اطبع هذه الصفحة


الغيرة بين الزوجين

د. بدر عبد الحميد هميسه


الغيرة طبع مركوز في النفس البشرية منذ أن خلق الله تعالى الإنسان , والعربي بطبيعته من أشد الناس غيرة على عرضه وشرفه , وقديما قال شاعرهم :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * * * حتى يراق على جوانبه الدم

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيَْرَةُ اللهِ أَنْ يأتي الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ. أخرجه أحمد 3/342(و\"البُخاري\" 7/45(5222) و\"مسلم\" 8/101 .
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَِحٍ عَنْهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي ، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ ، وَلاَ شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، وَلاَ شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ.
- وفي رواية : بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةُ يَقُولُ : لَوْ وَجَدْتُ مَعَهَا رَجُلاً لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَِحٍ , قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَاَللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ , وَاَللهُ أَغْيَرُ مِنِّي , وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. أخرجه أحمد 4/248(18351) و\"الدارِمِي\" 2227 و\"البُخَارِي\" 8/215(6846) و\"مسلم\"4/211(3757) .
وعَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أم سَلمَة رضي الله عنهما َ؛ أَنَّ أم سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ. أنها كانَتْ عِنْدَ رَسُولَ اللهِِ صلى الله عليه وسلم وَمَيْمُونَهُ . قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ اقْبَلَ ابْنُ أم مَكْتُوم .ٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ . وَذَالِكَ بَعْدَمَا اُمِرْنَا بِالْحِجَابِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ صلى الله عليه وسلم احْتَجِبَا مِنْهُ ، فَقُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِِ ، أليس هُوَ أعمى لايُبْصرُنَا وَلا يَعْرِفُنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ صلى الله عليه وسلم : افَعَمْيَاوَانِ أنتما ؟ الَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ؟. أخرجه أحمد 6/296 و\"أبو داود\" 4112 و\"التِّرمِذي\" 2778.
وهذه هي السيدة عائشة رضي الله عنها تغار من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن السيدة خديجة رضي الله عنها وكيف كانت نعم الصاحبة له .
والغيرة هي ملح الحياة الزوجية قليله يصلح وكثيره يفسد , وهذه الغيرة كانت مصدر افتخار للعربي حينما نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم مفاخراً :\" إني غيور وأنا فخور وأنا آنف \" .
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربة وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ . فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ، ثم قال : أخ أخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته ، وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى . فجئت الزبير فقلت : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك .فقال : والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه قالت حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني \" .رواه البخاري ج: 5 ص: 2002 ح 4926.
وكتب التراث تحكى لنا قصصاً وطرائف من غيرة العربي على نسائه , روى علقمة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يأكل تفاحة ومعه امرأته فدخل عليه غلام فناولته امرأته تفاحة قد أكلت منها فقام إليها وأوجعها ضرباً .
وحكي عن عقيل بن علقمة أنه كان غيوراً إلى حد أنه كان إذا خرج مسافراً خرج بزوجته ولا يتركها وإذا تركها تركها جائعة عارية , ولما سئل في ذلك قال إنهن إذا جعن لم يمزحن وإذا عرين لم يبرحن .
ووصلت الغيرة برجل مثل عبد الله بن الزبير الحنفي أنه لما تزوج خرج بزوجته بعيداً عن الناس إلى الصحراء وابتنى لها هناك قصراً .
وكان هارون بن عبد الله يقول لأهله : محرم عليك إن نظرت إلى سائل يقف بابك وسمعت حلاوة نغمته , بل إنه كان يطرد الباعة إذا دخلوا مسكنه للنداء على بضائعهم .
وأنشد عبد الملك قول نصيب:

أهيم بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ * * * فواحزنا من ذا بهيمُ بها بعدِي

فقال بعض من حضر، أساءَ القول، أبحزنُ لمن بهيمُ بها بعده؟ فقال عبد الملك: فلو كنت قائلاً ما كنت تقول؟ فقال:

أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ * * * أوكِّلْ بدعدٍ من يهيم بها بعدِي

فقال عبد الملك: أنتَ واللهِ أسوأ قولا، أتوكِّلُ من يهيم بها ثمَّ قال: الجيد:

أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ * * * فلا صلحتْ دعدٌ لذي خلَّةِ بعدِي

فقالوا: أنت واللّه أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين. ابن قتيبة الدينوري : عيون الأخبار 414.
ولقد نظم الشعراء وأبدعوا في الحديث عن الغيرة , قال أبو تمام :

بنفسي من أغار عليه مني * * * وأحسد مقلة نظرت إليه
ولو أن قدرت طمست عنه * * * عيون الناس من حذري عليه
حبيب بث في جسمي هواه * * * وأمسك مهجتي رهناً لديه
فروحي عنده والجسم خال * * * بلا روح وقلبي في يديه

ومن الخطأ أن نفهم أن الغيرة مطلوبة في كل وقت وفي كل حين ولأتفه الأسباب , فإن ذلك مما يكدر الحياة الزوجية ويعكر صفوها , وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يكره الله، فأمَّا ما يحبُّ الله فالغيرة في الريبة وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة). رواه أبو داود والنسائي وابن حبان.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \"إن الله تعالى يغار و إن المؤمن يغار و غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه \".( صحيح ) انظر حديث رقم : 1901 في صحيح الجامع .
وعن على رضي الله عنه قال : الغيرة غيرتان غيرة حسنة جميلة يصلح الرجل بها أهله وغيرة تدخله النار [كنز العمال 8736].
ذكر الشّعبيّ إنّ عبد الله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة؟ فقال: ما فعلت شيئاً. فقالت: لتقرأن قرآناً، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهي امرأةٌ غيراء في يدها شفرةً لا آمن أن تأتي بما قالت. فقلت:

وفينا رسول الله يتلو كتابه * * * إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع
أرانا الهدى، بعد العمى، فقلوبنا * * * به موقناتٌ، أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه، * * * إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت. ابن الجوزي : أخبار النساء 26.
ونزل عاصم بن عمر الخطّاب، رضي الله عنه، خيّمته بقديد. بفناء بيتٍ من بيوت قديد، وهو يريد مكّة معتمراً، فحطّ رحله، وكان رجلاً جسيماً من أعظم النّاس بدناً، وأحسنهم وجهاً. فأرسلت إليه ربّة البيت: يا هذا إنّ لي زوجاً غيوراً يمرّ الإنسان بجانب بيتي فيضربني، وإن رآك في هذا المنزل لقيت منه شرّاً، فأنشدك الله ألا تحوّلت عنّي! فأرسل إليها: إنّي قد نزلت وأنا مرتحلٌ عن قليل وليس عليك من زوجك بي بأس، والتّحويل يشقّ علي. قال فردّت إليه الرّسول حتّى تحوّل عنها. ومرّت به عجوزٌ خارجةٌ من عندها فدعاها وسألها عن المرأة، فقالت: هي خرديّة بن أكتم، وتزوّجها ربيع بن أصرم، ولها بنيٌّ صغيرٌ سمّته باسم أبيها. ثمّ ذهبت العجوز. وقال عاصم بن عمر أبيات شعرٍ. ثمّ دخل زوجها واستقرّ في منزله، فلمّا فرغ من شعره سمعه وهو يضربها فصبر حتّى علم أنّه شفى غيظه ثمّ إنّه أتاه، فصاح به، فخرج، فقال له: بأبي أنت، ما عرضك لي؟ فأخبره خبره وخبرها، فقال: بأبي أنت، لو كنت معي في منزلي ما كان عليّ منك بأس.وقديما قال الشاعر:

ما أَحْسَنَ الغَيْرَةَ في حينِها * * * وأقبح الغَيْرَةَ في كُلِّ حِينْ
مَنْ لم يَزَلْ مُتَّهِماً عِرْسَهُ * * * مُنَاصِباً فيها لِرَيْبِ الظُّنُونْ
أَوْشَكَ أَنْ يُغْرِيهَا بالذي * * * يَخَافُ أَنْ يُبْرِزَها للعُيُونْ
حَسْبُكَ من تَحْصِينِها وَضْعُها * * * منك إِلى عِرْضٍ صَحِيحٍ ودِينْ
لا تَطَّلِعْ مِنْكَ على رِيبَةٍ * * * فيَتْبَعَ المَقْرُونُ حَبْلَ القَرينْ

فالتوسط في مشاعر الغيرة وعدم التجاوز فيها أمر لازم لبقاء الحياة الزوجية هادئة آمنة مستقرة .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية