اطبع هذه الصفحة


وصية الأسبوع
الوصية الثالثة : وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا

د. بدر عبد الحميد هميسه

 
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في \" مكارم الأخلاق \" قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.

حث الإسلام على الإحسان إلى جميع الجيران , وجعل ذلك ودليلاً على صدق الإيمان , ولقد عظَّم الإسلام حق الجار, وأوصى الله تعالى في القرآن الكريم بالإحسان إليه فقال جلّ شأنه : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء:36]. الجار ذي القربى : يعني الجار القريب .
والجار الجنب : يعني الجار البعيد الأجنبي منك .
قال أهل العلم : والجيران ثلاثة :
1ـ جار قريب مسلم ؛ فله حق الجوار ، والقرابة ، والإسلام .
2 ـ وجار مسلم غريب قريب ؛ فله حق الجوار ، والإسلام .
3 ـ وجار كافر ؛ فله حق الجوار ، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً .
فهؤلاء الجيران لهم حقوق : حقوق واجبة ، وحقوق يجب تركها .
وظل جبريل عليه السلام يوصي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظنَّ النبي أن الشرع سيأتي بتوريث الجار, عَنْ مُحَمَّدٍ بن زيد. قال : سمعت ابْنِ عُمَرَ يقول : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.
أَخْرَجَهُ أحمد 2/85(5577) و\"البُخَارِي\" 8/12(6015 و\"مسلم\" 8/37(6780) .
وفي هذه الوصية جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى الجار من علامات الايمان فقال : \" وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا\" وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
أخرجه \"أحمد\" 4/31 (16484) و\"الدارِمِي\" 2036 و\"مسلم\" 1/50 (85) .
بل وصل الأمر إلى درجة جعل فيها الشرع محبة الخير للجيران من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: \"والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه\".( رواه مسلم ).
والذي يحسن إلى جاره هو خير الناس عند الله: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.
أخرجه أحمد 2/167(6566) و\"الدارِمِي\" 2437 و\"البُخَارِي\" في \"الأدب المفرد\" 115 و\"التِّرمِذي\" 1944 .

ولا شك أن الجار له حقوق كثيرة نشير إلى بعضها، فمن أهم هذه الحقوق:

1- رد السلام وإجابة الدعوة:
وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ ، وَيَشْهُدُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ.
- وفي رواية : حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلاَمِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
أخرجه أحمد 2/540(10979) و\"البُخاري\" 1240 و\"مسلم\" 5701 .

2- كف الأذى عنه:
وهو من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير , عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : الْجَارُ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : شَرُّهُ.
أخرجه أحمد 4/31 (16486) و\"البُخاري\" 8/12 (6016) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
أخرجه أحمد 2/372(8842) و\"البُخاري\" في \"الأدب المفرد\" 121 و\"مسلم\" 81 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا ، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ.
- وفي رواية : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ ، وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالُوا : وَفُلانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ ، وَلا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
أخرجه أحمد 2/440(9673) و\"البُخاري\" في \"الأدب المفرد\" 119 .
بل إن من يؤذي جيرانه يستحق لعنة الله قبل لعنة الناس , عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ \" فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ يَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ: \" وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ ؟ \" قَالَ: يَلْعَنُونِي، قَالَ: \" فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ النَّاسِ \"، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعُودُ أَبَدًا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَجَاءَ الَّذِي شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" ارْفَعْ مَتَاعَكَ، فَقَدْ أَمِنْتُ أَوْ كُفِيتَ \"، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَكِيمٍ: \" إِنَّ لَعْنَةَ اللهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ \"
رواه الحاكم في مستدركه 4/183 , وقال الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم.
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك , قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) أخرجه البخاري في تفسير القرآن برقم4477 وأخرجه مسلم في الإيمان برقم 86.
وفي مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)) أخرجه أحمد من حديث المقداد بن الأسود برقم 23342.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الأفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
ذكر صاحب كتاب \"فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب\" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: \"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه\".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:

وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * * * ويحفظ عرسي و الخليل يخون
فيا عجباً للخـل يهتـك حرمتي * * * ويا عجباً للكلب كيف يصـون

3- تحمل أذى الجار:
تحمل أذى الناس وبخاصة الجيران درجة رفيعة من درجات الإيمان قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[المؤمنون:96]. وقال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[الشورى:43].
و لنا في رسول الله أسوة حسنة ، و نعلم قصة اليهودي الذي كانت هديته اليومية لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيسا من القمامة على باب البيت ، فإذا خرج عليه الصلاة و السلام ذات يوم و لم يجد القمامة علم أن جاره المؤذي منعه مانع ، فذهب ليطمئن عليه فإذا هو مريض.
عن مطرِّف يعني ابن عبد الله قال كان يبلغني عن أبي ذر حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءك قال لله أبوك، لقد لقيتني فهات، قلت حديثٌ بلغني أن رسول الله حدثك، قال «إن الله عز وجل يُحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» قال فما إخالني أكذب على رسول الله قال فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل ؟ قال «رجل غزا في سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قُتل، وأنتم تجدونه عندكم مكتوبًا في كتاب الله عز وجل» ثم تلا «يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» الصف ، قلت ومن ؟ قال «رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت.
أخرجه الطيالسى (ص 63 ، رقم 468) ، والطبرانى (2/152 ، رقم 1637) ، والحاكم (2/98 ، رقم 2446) وقال : صحيح على شرط مسلم . والبيهقى (9/160 ، رقم 18282) . صحيح الترغيب والترهيب 2/347.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
وقد ورد عن الحسن – رحمه الله – قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى.
جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود وقال : إن لي جار يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ فقال ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه .
قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه:

يا سائلي عن حسين * * * وقد مضى أشكاله
أقلُّ ما في حسين * * * كفُّ الأذى واحتماله

ولهذا قيل: مروءة الرجل صدق لسانه، واحتمال عثرات جيرانه، وبذل المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه. عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل ص 431.
ويروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان له جار نصراني يؤذيه دائما كان بينه وبين بيته طاقة\"فتحة\"
كان ينزل غائط الرجل النصراني علي الشيخ وكان الشيخ ينظفه كلما وجده وفي يوم كان الشيخ سينتقل لمنزل آخر وذهب للرجل النصراني وقال له إن الجار الجديد قد لا يتحمل وأنه كان ينظف هذا الغائط كل يوم لكن لا يدري هل الجار الجديد يتحمل أم لا ؟ فأسلم الرجل النصراني من حسن جيرة الشيخ.

4- تفقده وقضاء حوائجه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم . رواه الطبراني والبزار وإسناده حسن .
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال لقد أتى علينا زمان أو قال حين وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه.
أَخْرَجَهُ البخاري في (الأدب المفرد) 111 وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (81) حسن لغيره.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا ذر ، إذا طبخت مرقة ؛ فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك )) رواه مسلم 127.
وفي رواية له عن أبي ذر قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني : (( إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ، ثم انظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروفٍ )) 128.
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها و لو فرسن شاةٍ )) متفق عليه (130).
وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: \"إلى أقربهما منكِ بابًا\".

5- ستره وصيانة عرضه:
وإن هذه لمن آكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية، يقول عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها

وأما في الإسلام فيقول أحدهم:

ما ضر جاري إذ أجاوره * * * ألا يكون لبـيـته سـتـر
أعمى إذا ما جارتي خرجت * * * حتى يواري جارتي الخدر

روى الخطيب البغدادي عن عبد الله بن رجاء الدغاني قال: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة اسكاف يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحما فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ... فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم وكان أبو حنيفة يسمع جلبته وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير قال الأمير إيذنوا له واقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ففعل ولم يزل الأمير يوسع له من مجلسه وقال ما حاجتك قال لي جار اسكاف أخذه العسس منذ ليال يأمر الأمير بتخليته فقال نعم وكل من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا فأمر بتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة والاسكافي يمشي وراءه فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال يا فتى أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن حرمة الجوار ورعاية الحق وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان ما . الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 13 /363, أخبار أبي حنيفة وأصحابه : القاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصيمري 51 .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين (وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ولا يطيل معه الكلام ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ويقوم عنه في العزاء ويهنئه في الفرح ويصفح عن زلاته ولا يتطلع إلى عوراته ولا يضايقه في الوضع الجذع على جداره ولا يضيق طريقه إلى الدار ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات الكثيرة.
ولقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.

اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم *** لا تصلح الدار حتى يصلح الجار

نعم والله إن الدار لا تصلح حتى يصلح الجار.
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك: أنه كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:

يلومونني أن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعرفوا جاراً هناك ينغص
فقلت لهـم كفـوا المـلام فإنها *** بجيرانها تغلوا الديار وترخص

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أربع من السعادة وذكر منها الجار الصالح))، ثم قال: ((أربع من الشقاوة: وذكر منها الجار السوء))، رواه ابن حبان في صحيحه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعوذ من جار السوء فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول))، رواه ابن حبان في صحيح.

ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الردى *** ولا مثل جار السوء يكره جانبه

أيها المسلمون: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره))، صححه ابن خزيمة وابن حبان.
قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسن منكم جواراً، فإن قلتم: لا، فبيننا وبينكم قول شاعرهم:

ناري ونار الجار واحدة ***وإليه قبلي تنـزل القـدر
ما ضر جاراً لي أجاوره*** ألا يكـون لبيتـه سـتر
أعمى إذا جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

ويروى أن جاراً لـابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص ؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم. فكان الجار يباع قبل الدار.
وكان من دعاء أحد الصالحين: وأعوذ بك من جار سوء إن رأى مني حسنة كتمها وأخفاها , وإن رأى مني سيئة أذاعها وأفشاها.

6- النصح له :
ديننا الإسلامي هو دين التناصح والتواصي بالحق والبر والصبر , فعن أبي رقية تميم الداري عن النبي \" قال: الدين النصيحة ثلاثًا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم . رواه مسلم (55).
فالنصيحة واجبة لعموم المسلمين، وهي في حق الجار أوجب وآكد، ومع ذلك قلَّ من يحرص عليها ويسديها لجيرانه، مع أنه يوجد من بين الجيران من لا يشهد صلاة الجماعة، وقد يوجد فيهم من يتعاطى المسكرات، وقد يوجد من يدخل آلات الفساد في بيته، وقد يوجد بينهم من يعق والديه، أو يقطع أرحامه، أو يؤذي جيرانه بأنواع من الأذى.
وقد يوجد من بينهم من هو متلبس بكثير من المخالفات الشرعية.
ومع ذلك يندر أن تجد من يُعْنى بالنصيحة، ويقْدُرُها قدرها؛ فيقوم بمناصحة جيرانه بالأسلوب الحكيم المناسب.
ومن هنا تتزايد الشرور، وتترسخ، وتُسْتَمْرأ.
فواجب على الجيران أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يُكَمِّل بعضهم بعضًا، حتى تشيع فيهم المحبة، وتُرْفَعَ عنهم العقوبة.
وعلى المنصوح أن يتقبل النصيحة بقبول حسن، وأن يحسن الظن بمن نصح له، وأن يشكره على حرصه ومبادرته.
بل عليه أن يتلقى من يهدي إليه شيئاً من عيوبه بالبشر والفرح، وأن يضمر له المحبة والمودة؛ فإصلاح النفس لا يتأتى بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها، والعاقل اللبيب يفرح بالنقد الهادف كفرحه بالثناء الصادق.
ورحم الله من قال : رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبي \" .
فعلينا أن نراجع حقوق جيراننا وأن نتذكر دائما وصية النبي صلى الله عليه وسلم : \" وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا\" .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية