اطبع هذه الصفحة


الخطباء، والعلماء، والقراء...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


ثلاث طبقات في المشهد الدعوي، لا يسوغ الخلط بينهم، أو لبْس بعضهم ببعض، فلكل طبقة مسارها ووجهتها، وجوّها ونسيمها...!

وعاينتُ أعلاما ونُبلا وشيخةً// وما فيهمُ من صادحٍ لك يخطبُ
إذا يصعد النبرَ الرفيع يهزه// ويسلب أحلاماً لهم ويخضّبُ


وحينما يُختار فاضل للإمامة لحسن صوته، ويزدحم عليه الناس لا يعني تمكنه من الخطابة وإجادته فيها، سواء كان عالما أو دكتورا جامعيا،،! والعالم الفقيه المتفنن ليس بالضرورة أن يهز المنابر ويخطف ألباب الناس،،! فالخطبة مقومات أخرى، ومنزلة يوفق لها بعض الناس،،،،!
وليس صعود المنبر أو (الحمدلة)، وقول أما بعد، وثيقة القنطرة للإتقان، كما قال سحبان وائل :

وقد علم القومُ اليمانونَ أنني// إذا قلت أما بعد إني خطيبُها

وكم واجهنا من علماء وأصوات حسنة مؤثرة، ولكنهم لم يكونوا خطباء، ولا ادعوا ذاك...!

وهنا ثلاث فئات في المشهد الدعوي:

• الخطباء: يحملون قوة وجاذبية .
• العلماء : يتسمون بالعلم الجم والسعة الفكرية .
• القرّاء : صوت حسن وحفظ بارز.
• فالأولون يحتاجون إلى شيء من العلم ومواصفات خطابية عليا، من جهورية الصوت واللفظ الجذاب والأداء الخاطف للقلوب.
• والطبقة العلمية، لا ينقصهم العلم، وإنما ينقصهم مغادرة التقليدية في الدرس والمحاضرة، والصعود لروح المنبر الملتهب بالصوت والروح الغضبية المعتدلة والمؤثرة، فأنت هنا خطيب صداح لا فَقِيه لماح...!!
• والمشيخة القرّاء، كما طابت أصواتكم فطيبوا خطبكم بتفاعل جاد، وتحضير متين، وعاطفة مصبوغة بالوهج المتقطع، والأداء الموجز، والذي ينسيك حالة الترتيل القرائي..!
ولكل داعية مبدع نقول: اخرج من حالتك الدعوية وارتدِ الحالة المنبرية والخطابية الملتهبة صوتا وأداء واعتدالا وتأثيرا .
وتذكر الهدي النبوي: (( كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : صبّحكم ومساكم )).

وفي الجيل الفريد لم يشتهر بالخطابة سوى قلة منهم ثابث بن قيس رضي الله عنه وسهيل بن عمرو، والخلفاء الأربعة وقلة لم تعرف بالشهرة، وبرع علماء وفقهاء ومحدثون وقضاة وفلاسفة، وليسوا بخطباء، وكتب التراجم حكت آلاف العلماء، ويعز فيهم الخطباء المؤثرون...!
ولا تلازم بينها وبين الوظائف الأخرى ، قد علم كل أناس مشربهم، وللناس ميول وتوجهات ، وقد كان من علمائنا الصفوة الأجلة كابن باز وابن عثيمين والألباني وابن جبرين رحمهم الله، ولم نعرفهم خطباء، وإن خطب بعضهم أحيانا ،،،!
على الشباب المتدين والعوام المعجبين أن يفقهوا ذلك، وأن (الخطابة نجابة)، تباين تلكم المؤهلات، وفن مخصوص له حدوده وضوابطه، ونسأل الله من فضله..!
وكم من قاضٍ صالح، نفع الله بعدله وشخصيته ومناشطه، ولكنه لا صلة له بالخطابة إلا مجرد القراءة الأسبوعية، والتي لا تغير مجتمعا ولا تهز منبرا، أو تلهب وجدانا...!

وقضاةُ لكن في الخطابة بعضُهم// ليسوا من الرواد والخطباءِ

فأعطوا القوس باريها، وامْنَح الصانع صنعته، والخبز لخبازه..!
ويصعب أن يحوز المرء الخير كله من أطرافه ،،!

والأسباب والعلم عند الله تعالى كالتالي :

١/ صعوبة اجتماع الخيور: كلها في إنسان بمرة كما تقدم.
٢/ استعدادنا لتعلم العلم والإمامة: دون الخطابة، والسبب الزهادة أحيانا، أو التساهل فيها، أو كونها صفحات مقروءة وصوت رجراج .
٣/ معالجة تقصيرها بالقراءة المستديمة: وتوقع أن ذلك كافٍ في الحل ونفع الناس، حتى بدا بعضنا وكأنه في درس فقهي، أو حديث تحابي لطيف.
٤/ غياب البناء الخطابي الدعوي: وعدم توجه المؤسسات لذاك وصناعة خطباء المستقبل الكملة، عبر دورات منظمة، وبرامج مكثفة، يكون هدفها الإعداد والارتقاء .
٥/ خلو المسار المنبري الرسمي: من دورات ورؤية استراتيجية وتنظيمية سوى الاختبار والمناسبة الدائمة .
٦/ نقصان المهارات المنبرية لدى كثير منا، وتجاهلنا أهمية تعلمها ومذاكرته وامتطاء التجارب لأجلها .
٧/ تقصير الكليات الشرعية: ومعاهد الدعوة، بل انعدام ذلك احيانا في التنظيم الدعوي للدعوة وبناء الشباب وتهيئتهم لتلكم المرحلة، وبالتالي قل الخطباء، واشتعل الخجل، وزادت معدلات الكسل والاعتذار .
٨/ استصحاب الحالة الدعوية السابقة: من فقه أو فكر أو تلاوة، ونسيان أن الجو الخطابي يتطلب الخروج من الحالة السابقة، وتقمص دور جديد تستعين الله فيه صدقا وإخلاصا، وتعيش فلان الخطيب وليس الفقيه أو القارئ،،،!

ليس الفقيهُ خطيبَنا إذ ما هو// كالقارئ المُتألّه الحزنانِ
إنّ الخطيبَ مليءُ منبرنا الذي// يهتز من شجنٍ ومن إتقانِ

وفِي السياق الفكري والثقافي، يوجد لبعضهم كتب ونظرات حول منبر الجمعة، ولكن جلهم لا يصلح للخطابة إلا إذا خرج من حالته الفكرية ومصطلحاته الصعبة المستعسِرة، وذكرها على المنبر من التوحش اللفظي الذي لا يسوغ ولا يجوز، وكما يطالب بعضهم بوعي الجانب الفكري ومشكلاته، ندعوهم نحن لوعي الفقه الدعوي والمنبري ومحدداته، وليس كل مرة تسلم الجرة،،!
ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه،،،،!

ومضة/ تعلّموا الخطابة كما تعلموا العلم حفظاً ووعيا وأداءً واستغراقا...!

١٤٣٨/٦/١١

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية