اطبع هذه الصفحة


أحاديث وفوائد (8)
فوائد من حديث إنما الدنيا لأربعة نفر

د. بدر عبد الحميد هميسه


عَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ ، أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الأَنْمَارِيُّ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ ، قَالَ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا ، إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا ، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ ، قَالَ : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ، يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ، فَه ُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. أخرجه أحمد 4/231 (18194) و\"التِّرمِذي\" 2325 قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3024 في صحيح الجامع.

1- الصدقة تزيد المال ولا تنقصه:
إن من أعظم ما شرع الله الصدقةَ , والتي التي شرعت لغرضين جليلين: أحدهما: سد خَلَّة المسلمين وحاجتهم، والثاني: معونة الإسلام وتأييده . وقد جاءت نصوص كثيرة وآثار عديدة تبين فضائل هذه العبادة الجليلة وآثارها، وتُوجِد الدوافع لدى المسلم للمبادرة بفعلها.
قال الله تعالى: \" الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون\"[البقرة: 3] .
وقال الله تعالى: \"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين\"[البقرة : 195].
قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعطاء ومجاهد : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه ( مختصر تفسير القرطبي 1/215).
وقال الله تعالى: \"يا أيها الَّذِينَ آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ\"[البقرة : 254].
وقال الله -تعالى-: \"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ\"[البقرة : 274]الآية .
وقال الله -تعالى-: \"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم\"[آل عمران : 92] .
قال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }سورة البقرة ، الآية : 261 .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرّ الْقُبُورِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُ الْمُؤمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ».المعجم الكبير ( 14207 ) ، شعب الإيمان ( 3347 ) ، الألباني الصحيحة ( 3484 ) .
عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَينِ ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرآن فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاء اللَّيلِ وَآنَاء النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقهُ آناء اللَّيلِ وَآناء النَّهَار».متفق عليه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّاوَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ». مسلم ( 2588 ) باب استحباب العفو والتواضع ، الترمذي ( 2029 ) ، باب ما جاء في التواضع ، تعليق الألباني \"صحيح\".
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان فينظُرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم فينظر ببين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة»متفق عليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل . رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري.
و للصدقة آثار وفضائل كثيرة منها :
1 ــ عظم أجرها ومضاعفة ثوابها:
يربي الله الصدقات، ويضاعف لأصحابها المثوبات، ويعلي الدرجات.. بهذا تواترت النصوص وعليه تضافرت؛ فمن الآيات الكريمات الدالة على أن الصـدقـة أضعاف مضاعفة وعنـد الله مـزيـد قـوله ـ تعالى ـ: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم {الحديد) 18 .
وحديث أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً جاء بناقة مخطومة فقال: \"هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \"لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة كلها مخطومة\"\" انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض: 6-315.
واستطعم مسكين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: \"خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟!\".
قال يحيى بن معاذ: \"ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة\".
2 ــ علو شأنها ورفعة منزلة صاحبها:
الصدقة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: \"وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً\" قضاء الحوائج، لابن أبي الدنيا: 40 رقم: 36، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1 - 97 رقم: 176.
وفي ذلك يقول عــمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: \"إن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم\" صحيح ابن خزيمة: 4- 95 رقم: 2433، المستدرك، للحاكم: 1 - 416 وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وهذه الرفعة للصدقة تشمل صاحبها؛ فهو بأفضل المنازل كما قال صلى الله عليه وسلم : \"إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعمل فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل...\" ، وهو صاحب اليد العليا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: \"اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة ، وهو من خير الناس لنفعه إياهم وقد جاء في الحديث المرفوع: \"خير الناس من نفع الناس(شعب الإيمان، للبيهقي: 6- 117 رقم: 7658، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1- 623 رقم 3289. .
وصاحب الصدقة من أهل المعروف في الآخرة، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : \"أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة\" الأدب المفرد، للبخاري: 86 رقم: 221، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم: 2031.
3ــ تدفع البلايا والكروب:
صاحب الصدقة والمعروف لا يقع، فإذا وقع أصاب متكأً ؛ إذ البلاء لا يتخطى الصدقة؛ فهي تدفع المصائب والكروب والشدائد المخوِّفة، وترفع البلايا والآفات والأمراض الحالَّة، دلت على ذلك النصوص، وثبت ذلك بالحس والتجربة.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : \"صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات\" (المستدرك، للحاكم: 1-124، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2-707 رقم: 3795) .
كما أن الصدقة تحفظ البدن وتدفع عن صاحبها البلايا والأمراض، يدل لذلك حديث: \"داووا مرضاكم بالصدقة\"( شعب الإيمان للبيهقي: 3-282 رقم: 3558، وأفاد المنذري في الترغيب والترهيب: 1-520 أنه روي مرفوعاً ومرسلاً قالوا المرسل أشبه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1-634 رقم: 3358.
وقد سأل رجل ابن المبارك عن قرحة في ركبته لها سبع سنين، وقد أعيت الأطباء فأمره بحفر بئر يحتاج الناس إليه إلى الماء فيه، وقال: أرجو أن ينبع فيه عين فيمسك الدم عنك(انظر: الزواجر، لابن حجر الهيتمي: 1-321 ـ 322. (23) فيض القدير، للمناوي:3-515.) .
وقد تقرح وجه أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك قريباً من سنة فسأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك، ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بنيت على باب داره وصب فيها الماء فشرب منها الناس، فما مر عليه أسبوع إلا وظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد وجهه إلى أحسن ما كان.
حكي أنه وقع القحط في بني إسرائيل فدخل فقير سكة من السكك وكان فيها بيت غني فقال تصدقوا عليّ لأجل الله فأخرجت إليه بنت الغني خبزاً حاراً فاستقبله الغني فقال من دفع إليك هذا الخبز فقال ابنة من هذا البيت فدخل وقطع يد ابنته اليمنى فحول الله حاله فافتقر ومات فقيراً ثم إن شاباً غنياً استحسن الابنة لكونها حسناء فتزوجها وأدخلها داره فلما جنّ الليل أحضرت مائدة فمدت اليد اليسرى فقال الغني سمعت أن الفقراء يكونون قليلي الأدب فقال مدي يدك اليمنى فمدت اليسرى ثانياً وثالثاً فهتف بالبيت هاتف أخرجي يدك اليمنى فالرب الذي أعطيت الخبز لأجله رد عليك يدك اليمنى فأخرجت يدها اليمنى بأمر الله تعالى وأكلت كذا في \"روضة العلماء\". تفسير روح البيان 3/317 .
وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال : بينما امرأة من بني إسرائيل على ساحل البحر تغسل ثيابها وصبي لها يدب بين يديها إذا جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها ، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي فجعلت تعدو خلفه وهي تقول : يا ذئب ابني يا ذئب ابني ، فبعث الله ملكا انتزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها ، وقال : لقمة بلقمة .
كان هناك رجل أصيب بمرض في قلبه، وانطلق هنا وهنالك عند الأطباء ليبحث عن دواء وعلاج، وأخيراً قرر السفر إلى لندن في بريطانيا، وأجريت له الفحوصات، وبذل له الأطباء العلاج، وقرروا له جراحة عاجلة، فقرر هذا الرجل الطيب المسلم أن يعود مرة أخرى إلى المنصورة ليلتقي بأهله وأحبابه، وكان يقول: ظننت أن هذه الجراحة سينتهي بها الأجل، فأحببت أن أرى الأهل والأحباب قبل أن ألقى الله عز وجل، فعاد إلى المنصورة، وقبل السفر إلى لندن بأيام كان يجلس مع صديق له في مكتبه الخاص إلى جوار رجل يبيع اللحم، وفجأة لفت نظره وشد انتباهه مشهد مؤلم يحطم القلب، رأى امرأة كبيرة في السن تلتقط العظم واللحم النيئ الذي يلقى على الأرض من جوار هذا الرجل الذي يبيع اللحم، فنظر إليها، وتأثر بها! ونادى عليها وقال: ما تصنعين يا أماه؟! قالت: والله يا بني إن أولادي ما ذاقوا طعم اللحم منذ ستة أشهر، فأردت أن أجمع لهم بعض العظام مع بعض اللحم النيئ، فتأثر الرجل، ورقت عينه، وخشع قلبه، وانطلق إلى هذا الجزار وقال: هذه المرأة إن أتتك في أي وقت فأعطها ما تشاء من اللحم، وأخرج له على الفور مالاً يعادل قيمة اللحم الذي ستأخذه في سنة كاملة، فب كت المرأة وتأثرت، وعادت إلى البيت في غاية السعادة والسرور بقطع اللحم الذي ستسعد بها أولادها وأبناءها، وعاد الرجل إلى بيته سعيداً فرحاً، وهو صاحب القلب المريض الذي لا يقوى على الحركة، ولكنه حس بالنشاط والحيوية، وحس بالسعادة والانشراح، ولما دخل البيت قابلته ابنته فقالت: يا أبت! ما شاء الله؛ أراك نشيطاً سعيداً، فقص عليها ما قد كان، فبكت البنت وقالت: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه الفقيرة وأبناءها، واستجاب الملك دعاء الفقيرة ودعاء الفتاة، والتفت الجميع إلى خفته وحيويته ونشاطه فتعجبوا، وقال: أشعر -ولله الحمد- بأن الله قد عافاني، ولا أشعر بأي عرض من الأعراض التي كنت أشعر بها قبل ذلك، فصمم الجميع على سفره إلى لندن، وهنالك لما نام بين يدي طبيبه ليجري له الفحوصات مرة أخرى فزع الطبيب واندهش، وقال له: عند أي الأطباء في مصر قد تعالجت؟! فقال: تاجرت مع الله فشفاني الله عز وجل!.
4 ــ إطفاؤها الخطايا وتكفيرها الذنوب:
جعل الله الصدقة سبباً لغفران المعاصي وإذهاب السيئات والتجاوز عن الهفوات، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها: قوله ـ تعالى ـ : إن الحسنات يذهبن السيئات {هود: 114} , وقال صلى الله عليه وسلم : \"تصدقوا ولو بتمرة؛ فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار\". مسند الشهاب: 1-95 رقم: 104، والزهد، لابن المبارك: 229 رقم: 651، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1-568 رقم: 2951.
وقال محمد بن المنكدر: \"من موجبات المغفرة: إطعام المسلم السغبان\".
5 ــ مباركتها المال وزيادتها الرزق:
تحفظ الصدقة المال من الآفات والهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون سبباً في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ ، إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً». متفق عليه ، البخاري ( 1347 ) باب قوله تعالى { فأما من أعطى وأتقى .. } مسلم ( 1010 ) باب في المنفق والممسك .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءهُ فِي حَرَّةٍ [ الأرض الصلبة ذات الحجارة السوداء ] فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ [ والشّراج مسايل الماء ] قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ] وفي رواية: [وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ و َابْنِ السَّبِيلِ] رواه مسلم.
رجل غنى من الله عليه بالمال الوفير والخير الكثير ، تزوج امرأة طيبة صالحة محبة للخير ، فكانت نعم الزوجة له ، أما هو فكان من غناه وكثرة ماله شديد البخل أناني الطبع وكانت زوجته تحاول بشتى الطرق كي تصلح من حاله وتهذيب خلقه إلا أنه حاد الطبع . وفى يوم كان جالساً على مائدة الطعام والزوجة الطيبة جالسة بجانبه تقدم له أطباق الطعام وهو يلتهمها الطبق تلو الآخر ، وأثناء ذلك طرق الباب سائل فقير قد أخذ منه الجوع كل مأخذ يتمنى لقمة كي يسكت جوعه ، فقال الرجل الغنى الباب فلما رأى السائل واقفا غضب غضباً شديداً واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وانتهزه وطرده شر طردة ثم أغلق الباب بشدة خلفه وهو يسب ويلعن . فقالت الزوجة : خيراً ، ما الذي حدث ؟ قال : سائل سخيف ، كم أكره هؤلاء الشحاذين . قالت الزوجة : لو أعطيته لقمة . قال : أعطيه لقمة ، هذا مالي لقد تعبت فيه وجمعته بكدي وعرقي أوزعه على هذا وأمثاله . قالت الزوجة : ولكن الخير كثير ولله الحمد . قال : ماذا ؟ وتردين على أيضا ؟ اسكتي وإلا ألحقتك بأهلك . قالت الزوجة : أتكلمني بهذا الأسلوب بعد هذه العشرة الطويلة ؟ قال : ألا زلت تردين على اذهبي فأنت طالق . ودارت الأيام وتوالت الأعوام وشاء الله عز وجل أن تتزوج المرأة برجل آخر مستقيم الخلق هادى الطبع رقيق القلب ، وعاشت معه أياماً جميلة ولحظات سعيدة ، أما زوجها الأول فقد زالت نعمته ، وافتقر وساءت حاله ، وهكذا هى الأيام تدوم على حال . وفى أحد الأيام كانت الزوجة جالسة مع زوجها على مائدة الطعام يأكلان مما رزقها الله وإذا الباب يطرق . فقالت الزوجة : من الطارق ؟ قال : سائل فقير قد أوشك على الموت من شدة الجوع . فقال الزوج : خذي هذه الدجاجة وأعطيها إياه . فحملت الزوجة الدجاجة وخرجت بها إلى السائل فإذا السائل زوجها الأول فأعطته الدجاجة ورجعت تبكى ، فلما رأها زوجها على هذه الحالة سألها قائلا : ما الذي يبكيك ؟ ماذا حدث ؟ قالت الزوجة : إن السائل الذي بالباب كان زوجي ، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول وطرده . فقال لها زوجها : ومم تعجبين وأنا والله السائل الأول الذي طردنى زوجك الأول .
6 ــ أنها وقاية من العذاب وسبيل لدخول الجنة:

قال صلى الله عليه وسلم : \"إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولُّون عنه؛ فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قِبَلِ رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فيقول الزكاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى من قِبَل رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبَلي مدخل . المستدرك، للحاكم: 1-379 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، صحيح ابن حبان:7-380 ، 381 رقم: 3113 وحسنه المحقق.
وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \"من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير ـ إلى أن قال ـ ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة..\" البخاري ، فتح 4- 133 رقم: 1897، مسلم: 1-711 رقم: 1027. (87) انظر: عمدة القاري، للعيني : 10-264..
7 ــ أنها دليل صدق الإيمان وقوة اليقين وحسن الظن برب العالمين:

المال ميال بالقلوب عن الله؛ لأن النفوس جبلت على حبه والشح به، فإذا سمحت النفس بالتصدق به وإنفاقه في مرضاة الله ـ عز وجل ـ كان ذلك برهاناً على صحة إيمان العبد وتصديقه بموعود الله ووعيده، وعظيم محبته له. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِي مَالِي ، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ : مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ».مسلم ( 2958 ) كتاب الزهد والرقائق ، واللفظ له ، ابن حبان ( 3317 ) ، تعليق الألباني \"صحيح\" ، تعليق شعيب الأرنؤوط \"إسناده صحيح على شرط الشيخين\".
8 ــ تخليتها النفس من الرذائل وتحليتها لها بالفضائل:
تطهر الصدقة النفس من الرذائل وتنقيها من الآفات، وتقيها من كثير من دواعي الشيطان ورجسه، ومن ذلك: أنها تبعد العبد عن صفة البخل وتخلصه من داء الشح الذي أخبر ـ سبحانه ـ بأن الوقاية منه سبب للفلاح وذلك في قوله ـ عز وجل ـ: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون الحشر 9، ويُذهِب الله بها داء العجب بالنفس والكبر والخيلاء على الآخرين والفخر عليهم بغير حق، كما أنها من مسببات عدم حب الذات حباً مذموماً، ومن دواعي نبذ الأثرة والأنانية، وعدم الوقوع في شيء من عبودية المال وتقديسه وهو ما دعا على فاعله النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة فقال: \"تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة... تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش\". البخاري، فتح: 6-95 رقم: 2887.الرذائل(98.).
كما قال بعض السلف: \"إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها.
9 ــ أنها بوابة لسائر أعمال البر:
جعل الله الصدقة والإنفاق في مرضاته مفتاحاً للبر ، يدل لذلك قوله ـ تعالى ـ: فأما من أعطــى واتقـــى . وصــدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى\" الليل: 5 – 7.
فهذا أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه حديقة يقال لها: بيرحاء، فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى\" تنفقــوا مما تحبـــون {آل عمران: 92} .
قام إلى رســـول الله صلى الله عليه وسلم فقال: \"إن الله يقول في كتابه: لن تنالوا البر حتى\" تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت. \"
( البخاري، فتح: 5-454 رقم: 2758، مسلم: 693 رقم: 998 واللفظ له.
وقال زيد بن حارثة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية: \"اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه\"، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قبلها الله منك\"( تفسير عبد الرزاق: 1-126، جامع البيان، للطبري: 6-592 رقم: 7398، تفسير عبد بن حميد كما في الدر المنثور للسيوطي: 2-261.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فأعجبته فقال: إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى\" تنفقوا مما تحبون فأعتقها\".
وهذا الربيع بن خثيم كان إذا جاءه السائل يقول لأم ولده: يا فلانة! أعطي السائل سُكَّراً؛ فإن الربيع يحب السُّكَّر. قال سفيان: يتأول قوله ـ عز وجل ـ: لن تنالوا البر حتى\" تنفقوا مما تحبون .
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالاً من سُّكَّر ويتصدق بها، فقيل له: هلاَّ تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن السُّكَّر أحب إليَّ؛ فأردت أن أنفق مما أحب .
وكان لزوجة عمر بن عبد العزيز جارية بارعة الجمال، وكان عمر راغباً فيها، وكان قد طلبها منها مراراً فلم تعطه إياها، ثم لما ولي الخلافة زينتها وأرسلتها إليه، فقالت: قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك، قال: من أين ملكتِها، قالت: جئت بها من بيت أبي عبد الملك، ففتش عن كيفية تملكه إياها، فقيل: إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أُخذت من تركته، ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعاً بإعطاء المال، ثم توجه إلى الجارية ـ وكان يهواها هوى شديداً ـ فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى.
10 ــ إدراك المتصدق أجر العامل:

ما أسعد المتصدقين! إذ دلت النصوص الثابتة على أن صاحب المال يدرك بتصدقه وإنفاقه من ثواب عمل العامل بمقدار ما أعانه عليه حتى يكون له مثل أجره متى استقل بمؤونة العمل من غير أن ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً، ومن هذه النصوص الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : \"من فطَّر صائماً كتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء المسند، لأحمد: 28-261 رقم: 17033، صحيح ابن حبان: 8-216 رقم: 3429 واللفظ له، وهو حديث صحيح.
روي أن أحد الصالحين وهو على فراش الموت فنطق بثلاث كلمات فقال : ليته كان جديدا , ثم أفاق وقال : ليته كان بعيدا, : ويذهب في غفوة ويفيق وهو يقول ليته كان كاملا , و بعدها فاضت روحه فلم يدر من حوله سر هذه الكلمات حتى جاء أحد إخوانه في المنام فسأله عن سر ذلك فقال : إنه في يوم من الأيام كان يمشي و كان معه ثوب قديم فوجد مسكينا يشتكي من شدة البرد فأعطاه الثوب,فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من قصور الجنة, فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك فقال : لأي عمل عملته ؟؟فقالوا له : لأنك تصدّقت ذات ليلة على مسكين بثوب فقال الرجل : انه كان باليا فما بالنا لو كان جديدا , وليته كان جديدا , و كان في يوم ذاهبا للمسجد فرأى مقعدا ,يريد إن يذهب للمسجد فحمله إلى المسجد ,فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من قصور الجنة فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك,فقال : لأي عمل عملته؟؟ فقالوا له : لأنك حملت مقعدا ليصلي في المسجد ,: فقال الرجل ,إن المسجد كان قريبا فما بالنا لو كان بعيدا , ليته كان بعيدا إن هذا الرجل في يوم من الأيام كان يمشي و كان معه بعض رغيف فوجد مسكينا جائعا فأعطاه جزء منه فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من ق صور الجنة فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك فقال لأي عمل عملته؟؟: فقالوا له لأنك تصدّقت ببعض رغيف لمسكين : فقال الرجل انه كان بعض رغيف فما بالنا لو كان كاملا.
عن أبي بردة قال: لما حضر أبو موسى الأشعري الوفاة قال: يا بني اذكروا صاحب الرغيف، قال : كان رجل يتعبد في صومعة ، أراه قال : سبعين سنة ، لا ينزل إلا في يوم واحد كل عام إلى السوق ليتزود بالمؤونة. قال:قال فنزل ذات مرة فشبه الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال.قال: ثم كُشف عن الرجل غطاؤه ، فخرج تـائباً، فكان كلما خطا خطوة صلى و سجد، فأواه الليل إلى دكان عليه اثنا عشر مسكيناً ، فأدركه العلياء فرمي بنفسه بين رجلين منهم، و كان ثمّ راهب يبعث إليهم أرغفة ، فيعطي كل إنسان رغيفاً، فجاء صاحب الرغيف ، و أعطى كل إنسان رغيفاً، و مر على ذلك الذي خرج تائباً، و ظن انه مسكين، فأعطاه رغيفاً،فقال المتروك لصاحب الرغيف: مالك لم تعطني رغيفا ؟؟!فقال : تراني أمسكته عنك؟ سل هل أعطيت أحداً منكم رغيفين؟قالوا: لا فقال: تراني أمسكته عنك و الله لا أعطيك الليلة شيئاً ...فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك ، فأصبح التائب ميتاً. فوزنت السبعون سنة (أتي صرفها في العبادة) بالسبع ليالي (التي أذنب بها) ، فرجحت الليالي ! فوزن الرغيف ( الذي تصدق به) بالسبع ليالي فرجح الرغي ف.!قال أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف .
وأنشدوا

يا جامع المال يرجو أن يدوم له * * * كل ما استطعت وقدم للموازين
ولا تكن كالذي قد قال إذ حضرت * * *وفاته ثلث مالي للمساكين


2- الصبر على المصائب عز وشرف :
قال عليه الصلاة والسلام: \" وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً، فَصَبَرَ عَلَيْهَا، إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا \".
الظلم من أقبح المعاصي وأشدها عقوبة, يقول الله عز وجل: أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . هود:18، ويقول الله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء . إبراهيم:42-43، وإن من فضل الله تعالى على عباده أن حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، فقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا. رواه مسلم، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
ويقول أيضاً: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. متفق عليه.
ويقول أيضاً: واتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ثم يقول الله جلا جلاله: لأنصرنك ولو بعد حين. كما ثبت في أحاديث في الصحيحين والمسند وغير ذلك.
والإنسان في هذه الحياة لا بد أن يبتلى ولا بد أن يتعرض للظلم , وما عليه حينئذ إلا أن يصبر ويتحمل , فقد قال سبحانه وتعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . الشورى:43، وفي صحيح مسلم أن رجلا جاء إلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إلي، وأحلم عليهم، ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما تقول، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك.
قال طرفة بن العبد:

وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً * * *على المَرْءِ من وَقْع الحُسَام المُهَنَّدِ

ولكن لا نتصور أن الصبر على الظلم خير من مقاومته، استشهاداً بحوادث تاريخية جزئية دون إدراك خطورة الظلم ذاته، وأن ما يترتب عليه من نتائج أشد على المدى البعيد من الآثار السلبية التي تنتج عن مقاومته. ومن ينظر في تاريخ الأمم يجد ذلك جلياً واضحاً، وكل الأمم اليوم التي تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية، وحماية حقوق الإنسان ؛ لم يتحقق لها ذلك إلا بعد الثورة على الظلم ومقاومته، ورفضها له. وعلى العكس من ذلك حال الشعوب التي لم تتصد له، إذ ما تزال ترسف في أغلال العبودية للأنظمة الاستبدادية، ولا يمكن للشعوب المستعبدة أن تحقق نهضة أو تحمل رسالة، ولهذا أنزل الله هذا الدين على بني إسماعيل خاصة؛ لكونهم لم يعرفوا الخضوع للملوك من قبل، بل ظلت مكة -أم القرى- مدة ألف عام قبل الإسلام تدار شؤونها دون وجود سلطة، ولهذا أقام أهلها دار الندوة للشورى وإدارة شؤونها بصورة جماعية، وكذا كان حال الطائف ،وحال المدينة والحجاز عامة، فكانوا أقدر الأمم على حمل رسالة الإسلام للناس جميعا، وهو ما عبر عنه (ربعي بن عامر) بقوله :\" إن الله أخرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عد ل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة\" ، وهذا ما يستفاد من قصة موسى مع فرعون وإصراره على تحرير بني إسرائيل من العبودية، كما في قوله تعالى على لسانه : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ (الشعراء:22)، فلا يمكن تحقيق نهضة إصلاحية قبل تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد.

قال تعالى : \" {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} وكان النخعي رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم السفهاء.
قال الشاعر :

ولا يقيم على ضيم يراد به * * * إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته* * *وذا يشج فلا يرثي له أحد

أي : لا يبصر على ظلم يراد في حقه إلا الأذلان اللذان هما في غاية الذل ، وهما : الحمار المربوط على الذل بقطعة حبل بالية ، والوتد الذي يدق ويشق رأسه ، فلا يرحم له أحد ، ولفظ البيت خبر. إسماعيل حقي : تفسير.
فالأمر ليس على إطلاقه فالظلم الذي نصبر عليه هو ظلم من لهم قربى ورحم , وظلم من يؤدي مقاومة ظلمهم إلى فتنة وظلم أشد , أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما (224) عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي قال : من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجمعة شبراً فمات فميتة جاهلية.
وفي رواية لمسلم : من كره من أميره شيئاً ،فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية .
وأخرج البخاري ومسلم في (( صحيحيهما )) (226) – أيضا-، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : أن رسول الله قال : إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تكرهونها. قالوا : يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم .
أخرج أبو عمرو الداني في (( الفتن (238) عن محمد بن المنكدر، قال : لما بويع يزيد بن معاوية ذكر ذلك لابن عمرو فقال : إن كان خيراً رضينا وإن كان شراً صبرنا .

3- أغصان الذل تنبت من بذور الطمع:

قال عليه الصلاة والسلام : \" وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ\".
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي قال: ((ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الترمذي (9/222،223) الزهد : باب حرص المرء على المال والشرف لدينه ، وقال الترمذي هذا حديث صحيح وقال الشيخ عبد القار الأرناؤوط وهو كما قال ورواه في المسند (3/456) والنسائي وابن حبان في صحيحه.
كان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصا على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غدا في المعاد ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرص حرصان حرص فاجع وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته.
قال بعضهم:

لا تغبطن أخا حرص على طمع * * * وانظر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغول بثروته * * * عن السرور لما يحوي من المال

قال آخر:

يا جامعا مانعا والدهر يرمقه * * * مفكرا أي باب منه يغلقه
جمعت مالا ففكر هل جمعت له * * * يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه * * * ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها * * * لم يأل في طلب مما يؤرقه

وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) رواه أبو داود (5/15) الزكاة : باب في الشح ، والحاكم (1/11) ، وصححه شعيب الأرناؤوط.

خذ القناعة من دنياك وارضَ بها لو * * * لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها * * * هل راح منها بغير الحنوط والكفن

يقول سيدنا علي رضى الله عنه: (أيها الناس ألا إنما الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة، إن النفس طماعة فعودوها القناعة، إن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا أينعت نعت، وإذا جلت أوجلت، وكم من فتىً مدت له رباعها، فلما مدت له بَاَعَها باعها، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات، ولا يبقى غير وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
وقد قص النبي على الصحابة قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار.
فقال : ((اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب.فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها.قال : فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟فقال أحدهما: لي غلام.وقال الآخر: لي جارية.قال ـ الحاكم ـ: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدقا)) رواه مسلم.
وصاحب المبدأ والرسالة إذا تمكنت هذه القناعة من نفسه لم يعد يبالي أو يخاف، إنه يتغنى بما تغنى به الإمام الشافعي:

أنا إن عشت لست أعدم قوتًا* * * وإذا مت لست أعدم قبرًا
همتي همة الملوك ونفسي* * * نفس حُرِّ ترى المذلة كفرًا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري * * * فلماذا أخاف زيدًا وعمرًا

والمؤمن القوي هو الذي ينتصر على نفسه أولاً، فيفطمها عما يكره الله وعما حرم الله عز وجل، ولا يدع نفسه وهواه يتحكمان فيه ويذلانه يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا، وعلينا أن نعلم أنه ليس هناك عمل سيء نفلت من عقابه في الدنيا والآخرة.
ففي الدنيا عقوبات الذنوب كثيرة، ولو لم يكن هناك غيرها لكفت، وفي الآخرة لن نفلت من العقاب، ولن نقدر على الإنكار، فهناك شهود علينا: ألسنتا, أيدينا, أرجلنا, أبصارنا, أسماعنا, كل جوارحنا يدعوها الرقيب الحسيب القادر المقتدر يوم القيامة أن تتقدم لتتكلم، فتشهد علينا بكل ما اجترحنا. يقول تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
فمن أغنى الله قلبه, ورزقه الطمأنينة والرضا بما قسم الله له, وبذل الأسباب النافعة فإنه يعيش مطمئناً قرير العين مرتاح البال, ومن فقد ذلك عاش في همّ وغم ولو اجتمعت له الدنيا بأسرها.
الرزقَ الحقيقي رزقُ القلب بالإيمان والقناعة، فمن رزقه الله القناعة، فقد أوتي خيراً كثيراً، وأحسَّ بالسعادة في دنياه قبل آخرته. كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له، \"واقنعْ برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق.
قول : ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم. والمراد بالغنى هو غنى النفس، فهذا هو الغنى المحبوب لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولكن الغنى غنى النفس)) ، قال ابن بطال: \"معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني\"، وقال القرطبي: \"معنى الحديث: \"إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع، فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال، لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل\" انتهى كلامه.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه)) رواه مسلم وأحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وابن حبان.

إذا ما كنت ذا قلب قنوعٍ * * * فأنت ومالك الدنيا سواءُ
والنفس راغبة إذا رغبتها * * * وإذا تُرد إلى قليل تقنع

واعلم ـ أيها المسلم ـ أن ما أعطاك الله هو خير لك، فقد يعطيك الله مالاً فيطغيك، قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]. وقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة وعلمه النافذ أن يفضل بعض الناس على بعض في الأموال والأولاد والمساكن والأراضي والبساتين والصحة والعافية والقوة والعقل والذكاء والحكمة واللسان والبيان والمراكب والمناصب، إلى غير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل:71]. ولا يقدر أحد من الناس أن يغيّر حياته، وأن يزيد أو ينقص في رزقه أو عمره، فكل ذلك مسجل عند الله تعالى بمقدار، وقد قدره علينا الكبير المتعال، قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:36].
يقول ابن عبد ربه عن القناعة: إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة، وإذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فمن أطاع الله عزّ نصره، ومن لزم القناعة زال فقره. وفي القناعة تقول العرب: من يشتري الخبز بالدين يرحم، ومن يشتري الكماليات بالدين يرجم.
وتقول العرب أيضًا: العبد حر إذا قنع، والحر عبد إذا طمع. وتكون القناعة بشيء من الزهد في الحياة، وقد كانت العرب تحبّ القليل وتقنع به، ولا تطمع في الشيء الكثير، فها هي ميسون بنت بحدل الكلبيّة أم يزيد بن معاوية تنفر من قصور معاوية بن أبي سفيان ومن مظاهر الأبّهة فيها، وتحنّ إلى مسقط رأسها في البادية، وتنشد قائلة:

لبيت تخفق الأرواح فيه * * * أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني * * * أحبّ إليّ من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي* * * أحبّ إليّ من أكل الرغيف
وكلب ينبح الطراق دوني * * * أحبّ إليّ من قط ألوف
وأصوات الرياح بكل فجّ * * * أحبّ إليّ من نقر الدفوف
وخرق من بني عمي نحيف * * * أحبّ إليّ من علج عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى* * * إلى نفسي من العيش الظريف

فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت ـ يا ابنة بحدل ـ حتى جعلتني علجًا عليفا، وقال لها: كنت فبنت، فقالت: لا والله، ما سررنا إذا كنا، ولا أسفنا إذا بنّا.
ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فأنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) متفق عليه.
خل عليه عمر بن الخطاب وإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فَهَمَلَت عينا عمر، فقال: ((ما لك؟)) فقال: يا رسول الله، أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هم فيه! فجلس مُحْمَرًّا وجهه فقال: ((أَوَفي شك أنت يا ابن الخطاب؟!)) ثم قال: ((أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا)). وعن أنس أن فاطمة ناولت رسول الله كسرة من خبز الشعير، فقال: ((هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام)). وعن النعمان بن بشير قال: ذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يتلوّى ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض. وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي في حَرَّة بالمدينة، فاستقبلنا أحُد، فقال: ((يا أبا ذر)) ، فقلت: لبيك يا رسول الله، فقال: ((ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبًا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا)) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار فقال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذ ا وهكذا)) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ((وقليل ما هم)). يقول النبي : ((إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له فيه)) السلسلة الصحيحة (1658).

4- المؤمن يؤدي حق الله في العلم والمال:

قال عليه الصلاة والسلام : \" إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ\".
فالعلم له حقوق كثيرة منها :
1- حسن النية وصحة المقصد في طلبه والإخلاص في ذلك ؛ فإنما الأعمال بالنيات.

قال تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(البينة 5),وقال عز وجل ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )(الشورى20)وقال سبحانه وتعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا )(الإسراء18).
وروى الحافظ أبوعبدالله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من تعلم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عـُرُضاً من الدنيا , لم يجد عُرف الجـنة يوم القـيامة )( سنن ابن ماجه باب الانتفاع بالعلم والعمل به 1/92 , ح252 , ورواه الإمام أحمد في مسنده 2/338 , أبو داود في سننه كتاب العلم , باب في طلب العلم لغير الله 4/71, ح3464 وإسناده صحيح) يعني ريحها.
وأخرج بإسناده عن جاب بن عبدالله رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء , ولا لتماروا به السفهاء , ولا تخيروا به المجالس , فمن فعل ذلك فالنار النار ).
قال بدر الدين بن جماعة (ت733هـ ) ( يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى , نشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحـق وخـمول الباطل , واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه , وبركة دعائهم له وترحمهم عليه , ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم , وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير.
2- تحري الصدق والضبط في طلبه.

قال أبو يوسف رحمه الله : يا قوم أريدوا بعملكم الله تعالى ، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم ، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح .
حدثنا جعفر الخلدي قال سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول اعتللت بطرسوس علة الذرب فدخل على هؤلاء القراء يعودوني فجلسوا فأطالوا فآذاني جلوسهم ثم قالوا إن رأيت أن تدعو الله فمددت يدي فقلت اللهم علمنا أدب العيادة حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي قال سمعت يوسف بن الحسين يقول قيل لي إن ذا النون يعرف اسم الله الأعظم فدخلت مصر وخدمته سنة ثم قلت يا أستاذي أني قد خدمتك وقد وجب حقي عليك وقيل لي أنك تعرف اسم الله الأعظم وقد عرفتني ولا تجد له موضعاً مثلي فأحب أن تعلمني إياه قال فسكت عني ذو النون ولم يجبني وكأنه أومأ إلي أنه يخبرني قال، فتركني بعد ذلك ستة أشهر ثم أخرج لي من بيته طبقاً ومكبة مشدوداً في منديل وكان ذو النون يسكن الجيزة فقال تعرف فلاناً صديقنا من الفسطاط قلت نعم قال فأحب أن تؤدي هذا إليه قال فأخذت الطبق وهو مشدود وجعلت أمشي طول الطريق وأنا متفكر فيه مثل ذي النون يوجه إلى فلان بهدية ترى أي شيء هي فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر فحللت المنديل ورفعت المكبة فإذا فارة قفزت من الطبق ومرت قال فاغتظت غيظاً شديداً وقلت ذو النون يسخر بي ويوجه مع مثلي فارة فرجعت على ذلك الغيظ ف لما أن رآني عرف ما في وجهي فقال يا أحمق إنما جربناك ائتمنتك على فارة فخنتني أفأئتمنك على اسم الله الأعظم مر عني فلا أراك.

اصبر على مر الجفا من معلم * * * فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة * * * تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه * * * فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى * * * إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته

3- التواضع ولين الجانب: فالصلف العلمي حاجز حصين يحول بين العلم والانتفاع بعلمه.
ولقد اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سن التمييز إلى مؤدب , يُحفظهم القرآن ويُعلمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن , فإذا بلغوا سن التكليف أحضرهم مجالس العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل , ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم .وقد أُطلق لقب مؤدب على جماعة ممن تفرغوا لتأديب الصبيان , وعُرفوا بذلك .
قال أبوعبدالله سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) ( كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة )( انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 6/316).
وقال عبدالله بن المبارك (ت181هـ) ( طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم )( غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري 1/446).
وبسنده أيضا إلى عبد الله بن المبارك قال : قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ) ( نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث ).
وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري ( ت 344 هـ) قال ( علم بلا أدب كنار بلا حطب، و أدب بلا علم كجسم بلا روح ).
4- عزة النفس: فمن حق العلم أن يترفع عن سفاسف الأمور، ولا يغشى أعتاب الجاه والسلطان كالسائل المتكفف.
قال النووي رحمه الله :(وينبغي أن يقطع العلائق الشاغلة عن كمال الاجتهاد في التحصيل ويرضى باليسير من القوت ويصبر على ضيق العيش:قال الشافعي رحمه الله تعالى: لايطلب أحدٌُ هذا العلم بالملك وعز النفس فيُفلح ولكن من طلبه بِذُل النفس وضيق العيش وخِدْمة العلماء أفلح، وقال أيضا: لايدرك العلم إلا بالصبر على الذّل، وقال أيضا: لايصلح طلب العلم إلا لمفلس فقيل ولا الغني المكفي فقال ولا الغني المكفي،وقال مالك بن أنس رحمه الله: لايبلغ أحد من هذا العلم مايريد حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شئ، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يُستعان على الفقه بجمع الهم ّ ويُستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولايزد،وقال إبراهيم الآجري: مَن طلب العلم بالفاقة ورث الفهم، وقال الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لآداب الراوي والسامع: يستحب للطالب أن يكون عزبا ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم واحتج بحديث «خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ وهو الذي لا أهل له ولا ولد» ــ إلى أن قال النووي ــ: هذا كله موافق لمذهبنا، فإن مذهبنا أن من لم يحتج إلى النكاح استحب له تركه، وكذا إن ا حتاج وعجز عن مؤنته).راجع : (المجموع) جـ 1 صـ 35.
وقد أخذ النووي رحمه الله بهذا فلم يتزوج، وكذلك ابن تيمية رحمه الله، إلا أن الحديث المذكور ضعيف، وقد قال ابن القيم إن أحاديث مدح العزوبة كلها باطلة،
لما رجع الإمام البخاري رحمه الله إلى بخاري نصبت له القباب على فرسخ منها واستقبله عامة أهلها ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدة يحدثهم وأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهلي نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدثهم به في قصره فامتنع وقال لرسوله قل له إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن احتاج إلى شيء منه فليحضر في مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة فإني لا أكتم العلم وروي أنه قال العلم يؤتي ولا يأتي فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده ولا يحضر غيرهم فامتنع من ذلك أيضا وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم وروي انه قال العلم لا يحل منعه فحصلت بينهما وحشة فاستعان الأمير بعلماء بخاري عليه حتى تكلموا في مذهبه فأمره بالخروج من البلد فدعا عليهم بقوله اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم فكان مجاب الدعوة فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادي على الأمير فأركب حمارا فنودي عليه فيها وحبس إلى أن مات ولم يبق أحد ممن ساعده إلا وابتلى ببلية شديدة .فتح الباري لابن حجر 1/393 , يوسف المزي : تهذيب الكمال في أسماء الرجال 24 / 465, تاريخ بغداد 2/33 .
قال الشاعر :

يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلًا عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أُكْرِما
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كلما ... بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ لي سلَّما
وما كلُّ برقٍ لاح يستفزني ... ولا كلُّ مَنْ لا قيت أرضاه منعما
إذا قيل: هذا منهلٌ قلت قد أَرى ... ولكنَّ نفسَ الحرِّ تحتمل الظما
أُنَهْنِهُهَا عن بعض ما لا يشينها ... مخافةَ أقوالِ العِدا فيمَ أولما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لِأخْدِمَ مَنْ لا قيتُ لكن لأُخْدما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلةً؟ ... ولو عظَّموه في النفوس لَعَظَّما
ولكنْ أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تَجَهَّما

5- اقتران العلم بالعمل .
قال الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )( الصف 2 , 3 ).
وفي صحيح الإمام مسلم (28) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ما لك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه , وأنهى عن المنكر وآتيه ).
وقال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت125هـ) ( إن للعلم غوائل , فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب , ومن غوائله النسيان ومن غوائله الكذب , وهو شر غوائله ) جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر 1/107-108).
وقال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي (ت10هـ) ( كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به , وكنا نستعين على طلبه بالصوم ).
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن المبارك : سُئل سفيان الثوري : طلب العلم أحب إليك أو العمل ؟ فقال ( إنما يراد العلم للعمل , فلا تدع طلب العلم للعمل , ولا تدع العمل لطلب العلم )( اقتضاء العلم العمل للخطيب ص34-35 رقم38).
6. تعليم العلم لمن يستحقه وعدم كتمانه .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ ، كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ.أخرجه ابن ماجة (224) .
قال أحد الحمكاء :إنّ عليك, في علمك حقا كما أنّ لك في مالك حقا. من ذلك :لا تحدث العلم غير أهله فتجهل.ولا تمنع العلم أهله فتأثم.ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك.ولا تتحدث بالباطل عن الحكماء فيمقتوك.
وأما المال فقد جعل الله في المال حقوقا كثيرة منها :
أولاً : أن تعتقد أنه مال الله:
ألا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل تشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خوّلك وملكك ومنحك وأعطاك!! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين , وهذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: (وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) الحديد:7.
سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها ... سئل: لمن هذا القطيع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندي!! وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك (لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ) الشورى:49.
فاعتبر نفسك مستخلفاً، وهذه النظرية ـ نظرية الاستخلاف ـ تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله.
ثانيا: أن الله تعالى أعطاك المال ليختبرك:
أو يمتحنك وينظر ماذا أنت فاعل فيه, هل تؤدي حق الله في المال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) البقرة : 254 .
ثالثا : لله حق في هذا المال :
المال مال الله سبحانه وتعالى، ونحن مستخلفون فيه، ودليــل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَـــخْلَفِينَ فِيهِ} (سورة الحديد: 7)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: \"إنك لن تنـفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتــى ما تجــعل في فـــــم زوجتك\" (رواه البخاري).
وتعني كلمة \"نــفقة\" في هذا المــقام كل إنفـاق فــي مجــال البــر والخير وفقــا لأحكــام ومبــادئ الشــريعة الإســلامية الغراء، وهنــاك حقوق في مال المسلم شرعهـا الله عــز وجـل للإنفـاق منـها علـى أعمـــال البر والخير منها ما ســوف نذكرها بإيجاز فـي هذه الدراسـة، مع بيــان مشروعيتــها وحكــمها وفضــلها وشروط قبولها.
ولقد جعل الله في المال حقوقاً متنوعة: فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في المال حقاً سوى الزكاة، فسُئل عن ذلك فذكر لأصحاب الحيوان لأنهم الذين سألوه ما عليهم من الحقوق في المال بأن يتصدقوا من لبنه ومن ظهوره ومن أصوافه وأوباره وغير ذلك، وهذا مثال لا يقتضي الحصر بل كل مال فيه هذه الحقوق والإنسان محتاج إلى إخراجها لأنها قيد النعمة، فالنعمة منطلقة وقيدها شكرها، وإنما يشكرها الإنسان لله سبحانه وتعالى بمعرفة الحق الذي عليه في هذا المال وأن يقدمه ابتغاء مرضاة الله.

5- صدق النية سبب في حصول الأجر:

قال عليه الصلاة والسلام : \" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ، يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ\".
النية الصادقة سبب في حصول الأجر وهي شرط لصحة الأعمال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : \" إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه ِ\" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.أخرجه\"أحمد\"1/25(168) و\"البُخَارِي\"1/2(1) و\"مسلم\"6/48(4962). و\"أبو داود\"2201 و\"ابن ماجة\"4227 و\"التِّرمِذي\"1647 و\"النَّسائي\"1/58 .
رُويَ عنِ الشَّافعيِّ أنَّهُ قال : هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ ، ويدخُلُ في سبعينَ باباً مِنَ الفقه .
عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، بَعْدَ أَنْ رَجَعْنَا:إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا ، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ، وَلاَ هَبَطْتُمْ وَادِيًا ، إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ. أخرجه أحمد 3/341(14731).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. أخرجه أحمد 2/484(7814) و\"مسلم\" 8/11 و\"ابن ماجة\" 4143.
قال الإمام أحمد: أحب لكل من عمل من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل قال النبي ?الأعمال بالنيات فهذا يأتي على كل أمر من الأمور
وقال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله يعني أحمد عن النية في العمل قلت كيف النية قال يعالج نفسه إذا أراد عملا لا يريد به الناس.
وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به وإن لم تنصب.
وقال مطرف بن عبدالله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
وقال عبدالله بن المبارك: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل، كما تتعلمون العمل.
فهذا الرجل قد تمنى أن يكون له مال كمال الأول وعلم كعلمه , حتى يؤدي حق الله فيهما , ولذا فقد أوجر على هذه النية الصالحة , قال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.

6- من أشر الناس صاحب مال جاهل :

قال عليه الصلاة والسلام : \" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ\".
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من أشر الناس جاهل سفيه يملك المال فلا يحسن التصرف فيه , فيبدده ويضيعه , ومن هنا فقد نهي الإسلام عن إعطاء السفهاء الأموال , وأجاز الحجر على مال السفيه قال تعالى : \"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)سورة النساء .
ولقد حرم الإسلام تبذير المال وإضاعته , قال تعالى {وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف) جامع البيان (15/73) .
وقال ابن عطية: \"التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح\"لمحرر الوجيز (3/450). .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)). أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
قال النووي: \"وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس\". شرح صحيح مسلم (11/11).
وقال الحافظ ابن حجر: \"ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور\". فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.

6- سوء النية سبب في حصول الوزر :
وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ\".
فهذا الرجل سيء النية قد تمنى أن يكون له مال كمال هذا الرجل الذي يخبط في ماله بغير علم , فلا يؤدي حق الله فيه , ولذا فقد وزر على هذه النية السيئة .
فالله قد علم من نيته أنه لو أعطي مثل صاحبه لأفسد وفسق .


 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية