأذن, فأخبرت الجارية مالك بأن هارون أمير المؤمنين على باب البيت, ذهب واغتسل وارتدى خير ثيابه وتطيب, كل هذا وهارون على الباب, أذن له, فلما دخل قال : ما هذا يا مالك؟ طلبناك فامتنعت علينا, جئناك حبستنا على بابك؛ قال: أفدتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي, أما أني حبستك على الباب فصحيح, لأني حينما أخبرت أنك تأتي ولم أكن أعلم في أي وقت, علمت أنك لا تأتي لمالك, لا لمال ولا لجاه ولا لشيء إلا للعلم, فأردت أن أكون على أحسن هيئة وأنا أدارسك العلم . شرح متن الرحبية للشيخ عطية محمد سالم 13 .

كان الملك الصالح أيوب يتولى الشام ، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.فلما خطب العز بن عبد السلام في جامع بني أمية بدمشق يوم الجمعة كان مما قال : ( اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، يُعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهي فيه عن المنكر ). وأفتي الناس بعدم جواز بيع الأسلحة للنصارى الذين أخذوا يشترونها من دمشق فغضب الملك ، سجن العز بن عبد السلام ، ومنْ قبله سُجن الإمام أحمد ، وكثير من العلماء: { حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } . [سورة العنكبوت ، الآية : 2]. ثم أرسل الملك إلى العز في السجن أحد أعوانه وحاشيته ، فقال له: أنا سأتوسط لك عند الملك ليخرجك ، ولكني أريد منك شيئا واحداً فقط ، وهو أن تعتذر إلي الملك وتقّبل رأسه. فقال العز : دعك عني ،والله لا أرضي أن يقبل السلطان يدي ،عافاني الله مما ابتلاكم به ، يا قوم أنا في واد و أنتم في واد. ذهب الملك لمقابلة قادة النصارى ، فأخذ معه العز بن عبد السلام ، وسجنه في خيمة ، وبينما كان الملك جالساً مع النصارى، إذا بالعز بن عبد السلام يقرأ القرآن ، ويصل صوته إليهم ، فقال الملك : أتدرون من هذا الذي تسمعون ؟قالوا : لا . قال : هذا من أكبر قساوستنا – ولم يقل : علمائنا –أتعلمون لماذا سجنته ؟ قالوا : لا . قال : لأنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح لكم فقال النصارى : والله لو كان هذا قسيسا عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها. فخجل الملك وأطرق ، وأمر بالإفراج عن العز بن عبد السلام.انظر : السبكي : طبقات الشافعية الكبرى 8/224.

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه , اللهم وعلمنا ما ينفعنا , ونفعنا بما علمتنا , وزنا علماً يا كريم , وصلي اللهم وبارك على محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية