اطبع هذه الصفحة


شاعر قتله طموحه

د. بدر عبد الحميد هميسه


شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس , يعد من أهم شعراء العربية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق ؛ أبو الطيب المتنبي (303 - 354 هـ / 915 - 965م هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد بالكوفة ونشأ بالشام. و في نسبه خلاف، إذ قيل هو نفل، و قيل هو ابن سقاء كان يسقي الماء بالكوفة، و قيل أصوله من كندة، و هم ملوك يمنيون، و دس خصومه في نسبه، و قوى الآراء المتناقضة في نسبه أنه لم يشر إلى أبيه في شعره أبداً. و الغالب أن طفولته كان تتميز بالحرمان، و بالتنقل في العراق و الشام حيث كانت الفتن تمور.
وسبب لقبه بالمتنبي قيل إنه ادعى النبوة في بداية شبابه، في بادية السماوة، و لئن كان قد جوزي على ادعائه بالسجن بأمر من والي حمص، إلا أن حادثة تنبؤه تبدو حيلة سياسية ليس إلا، أو تدليساً من الحاكم ضد الثائر الشاب. و يرى أبو العلاء المعري في كتابه معجز أحمد أن المتنبي لُقب بهذا من النَبْوَة، و هي المكان المرتفع من الأرض، كناية عن رفعته في الشعر. لا عن إدعائه النُبُوَة.
و كان المتنبي قد عرف سيف الدولة من قبل، و سمع عن أفضاله الكثير، و كانا في سن متقاربة، فوفد عليه المتنبي، و عرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء، فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا. و أجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة، و قربه إليه فكان من أخلص خلصائه، و كان بينهما مودة و احترام، و تعد سيفياته أصفى شعره. غير أن المتنبي حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه، و تقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه و بين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه و كانوا كثراً في بلاط سيف الدولة. و قيل أن ابن خالويه رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، و طعن في هذه الرواية كثيرون لأسباب متعددة.
بعد تسع سنوات في بلاط سيف الدولة جفاه الأخير، و زادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي، و لأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، و كان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك. انكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي، و غادره المتنبي إلى مصر حزيناً خائباً ليواصل النظر في أطماعه السياسية بعد أن قال في حضرته قصيدته الشهيرة:

وَاحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلْبُهُ شَبِمُ * * * ومَن بِجِسمي وَحالي عِنْدَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قد بَرَى جَسَدي* * * وتَدَّعِي حُبَّ سَيفِ الدَولةِ الأُمَمُ
إِنْ كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ* * * فَلَيتَ أَنَّا بِقَدْرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
قد زُرتُه وسُيُوفُ الهِندِ مُغمَدة* * * وقد نَظَرتُ إليهِ والسُيُوفُ دَمُ
وَكانَ أَحسَنَ خَلقِ الله كُلِّهِمِ * * * وكانَ أَحْسَنَ ما في الأَحسَنِ الشِيَمُ
فَوتُ العَدُوِّ الِّذي يَمَّمْتَهُ ظَفَر * * * في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شَدِيدُ الخَوفِ واصطَنَعَت * * * لَكَ المَهابةُ ما لا تَصْنعُ البُهَمُ
أَلزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً لَيسَ يَلْزَمُها * * * أَنْ لا يُوارِيَهُم أرضٌ ولا عَلَمُ
أَكلما رُمتَ جَيشاً فانثَنَى هَرَباً * * * تَصَرَّفَتْ بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ
علَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعْتَرَكٍ * * * وما عَلَيكَ بِهِمْ عارٌ إِذا انهَزَموا
أَما تَرَى ظَفَراً حُلواً سِوَى ظَفَرٍ * * * تَصافَحَت ْفيهِ بيضُ الهِنْدِ والِلمَمُ
يا أَعدَلَ الناسِ إِلاَّ في مُعامَلَتي * * * فيكَ الخِصامُ وأَنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً * * * أَنْ تَحْسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظرِهِ * * * إِذا استَوَتْ عِندَهُ الأَنوارُ والظُلَمُ
سَيَعْلَمُ الجَمْعُ مِمَّن ضَمَّ مَجْلِسُنا * * * بِأنَّني خَيْرُ مَن تَسْعَى بِهِ قدَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمَى إلى أَدَبي * * * وأَسمَعَتْ كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
أَنامُ مِلءَ جُفُوفي عن شَوارِدِها * * * ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَختَصِمُ
وَجَاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكِي * * * حَتَّى أَتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسةٌ وفَمُ
إِذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً * * * فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ
ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحِبِها * * * أَدرَكْتُها بِجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ
رِجلاهُ في الرَكضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ * * * وفِعْلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ والقَدَمُ
ومُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحْفَلَينِ بِهِ * * * حتَّى ضَرَبْتُ ومَوجُ المَوتِ يَلْتَطِمُ
الخَيْلُ واللّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني * * * والسَيفُ والرُمْحُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنْفَرِداً * * * حتَّى تَعَجَّبَ منَّي القُورُ والأَكَمُ
يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أن نُفارِقَهم * * * وَجداننا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُمْ عَدَمُ
ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرِمة * * * لَو أَن أَمرَكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ
إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا * * * فَما لِجُرْحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ
وبَينَنا لَو رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفةٌ * * * إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهَى ذِمَمُ
كَم تَطلُبُونَ لَنا عَيباً فيُعجِزُكم * * * ويَكرَهُ الله ما تأْتُونَ والكَرَمُ
ما أَبعَدَ العَيْبَ والنُقصانَ من شَرَفي * * * أَنا الثُرَيَّا وَذانِ الشَيبُ والهَرَمُ
لَيتَ الغَمامَ الذي عِندِي صَواعِقُهُ * * * يُزِيلُهُنَّ إلى مَن عِندَه الدِيَمُ
أَرَى النَوَى يَقْتَضِيني كُلَّ مَرْحَلةٍ * * * لا تَستَقِلُّ بِها الوَخَّادةُ الرُسُمُ
لَئِن تَرَكْنَ ضُمَيراً عن مَيامِنِنا * * * لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعْتُهُمْ نَدَمُ
إذا تَرَحَّلْتَ عن قَومٍ وقد قَدَروا * * * أَن لا تُفارِقَهم فالراحِلُونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بهِ * * * وشَرُّ ما يَكْسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ
وشَرُّ ما قَنَصَتْهُ راحَتي قَنَصٌ * * * شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَخَمُ
بأَيَّ لَفْظٍ تَقُولُ الشِعْرَ زِعْنِفةٌ * * * تجُوزْ عِندَكَ لا عُرْبٌ وِلا عَجَمُ
هذا عِتابكَ إِلاَّ أَنَّهُ مِقَةٌ * * * قد ضُمِّنَ الدُرَّ إِلاَّ أَنَّهُ كَلِمُ

فهذه هي القصيدة التي مدح فيها نفسه و سيف الدولة، و اعتذر إليه، و عاتبه قبل أن يغادره إلى مصر.
والشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي، و كان مبعث ذهاب المتنبي إليه على كرهه له لأنه عبد طمعه في ولاية يوليها إياه. و لم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً، بل بطنه بالهجاء و الحنين إلى سيف الدولة الحمداني، فكان مطلع أول قصيدته مدح بها كافور:

كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا *** وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى *** صَديقًا فَأَعيا أَو عَدُوًّا مُداجِيا
إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ *** فَلا تَستَعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانِيا
وَلا تَستَطيلَنَّ الرِماحَ لِغارَةٍ *** وَلا تَستَجيدَنَّ العِتاقَ المَذاكِيا
فَما يَنفَعُ الأُسدَ الحَياءُ مِنَ الطَوى *** وَلا تُتَّقى حَتّى تَكونَ ضَوارِيا
حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى *** وَقَد كانَ غَدّارًا فَكُن أَنتَ وافِيا
وَأَعلَمُ أَنَّ البَينَ يُشكيكَ بَعدَهُ *** فَلَستَ فُؤادي إِن رَأَيتُكَ شاكِيا
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها *** إِذا كُنَّ إِثرَ الغادِرينَ جَوارِيا
إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصًا مِنَ الأَذى *** فَلا الحَمدُ مَكسوبًا وَلا المالُ باقِيا
وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى *** أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا
أَقِلَّ اِشتِياقًا أَيُّها القَلبُ رُبَّما *** رَأَيتُكَ تُصفي الوُدَّ مَن لَيسَ جازِيا
خُلِقتُ أَلوفًا لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا *** لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا
وَلَكِنَّ بِالفُسطاطِ بَحراً أَزَرتُهُ *** حَياتي وَنُصحي وَالهَوى وَالقَوافِيا
وَجُردًا مَدَدنا بَينَ آذانِها القَنا *** فَبِتنَ خِفافًا يَتَّبِعنَ العَوالِيا
تَماشى بِأَيدٍ كُلَّما وافَتِ الصَفا *** نَقَشنَ بِهِ صَدرَ البُزاةِ حَوافِيا
وَينظُرْنَ مِن سودٍ صَوادِقَ في الدُجى *** يَرَينَ بَعيداتِ الشُخوصِ كَما هِيَا
وَتَنصِبُ لِلجَرسِ الخَفيِّ سَوامِعًا *** يَخَلنَ مُناجاةَ الضَميرِ تَنادِيا
تُجاذِبُ فُرسانَ الصَباحِ أَعِنَّةً *** كَأَنَّ عَلى الأَعناقِ مِنها أَفاعِيا
بِعَزمٍ يَسيرُ الجِسمُ في السَرجِ راكِبًا *** بِهِ وَيَسيرُ القَلبُ في الجِسمِ ماشِيا
قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ *** وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا
فَجاءَت بِنا إِنسانَ عَينِ زَمانِهِ *** وَخَلَّت بَياضًا خَلفَها وَمَآقِيا
نَجوزَ عَلَيها المُحسِنينَ إِلى الَّذي *** نَرى عِندَهُمْ إِحسانَهُ وَالأَيادِيا
فَتىً ما سَرَينا في ظُهورِ جُدودِنا *** إِلى عَصرِهِ إِلاَّ نُرَجّي التَلاقِيا
تَرَفَّعَ عَن عَونِ المَكارِمِ قَدرُهُ *** فَما يَفعَلُ الفَعْلاتِ إِلا عَذارِيا
يُبيدُ عَداواتِ البُغاةِ بِلُطفِهِ *** فَإِن لَم تَبِدْ مِنهُمْ أَبادَ الأَعادِيا
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الَّذي كُنتُ تائِقًا *** إِلَيهِ وَذا الوَقتُ الَّذي كُنتُ راجِيا
لَقيتُ المَرَورى وَالشَناخيبَ دونَهُ *** وَجُبتُ هَجيرًا يَترُكُ الماءَ صادِيا
أَبا كُلِّ طيبٍ لا أَبا المِسكِ وَحدَهُ *** وَكُلَّ سَحابٍ لا أَخَصُّ الغَوادِيا
يَدِلُّ بِمَعنًى واحِدٍ كُلَّ فاخِرٍ *** وَقَد جَمَعَ الرَحمَنُ فيكَ المَعانِيا
إِذا كَسَبَ الناسُ المَعالِيَ بِالنَدى *** فَإِنَّكَ تُعطي في نَداكَ المَعالِيا
وَغَيرُ كَثيرٍ أَن يَزورَكَ راجِلٌ *** فَيَرجِعَ مَلْكًا لِلعِراقَينِ والِيا
فَقَد تَهَبَ الجَيشَ الَّذي جاءَ غازِيًا *** لِسائِلِكَ الفَردِ الَّذي جاءَ عافِيا
وَتَحتَقِرُ الدُنيا اِحتِقارَ مُجَرِّبٍ *** يَرى كُلَّ ما فيها وَحاشاكَ فانِيا
وَما كُنتَ مِمَّن أَدرَكَ المُلكَ بِالمُنى *** وَلَكِن بِأَيّامٍ أَشَبنَ النَواصِيا
عِداكَ تَراها في البِلادِ مَساعِيًا *** وَأَنتَ تَراها في السَماءِ مَراقِيا
لَبِستَ لَها كُدْرَ العَجاجِ كَأَنَّما *** تَرى غَيرَ صافٍ أَن تَرى الجَوَّ صافِيا
وَقُدتَ إِلَيها كُلَّ أَجرَدَ سابِحٍ *** يُؤَدِّيكَ غَضبانًا وَيَثنِكَ راضِيا
وَمُختَرَطٍ ماضٍ يُطيعُكَ آمِرًا *** وَيَعصي إِذا اِستَثنَيتَ لَو كُنتَ ناهِيا
وَأَسمَرَ ذي عِشرينَ تَرضاهُ وارِدًا *** وَيَرضاكَ في إيرادِهِ الخَيلَ ساقِيا
كَتائِبَ ما انفَكَّت تَجوسُ عَمائِرًا *** مِنَ الأَرضِ قَد جاسَت إِلَيها فَيافِيا
غَزَوتَ بِها دورَ المُلوكِ فَباشَرَتْ *** سَنابِكُها هاماتِهِمْ وَالمَغانِيا
وَأَنتَ الَّذي تَغشى الأَسِنَّةَ أَوَّلاً *** وَتَأنَفُ أَن تَغشى الأَسِنَّةَ ثانِيا
إِذا الهِندُ سَوَّت بَينَ سَيفَي كَريهَةٍ *** فَسَيفُكَ في كَفٍّ تُزيلُ التَساوِيا
وَمِن قَولِ سامٍ لَو رَآكَ لِنَسلِهِ *** فِدَى اِبنِ أَخي نَسلِي وَنَفسي وَمالِيا
مَدًى بَلَّغَ الأُستاذَ أَقصاهُ رَبُّهُ *** وَنَفسٌ لَهُ لَم تَرضَ إِلاَّ التَناهِيا
دَعَتهُ فَلَبّاها إِلى المَجدِ وَالعُلا *** وَقَد خالَفَ الناسُ النُفوسَ الدَواعِيا
فَأَصبَحَ فَوقَ العالَمينَ يَرَونَهُ *** وَإِن كانَ يُدنيهِ التَكَرُّمُ نائِيا

و كان كافور حذراً، داهية، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده، فهجاهم المتنبي، و هجا كافور و مصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور: لا تأخذ العبد إلا والعصاة معه إن العبيد لأنجاس مناكيد و استقر في عزم المتنبي أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، و قال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور و حاشيته، و التي كان مطلعها:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ * * * بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ* * *فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا* * *وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ
وَكَانَ أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً* * *أشْبَاهُ رَوْنَقِهِ الغِيدُ الأمَاليدُ
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي* * *شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما* * *أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ؟
أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني* * *هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ
إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّوْنِ صَافِيَةً* * *وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ
ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ* * *أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِناً وَيَداً* * *أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيدُ
إنّي نَزَلْتُ بكَذّابِينَ، ضَيْفُهُمُ* * *عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُ
جودُ الرّجالِ من الأيدي وَجُودُهُمُ* * *منَ اللّسانِ، فَلا كانوا وَلا الجُودُ
ما يَقبضُ المَوْتُ نَفساً من نفوسِهِمُ* * *إلاّ وَفي يَدِهِ مِنْ نَتْنِهَا عُودُ
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ* * *أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
صَارَ الخَصِيّ إمَامَ الآبِقِينَ بِهَا* * *فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ
نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها* * *فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ
العَبْدُ لَيْسَ لِحُرٍّ صَالِحٍ بأخٍ* * *لَوْ أنّهُ في ثِيَابِ الحُرّ مَوْلُودُ
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ* * *إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ
ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ* * *يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
ولا تَوَهّمْتُ أنّ النّاسَ قَدْ فُقِدوا* * *وَأنّ مِثْلَ أبي البَيْضاءِ مَوْجودُ
وَأنّ ذا الأسْوَدَ المَثْقُوبَ مَشْفَرُهُ* * *تُطيعُهُ ذي العَضَاريطُ الرّعاديد
جَوْعانُ يأكُلُ مِنْ زادي وَيُمسِكني* * *لكَيْ يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقْصُودُ
وَيْلُمِّهَا خُطّةً وَيْلُمِّ قَابِلِهَا* * *لِمِثْلِها خُلِقَ المَهْرِيّةُ القُودُ
وَعِنْدَها لَذّ طَعْمَ المَوْتِ شَارِبُهُ* * *إنّ المَنِيّةَ عِنْدَ الذّلّ قِنْديدُ
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً* * *أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ
أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النّخّاسِ دامِيَةً* * *أمْ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ
أوْلى اللّئَامِ كُوَيْفِيرٌ بمَعْذِرَةٍ* * *في كلّ لُؤمٍ، وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجِزَةٌ* * *عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيةُ السّودُ؟

ثم قصد عضد الدولة بفارس، ومدحه بمدائح جياد، ثم قفل عائداً إلى بغداد، وقد حمل معه كل ما جمعه من صلات ممدحيه، ولم يكن يرافقه إلا ابنه محسَّد وغلامه، ولم يشأ الاستعانة برجال يحمونه من غارات اللصوص، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه كثير من أعوانه.
وكان المتنبي قد هجاه بقوله :

ما أنصفَ القومُ ضُبَّهْ * * * وأمّه الطُّرطُبّهْ
رموا برأسِ أبيه * * * وناكوا الأمَّ غُلُبّهْ
فلا بمن مات فخرٌ * * * ولا بمن نيك رغْبَه
وإنما قلتُ ما قل * * * ... تُ رحمَةً لا محبَّهْ
ما كنت إلا ذُباباً * * * نفتكَ عنّا مِذبّه
وكنت تنخَر تيهاً * * * فصرتَ تضرِط رهْبَه
وإنْ بعُدنا قليلاً * * * حملْت رُمحاً وحرْبَه

وقد همّ المتنبي بالفرار ـ فيما يذكره أحد الأخبار حين رأى الغلبة لمهاجميه، فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:

فالخيل والليل والبيداء تعرفني* * * والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فقال له المتنبي: قتلتني قتلك الله. وعاد فقاتل حتى قُتل. ولا ندري من سمع خبر هذا الحوار بين المتنبي وغلامه وقد قُتل وقتل ابنه معهما، ففي الخبر ما يدعو إلى الشك في صحته.
ولأبي الطيب المتنبي مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية ، فقد كان نادرة زمانه ، وأعجوبة عصره ، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء ،يجدون فيه القوة ، والتدفق ، والشاعرية المرتكزة على الحس والتجربة الصادقة.
ولقد كان المتنبي شاعرا من شعراء المعاني وفق بين الشعر والحكمة، وجعل أكثر عنايته بالمعنى يسكبه في بيت واحد مهما اتسع ويصوغه بأبدع الصياغة التي تأخذ بالألباب. أطلق الشعر من قيوده التي قيده بها أبو تمام وخرج عن أساليب العرب المخصوصة، فهو إمام الطريقة الإبداعية في الشعر العربي.
شعر المتنبي صورة صادقة لعصره ، وحياته ، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات ، واضطرابات ، ويدلك على ما كان به من مذاهب ، وآراء ، ونضج العلم والفلسفة .ويمثل شعره حياته المضطربة : ففيه يتجلى طموحه وعلمه ، وعقله وشجاعته ، وسخطه ورضاه ، وحرصه على المال ، كما تتجلى القوة في معانيه ، وأخيلته ، وألفاظه ، وعباراته .
وترى فيه شخصية واضحة ، حتى لتكاد تتبينها في كل بيت ، وفي كل لحظة ، بل هي تُضفي طابعاً خاصاً يميز شعره عن غيره . فبناءُ القصيدة بناء محكم منطقي متسلسل ، وهو يتناول موضوعه مباشرة أن يقدم له بحكم تناسبه ، وقد ظهرت قصائده الموحَّدة الموضوع ، أو المتماسكة الموضوعات في كهولته ، حين كان في صحبة سيف الدولة ، وكافور ، وأما قصائده الأخرى فيسير فيها على نمط الشعر القديم ، ويمزج فيها بين فنون وأغراض مختلفة .
والمعاني تمتاز بقوتها وفخامتها ، وسموها غالباً ، وكثيراً ما يركزها في صورة حقائق عامة ، ويصوغها في قوالب حكمة بارعة . وتختلف الأخيلة في شعره تبعاً لمراحل حياته ، ويمتاز خياله بالقوة والخصب : وألفاظه جزلة ، وعباراته رصينة ، تلائم قوة روحه ، وقوة معانيه ، وخصب أخيلته ، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة\'
يقول عنه أبو العلاء المعري إنه أشعر المحدثين. ضمن شعره كثيرا من الأمثال والحكم، واختص بالإبداع في وصف القتال والتشبيب بالأعرابيات، وأجاد التشبيه وإرسال المثلين في البيت الواحد، وأبدع المديح والهجاء، وظل شعره مددا في كل عصر لكل شاعر وكاتب، وما يزال المتنبي يحتفظ بمجده وشهرته إلى يومنا، لا يدانيه أحد من الشعراء. ونحن نورد من روائع أقواله وأمثاله بعضا مما جاء في شعره: ففي صرعى الحب يقول :

لا تعــذل المشــتاق فــي أشـواقه *** حــتى يكـون حشـاك فـي أحشـائه
إن القتيـــل مضرجــا بدموعــه *** مثــل القتيــل مضرجــا بدمائـه

ويقول فيما عاناه من نوائب الزمان:

لـم يـترك الدهـر فـي قلبي ولا كبدي *** شــيئا تتيمــه عيــن ولا جــيد
يــا سـاقيي أخـمر فـي كئوسـكما*** أم فــي كئوســكما هــم وتسـهيد
أصخــرة أنــا مـا لـي لا تتيمنـي *** هــذي المــدام ولا تلـك الأغـاريد
إذا أردت كــميت اللــون صافيــة *** وجدتهــا وحــبيب النفس مفقــود

وفي العفة مع الحبيب يقول:

وأشــنب معسـول الثنيـات واضـح *** ســترت فمـي عنـه فقبـل مفـرقي
وأجيــاد غــزلان كجـيدك زرننـي *** فلــم أتبيــن عـاطلا مـن مطـوق
ومـا كـل مـن يهـوى يعف إذا خلا *** عفـافي ويـرضي الحب والخيل تلتقي

وفي وداع الأحبة يقول:

ولــم أر كالألحــاظ يـوم رحـيلهم *** بعثـن بكـل القتـل مـن كـل مشفق
أدرن عيونـــا حــائرات كأنهــا*** مركبــة أحداقهــا فــوق زئــبق
عشــية يغدونـا عـن النظـر البكـا*** وعـن لـذة التـوديع خـوف التفـرق

وفي آلام الحب والهوى يقول:

أرق عـــلى أرق ومثــلي يــأرق *** وجــوى يزيــد وعــبرة تـترقرق
جـهد الصبابـة أن تكـون كمـا أرى *** عيــن مســهدة وقلــب يخــفق
مــا لاح بــرق أو تــرنم طـائر *** إلا انثنيــت ولــي فــؤاد شــيق
جـربت مـن نـار الهـوى ما تنتطفي *** نــار الغضـى وتكـل عمـا تحـرق
وعــذلت أهـل العشـق حـتى ذقتـه *** فعجـبت كـيف يمـوت مـن لا يعشق
وعــذرتهم وعــرفت ذنبـي أننـي *** عــيرتهم فلقيــت فيـه مـا لقـوا.

وفي مفارقة الأحباب يقول:

لـولا مفارقـة الأحبـاب مـا وجـدت *** لهــا المنايــا إلـى أرواحنـا سـبلا

وفي نوائب الأيام يقول:

عــرفت نــوائب الحدثــان حـتى *** لــو انتســبت لكــنت لهـا نقيبـا

وفي التبرم بالحياة وتمني الموت لندرة الصديق يقول:

كـفى بـك داء أن تـرى الموت شافيا *** وحســب المنايــا أن يكـن أمانيـا
تمنيتهـــا لمـــا تمنيــت أن أرى *** صديقــا فأعيــا أو عـدوا مداجيـا

وفي الفخر بنفسه يقول:

ومــا أنــا إلا ســمهري حملتــه *** فــزين معروضــا وراع مســددا
ومـا الدهـر إلا مـن رواة قصـائدي *** إذا قلـت شـعرا أصبـح الدهـر منشدا
فســار بـه مـن لا يسـير مشـمرا *** وغنــى بـه مـن لا يغنـي مغـردا

وفي ذلك يقول:

لا بقـومي شـرفت بـل شـرفوا بـي *** وبنفســـي فخــرت لا بجــدودي
وبهــم فخــر مـن نطـق الضـاد *** وعــوذ الجــاني وغـوث الطريـد
إن أكــن معجبــا فعجـب عجـيب *** لــم يجـد فـوق نفسـه مـن مزيـد

وفي علو الهمة وتمجيد الكرامة:

أعطـى الزمـان فمـا قبلـت عطـاءه *** وأراد لـــي فــأردت أن أتخــيرا

وفي حال الدنيا يقول:

وقــد فـارق النـاس الأحبـة قبلنـا *** وأعيــا دواء المــوت كـل طبيـب
سـبقنا إلـى الدنيـا فلـو عـاش أهلها*** منعنــا بهــا مـن جيئـة وذهـوب
تملكهــا الآتــي تملــك ســالب *** وفارقهــا المــاضي فـراق سـليب

فالمتنبي يعد - بحق - من فحول شعراء العربية ومن أمراءهم وأكابرهم , إن لم يكن أكبرهم وأهمهم على الإطلاق .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية