اطبع هذه الصفحة


الشعراء الظرفاء

د. بدر عبد الحميد هميسه


إن الإسلام هو دين الفطرة , ولا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلي الضحك والانبساط بل هو علي العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلي الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ؟ (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد \"9/17\").
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس في. (كنز العمال برقم 18400) .
وقد رأيناه في بيته -صلي الله عليه وسلم- يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلي أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: \"يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز\" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام علي ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37) والحديث أخرجه الترمذي في \"الشمائل\"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي،وغيرهم، وحسنه الألباني في \"غاية المرام\").
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ , قَالَ : وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْر ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْر : فَوَاللهِ ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْر ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَ ا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ ، نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ ، وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً ، وَسَاعَةً ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. أخرجه أحمد 4/178(17753) و\"مسلم\" 8/94(7066) و\"ابن ماجة\" 4239
والتِّرْمِذِيّ\" 2514 .
عن أنس مرفوعاً: ( روحوا القلوب ساعة بساعة ) انظر حديث رقم : 3140 في ضعيف الجامع .
و قد روي عن علي كرم الله وجهه قال : ( احموا هذه القلوب و التمسوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان و النفس مؤثرة للهوى آخذة بالهوينا جانحة إلى اللهو طالبة للراحة فإن أكرهتها تفنيها و إن أهملتها أرديتها ) .
و لعل في القليل من المزاح البريء و الضحك اللطيف و الفكاهة التي لا تخدش و لا تؤذي جلاء للعقل كما يقول أبو فراس الحمداني :

أروح القلب ببعض الهزل * * * تجاهلا مني بغير جهل
أفرح فيه فرح أهل الفضل * * * و المزاح أحيانا جلاء العقل

و في كتب الأدب العربي قديمها و حديثها طائفة لا تنفد من أخبارهم الضاحكة و نوادرهم و طرائفهم و كلها براهين قاطعة و أدلة واضحة على مبلغ تعلق العرب بالضحك و النادرة و حب الترويح عن النفس , ويزخر أدبنا العربي بشتى الأغراض الشعرية وقد أبدع فيها الشعراء وجددوا ومع أن شعرنا غنائي يميل للحزن غالبا إلا أن هناك جوانب منه جاءت باسمة تحمل طابع الفكاهة والظرف والمرح وقد وجد هذا النوع من الشعر على مر العصور الأدبية وكاد أن ينحسر في وقتنا الحاضر ويخبو نجمه .
والشعر الفكاهي الظريف عالم من ا لإبداع والذكاء والحس الراقي يرسم صورا مبهجة مما يجعل حياتنا أكثر احتمالا فهو يعرض هذه الحياة من جانب مختلف فالمصائب والكوارث سياسية كانت أو اجتماعية تأخذ طابع الابتسام والضحك وتنقل في ذات الوقت رسالة واضحة المعالم.
وقد أخذ الشعر الظريف عدة مناح وأغراض مختلفة حسب الحالة والظرف فمنه السياسي ومنه الاجتماعي ومنه الاقتصادي ومنه النفسي.
فمن الأغراض السياسية : الشاعر الذي يصور خليفة المسلمين بهزل يشرح مأساة دولة يقول:

خليفة في قفص * * * بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له * * * كما يقول الببغا

ومن الأغراض الاجتماعية : قال إبراهيم بن عمر خرج أبو نواس في أيّام العشر يريد شراءَ أضحية ٍ فلمّا صار في المربد إذا هو بأعرابي قد أدخل شاة ً له يقدمها كبشٌ فارهٌ فقال لأجرِّبنّ هذا الأعرابي فأنظر ما عنده فإني أظنّه عاقلاً , فقال أبو نواسٍ :

أيا صاحب الشّاة الّتي قد تسوقها * * *بكم ذاكم الكبش الذي قد تقدّما

فقال الأعرابيّ :

أبيعكه إن كنت ممّن يريده * * *ولم تكُ مزّاحاً بعشرين درهما

فقال أبو نواسٍ:

أجدت رعاك الله ردَّ جوابنا * * *فأحسن إلينا إن أردت التّكرما

فقال الأعرابي :

أحطُّ من العشرين خمساً فإننّي * * * أراك ظريفاً فأقبضنه مسلماً

قال فدفع إليه خمسة عشر درهماً وأخذ كبشاً يساوي ثلاثين درهماً.

ومثل الشاعر إبراهيم طوقان الذي عارض أحمد شوقي في قصيدته عن المعلم , لما رأى ما يعانيه المعلم من ضيق الحال فقال :

شوقي يقول وما درى بمصيبتي* * * قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك ، هل يكون مبجلاً * * * من كان للنشء الصغار خليلا
ويكاد يفلقني الأمير بقوله * * * كاد المعلم أن يكون رسولا
لو جرب التدريس شوقي ساعة* * * لقضى الحياة شقاوة وخمولا
حسب المعلم غمة وكآبة* * * مرآي الدفاتر بكرة وأصيلا
مائة على مائة إذا هي صلحت* * * وجد العمى نحو العيون سبيلا
ولو أن في التصليح نفعاً يرتجى* * * وأبيك ، لم اك بالعيون بخيلا
لكن أصلح غلطة نحوية * * * مثلا واتخذ الكتاب دليلا
مستشهداً بالغر من آياته* * * أو بالحديث مفصلا تفصيلا
وأعوص في الشعر القديم فانتقي* * * ما ليس ملتبساً ولا مبذولا
وأكاد ابعث سيبويه من البلى* * * وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى حماراً بعد ذلك كله* * * رفع المضاف إليه والمفعولا
لا تعجبوا إن صحت يوماً صيحة* * * ووقعت ما بين البنوك قتيلاً
يا من يريد الانتحار وجدته * * * إن المعلم لا يعيش طويلاً

ومن أغراض الحب والغزل : ما روى من أنه في ذات يوم اجتمع الشعراء الثلاثة أبو نواس ودعبل وأبو العتاهية في مجلس من مجالس الطرب فأقاموا فيه ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع انصرفوا يريدون منازلهم …فقال أبو العتاهية عند من نكون اليوم ؟؟؟؟؟فقال أبو نواس: في كل منا فضيلة، فهيا نمتحن قرائحنا في الشعر فمن فاق أخوته كنا عنده وبينما هم يتحدثون أقبلت فتاة حسناء كأنها البدر المنير أو الشمس المضيئة مكللة بالزبرجد موشحه بالعسجد محلاة بالحلي الثمين والجواهر الغالية تهتز دلالا كأنها نشوى وليس بها من عيب كأنها فد تبرأت من العلل والنقائص وكانت ترتدي ثلاثة أثواب من الحرير كل واحد أقصر من الأخر فالأعلى (الأول) أبيض،(الأوسط) أسود (الأسفل) أحمر فقال أبو النواس: الحمد لله الذي فتح لنا بهذا فليقل كل منا شعرا في ثوب… فقال أبو العتاهية في الثوب الأبيض شعرا :

تبدي في ثياب من بياض * * * بأجفان وألحاظ مراض
فقلت له عبرت ولم تسلم* * * وإني منك بالتسليم راض
تبارك من كسا خديك وردا* * * وقدك ميل أغصان الرياض
فقال نعم كساني الله حسنا * * * ويخلق ما يشاء بلا اعتراض
فثوبي مثل ثغري مثل نحري* * * بياض في بياض في بياض

وقال دعبل في الثوب الأسود :

تبدي في السواد فقلت بدرا* * * تجلى في الظلام على العباد
فقلت له: عبرت ولم تسلم * * * وأشمت الحسود مع الأعادي
تبارك من كسا خديك وردا= مدى الأيام دام بلا نفاذ
فقال: نعم كساني الله حسنا* * * ويخلق ما يشاء بلا عناد
فثوبك مثل شعرك مثل حظي* * * سواد في سواد في سواد

وقال أبو نواس في الثوب الأحمر شعرا :

تبدى في قميص اللأز يسعى* * * عذولي لا يلقب بالحبيب
فقلت من التعجب كيف هذا* * * لقد أقبلت في زى عجيب
أحمرة وجنتيك كستك هذا* * * أم أنت صبغته بدم القلوب
فقال: الشمس أهدت لي قميصا* * * قريب اللون من شفق الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي* * * قريب من قريب من قريب

فلما فرغوا من إنشادهم والجارية تصغي إليهم اقتربت منهم وقالت السلام عليكم فردوا عليها السلام بحفاوة وإجلال فقالت لهم لا بد من وقوفي على أمركم واطلاعي على أحوالكم لأعرف من أنتم وكيف انتهى بكم الحال إلى آخر ما سمعت من إنشادكم فاخبروها القصة فقالت لقد أجاد صاحبكم وأشارت على أبي نواس ..وسارت لشأنها بعد أن تركتهم في حيرة من أمرهم.
وجلس نحوي يعلم خطيبته اللغة العربية، و لما وصلا إلى بحث المبتدأ والخبر جرى بينهما نقاش فيه نقله إلينا شعرا فقال:

خطيبتي تقول لي* * * ما المبتدأ و الخبر؟
مثلهما لي مسرعا * * * فقلت أنت القمر

و لما غدت تتقن بحث المبتدأ و الخبر قال:

وعالمة بالنحو قلت لها اعربي* * * حبيبي عليه الدهر كان قد اعتدى
فقالت: حبيبي مبتدا بكلامه* * * فقلت لها ضميه إن كان مبتدا

وقال أحد الظرفاء وقد تزوجت اثنتين فنغصتا عليه حياته :

تزوجت اثنتين لفرط جهلي * * * بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروفا* * * انعم بين أكرم نعجتين
فصرت كنعجة تضحي و تمسي* * * تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يهيج سخط هذي* * * فما أعرى من إحدى السخطتين
وألقي في المعيشة كل ضر* * * كذاك الضر بين الضرتين

ومن أغراضه الهجاء والسخرية , ويكون ذلك للغير وأحيانا يكون من النفس . فهناك شاعر دميم الوجه خرج في سفر إلى اليمن فدخل قرية لم يجد فيها حسب ما زعم وجها يضاهي وجهه وساما و جمالا فاندهش لهذه الصدفة الغريبة فأوحت إليه القريحة بهذين البيتين من الشعر يعبر عنهما عن حالة الصدمة التي استولت عليه لدى دخوله هذه البلدة فيقول :

لم أر وجها حسنا * * *منذ دخلت اليمنا
بالشقاء بلدة * * * أحسن ما فيها أنا

و هذا الصنف الساخر استهوى العديد من شعراء العربية في ذلك الزمان و استحوذ على اهتمامهم الشعري كالحطيئة مثلا الذي جعل هذا الجانب فنه المفضل الذي لا يبارى فيه و هو يتخذ عنده لونا فريدا ينحو فيه منحى السخرية اللاذعة و الإضحاك المبطن و يروي عنه أنه رغب في قول الهجاء فلم يجد من يطلق عليه سهام هجائه فضاق ذرعا بأمر هذه الشحنة التي بدأت تتلجج في صدره فأخذ يبحث عن المخرج كي يتمكن من تفريغها فقال :

أبت شفتاي اليوم ألا تكلما * * * بسوء فما أدري لمن أنا قائله

وجعل يردد هذا البيت و يدور في فناء المنزل فرأى وجهه في المرآة كانت معلقة على جدار إحدى الغرف فهاله منظره و تطير من قبحه فقال هذا البيت الذي تقطر مفرداته سخرية واستهزاء.

لي وجه قبح الله خلقه * * * فقبح من وجه و قبح حامله

وابن الرومي الذي سخر من كل شيء حتى من نفسه و ذكرت في مقالة شعراء الآخرين و لكن اقتصر المقال على شاعرين مع العلم أن هناك شعراء ظرفاء كثيرين أكثر سخرية من هؤلاء الذين ذكرتيهم كنت أتمنى أن تتناولي أكثر من هؤلاء الشعراء و الذين لم يشتهروا بالسخرية أكثر من \"بشار بن برد \"الذي قال في شعره ساخرا من الشاة التي قدمها له الفتى و كانت ضعيفة نحيلة :

و هبت لنا يا فتى منقر* * * و عجل و أكرمهم منزلا
و أبسطهم راحة في الندى* * *و أرفعهم ذروة في العلا
عجوزا قد أوردها عمرها* * *و أسكنها الدهر دار البلى

ثم قال عن نفسه :عميت جنينا و الذكاء من العمى. !
و هناك \" أبو دلامة \" الشاعر خفيف الظل على قلب الخليفة المهدي الذي كان يبعث في طلبه فيأتيه على جناح السرعة للتسرية عنه ، بقفشاته و دعاباته التي لا تنتهي ، و كان من حديثه معه أنه دخل عليه يوما فوجده مغتما ، فاحتار كيف يروح عنه و يعيد إليه صفاء نفسه ، فأسعفته فطنته بفكرة السخرية من نفسه ، لعل الخليفة يجد بهذا اللون المبهج ما يفرحه و يفرج عنه غمه ، فقال:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة * * * فلست من الكرام و لا الكرامة
جمعت دمامة و جمعت لؤما * * *كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
إذا لبس العمامة قلت قردا * * *و شيطانا إذا نزع العمامة

فضحك المهدي و أمر له بجائزة قيمة .
و من شعراء السخرية أيضا الشاعر البائس \" عبد الحميد الديب \" الذي سخر من نفسه و من حياته قائلا :

دع الشكوى و هات الكأس نسكر* * * و دعك من الزمان إذا تنكر
و هام بي الأسى و البؤس حتى * * * كأني عبلة و البؤس عنتر
كأني حائط كتبوا عليه* * * هنا يا أيها المزنوق \"ترتر

ومن أغراضه حسن التخلص , وقصة أبي نواس مع احد خلفاء زمانه ،تدل على ذلك فقد دخل على الخليفة وقتئذ وهو يريد أن ينشده قصيدة طامعاً في بعض المال ولكنه وجد الخليفة مشغولا بمداعبة إحدى جواريه ، تسمى خالصة ، وكانت قد وضع على عنقها عقدا نفيساً ،ولم يعر الخليفة أي انتباه لما قاله أبو نواس , فخرج أبو نواس من عند الخليفة غاضباً صفر اليدين فتكب على باب الخليفة الأتي:

لقد ضاع شعري على بابكم * * * كما ضاع العقد على صدر خالصة

وانصرف فرأت الجارية الكلام المكتوب فأردت أن توقع به فأسرعت للخليفة مشتكيةً ،فغضب الخليفة وأرسل لأبي نواس في الحال وعندما حضر لبيت الخليفة كان يعلم الأمر وما سيجري له ، لكن فطنت وذكاء أبو نواس أنقذته فعندما صل إلى الباب مسح الجزء الأدنى من حرف العين في كلمت (ضاع) قبل أن يدخل فانقلب الشعر:

لقد ضاء شعري على بابكم * * * كما ضاء العقد على صدر خالصة

فبدل أن يعاقبه أكرمه لذكائه وفطنته.
وذكر الأديب الصولي أن أبا تمام الشاعر أحمد بن المعتصم أو ابن المأمون بقصيدة سينية فلما انتهى إلى قوله فيها :

إِقْدَامُ عمْرٍو في سماحةِ حاتمٍ * * * في حِلم أحنْفَ في ذكاءِ إِياسِ

قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضراً: الأمير فوق ما وصفت، فأطرق قليلاً، ثم رفع رأسه وأنشد:

لا تنُكروا ضربي له مَنْ دونه * * * مَثلا شَروداً في الندى وَالباسِ
فاللُه قد ضَرب الأقَلَّ لنوره * * * مثلاً مِنَ الْمِشكاةِ والنِّبراسِ

فعجبوا من سرعة فطنته.
ويذكر أن شوقي وحافظ إبراهيم كانا في أحد جلسات السمر فأحبا أن يتبارزا شعريا فقال حافظ :

يقولون أن الشوق نار ولوعة* * * فما بال شوقي اليوم أصبح باردا

فرد شوقي المتوقد الذهن والبديهة:

استودعت إنسانا وكلبا أمانة* * * فضيعها الإنسان والكلب حافظ

وكذا تنوع الشعر الظريف لأغراض مختلفة مثل : الوصف وغيره , يقول البهاء زهير وهوشا عر مصري من العصور المتتابعة واصفا بغلة :

لك يا صديقي بغلة * * * ليست تساوي خردله
تمشي فتحسبها العيون* * * على الطريق مشكًله
مقدار خطوتها الطويلة* * * حين تسرع أنملة
تهتز وهي مكانها * * * فكأنما هي زلزله

وقال الحمدوني في شاة:

لسعـيـد شويـهـة * * * سلّها الضر والعجف
قد تغنت وأبصـرت * * * رجلا حامـلا علـف
بأبـي مـن بكـفـه * * * برء ما بي من الدنف
فأتـاهـا مطمّـعـا * * * فأتـتـه لتعتـلـف
فتـولـى فأقبـلـت * * * تتغنى مـن الأسـف
ليته لم يكـن وقـف * * * عذب القلب وانصرف

والشاعر إسماعيل صبري كان له أخت اسمها اسما و كان على باب البيت و لم يستطع الدخول فقال :

طرقت الباب حتى كل متنى* * * فلما كل متنى كلمتني
فقالت يا إسماعيل صبرا* * * فقلت يا اسما عيل صبري

فالشعر الساخر شعر ذائع و ممتع و جميل و سائر و هو في الأصل للتسرية و التسلية والإطراب وإدخال المسرة والبهجة على النفس كي لا يعتريها الكلل و يتسرب إليها الملل فتمتلئ ثقة و تبتسم للحياة.
يقول أبو الفتح البستي:

أفد طبعك المكدود بالهم راحة* * * قليلا و علله بشيء من المزاح
لكن إذا أعطيته المزح فليكن* * * بمقدار ما تعطي الطعام الملح

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية