اطبع هذه الصفحة


خلوا بيني وبين ناقتي

د. بدر عبد الحميد هميسه


عن عكرمة ، عَن أبي هُرَيرة ؛ أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة أراه قال : في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال له : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : أحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك كنت جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي نفس أصحبي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم قال : نعم قال فحدثني الحكم أن عكرمة قال : قال أبو هُرَيرة فلما جاء الأعرابي قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك ؟ قال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
قال أبو هُرَيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفورا فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار. رواه البزار وقال : هذا الحديث لاَ نعلمُهُ يُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلاَّ من هذا الوجه بهذا الإسناد. مسند البزار 2/465 , وفي سنده ضعف , و ابن الجوزي : الوفا بتعريف فضائل المصطفى 305 .
الدعوة إلى الله تعالى تعد من أشرف الوظائف، وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى على أن أحسن الناس قولًا هم الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [33] سورة فصلت.
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125] سورة النحل. وإذ يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108] سورة يوسف.
وطلب الله من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة:\'هي وضع الأمور في مواضعها\' فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين .
قال المتنبي :

إِذا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ *** وإنْ أَنْتْ أَكْرَمْ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا

وَوَضْعُ النَّدَى في مَوْضِع السَّيْفِ بالعُلَى *** مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
والحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور بقدرها ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطباعهم فتخرج أقوال الداعية إلى الله وأفعاله وتدبيراته وأفكاره تابعة من هذه الحكمة موافقة للصواب غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة ، لا زيادة عما ينبغي ولا نقص .
ومن الحكمة في الدعوة : معرفة نفسيات المدعوين، ومنازلهم: فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف، والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم.
عن جرير بن عبد الله قال : بعث إليّ رسول الله فأتيته فقال يا جرير لأي شيء جئت قلت جئت لأسلم على يديك يا رسول الله قال فألقي إليّ كساءً ثم أقبل على أصحابه ثم قال إذ أتاكم كريم قوم فأكرموه فقال لي رسول الله يا جرير أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤمن بالله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وتصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة قال ففعلت فكان بعد ذلك لا يراني إلا تبسم في وجهي . دلائل النبوة , للبيهقي 5/347 .
كما أن على الداعية أن يراعي في الدعوة بيئة كل مدعو، وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته ,قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله. البخاري.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله: قولًا، وعملًا، وسلوكًا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيًا أمره بأحسن طرقها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا]. كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا]
رواه البخاري ومسلم.
وما أحسن ما قيل :

دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب * * * وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلتٌ بكفه* * * له أسلموا واستلموا وأنابوا

وكان من أمثلة ذلك عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ] فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ-أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. وفي رواية للترمذي وغيره:
[أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] .
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة: أن يتحلى الداعية بالصبر: ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان].
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك: أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه: وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت، وفي ذلك يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3] سورة الصف.
ولله در الشاعر إذ يقول:

يا أيها الرجل المعلـم غيـره * * * هـلا لنفسك كـان ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي * * * الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدا بنفسك فانههـا عـن غيها * * * فـإذا انتهت عنـه فأنت حكيم
فهناك يسمع مـا تقول ويهتدى * * * بـالقول منـك وينفـع التعليم
لا تنـه عن خلق وتأتي مثله * * * عـار عليك إذا فعلت عظيـم

كان هناك غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الغلام يومًا فذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يزوره، فقعد عند رأسه، وقال له: (أسلم). فنظر الغلام إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فأسرع الغلام قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فرحًا مسرورًا بإسلام الغلام، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار.البخاري.
والداعية كذلك لا ييأس ولا يبأس ، قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. القصص: 56.
يقول تعالى: \" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) يوسف.
ولا بد للداعية من الرفق واللين. قال تعالى: \" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينـزع من شيء إلا شانه.مسلم وأبو داود.
يقول تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت :24-25].
قال ابن كثير رحمه الله: أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس .. ويقول جل ذكره: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
ويعلق الإمام الطبري على الآية بقوله: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه، فلم ينتصر منه، وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله عز وجل وثوابه، إن ذلك لمن عزم الأمور، ندب الله إليها عباده، وعزم عليهم العمل به.
فينبغي أن تكون الأناة والرفق والحلم منهجا للمسلم في كل حال، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله.
رزقنا الله وإياكم الحلم والرفق , ووقانا الله وإياكم شر مصارع السوء .

 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية