اطبع هذه الصفحة


محاسن سنن الدارمي وفوائده...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


هنالك في (سمرقند) يسطعُ نجمُ عالم فذ رحالة، عُرف بالرواية والعقل والدين والرزانة، إنه الحافظ الدارمي صاحب السنن . وكتابه سهل طيب مألوف، فيه يواقيت جياد، وسنن حسان، ومرتبته عالية في الجودة والإتقان ، والصحيح أنه (سنن) وليس مسنداً كما توهمه بعضهم ، إلا إذا اعتبرناه بالأسانيد المتصلة...وادعى بعضهم أن له مسنداً خلاف السنن...!
ولذلك انتُقد ابن الصلاح حينما سماه مسندا، كما نبه على ذلك العراقي في الألفية، لأنها أقل رتبة من السنن :
ودونها في رُتبة ما جُعلا / على المسانيد فيُدعى الجَفلا
كمسندِ الطيالسي وأحمدا/ وعدُّه للدارمي انتُقدا

واسمه( أبو محمد عبدالله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي السمرقندي (٢٧٥)هـ رحمه الله ، وهو غير العلامة الحافظ العَقدي المناظر عثمان بن سعيد الدارمي، صاحب النقض والمسند الكبير،(٢٨٠)هـ وقطعاً تعاصرا..!

عُرف هذا بالحفظ والرحلة والإتقان العلمي ، قال الخطيب البغدادي رحمه الله :( كان أحد الرحالين في الحديث، والموصوفين بحفظه وجمعه، والإتقان له، مع الثقة والصدق والورع والزهد، وكان يُضرب به المثل في الديانة، والحلم، والرزانة ) .

وهنا دلائل ومعالم تعرف بكتابه :


١/ المقدمة النافعة الماتعة:
امتاز بمقدمته كالحافظ ابن ماجة، مع قلة من يقدم للأسفار، فأنارها بالمعجزات النبوية ، والمعتقد وبعض فضائل العلم والأدب والسلوك.. وهي جديرة بالشرح والتعليق، والإذاعة بين طلاب العلم .
ومنها: بَابٌ مَنْ كَرِهَ الشهرة والمعرفة-بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بَابٌ التَّسْوِيَةُ فِي الْعِلْمِ، وغيرها من الفرائد الجميلات .

٢/ ترتيبه:
صنعه ككتب السنن على الأبواب الفقهية، وقد اعتمد فيه مصنفه على طريقة الكتب والأبواب، وقد قدّم بين يدي الكتاب بمقدمة احتوت على عدة أبواب في الشمائل النبوية والمعجزات ، وفي اتباع السنة، وفي آداب الفتيا، وفي فضل العلم. ثم شرع في الكتاب على الترتيب المعتاد مبتدئاً( بكتاب الطهارة) ، فالصلاة، فالزكاة، فالصوم فالحج، ثم ختم بكتاب فضائل القرآن. والمؤلف يورد المرفوع والموقوف والمقطوع، والمتصل والمنقطع، والصحيح والضعيف،، كل هذا يورده بسنده دون التعرض لنقد الأسانيد.

٣/ جودة أحاديثه :
رجحه بعضهم على سنن ابن ماجه لقوة أسانيده وجودة مروياته كالنووي وابن الصلاح والعلائي رحمهم الله ، وقال ابن حجر رحمه الله : ( وأما كتاب (السنن)، المسمى: (بمسند الدارمي) فإنه ليس دون (السنن) في المرتبة، بل لو ضُم إلى الخمسة، لكان أولى من ابن ماجة، فإنه أمثلُ منه بكثير ) .

٤/ تعداده:
اشتملت سنن الدارمي على أحاديث كثيرة، أُحصيت (٣٤٥٥) نصًا مسندًا، في مختلف الأبواب . وفِي نسخة الشيخ حسين أسد الداراني حفظه الله (٣٥٤٦) حديثا.
وافتتح بعد التقدمة (بكتاب الطهارة) بَاب (فرض الوضوء والصلاة)، وساق حديث أنس رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نُهِينَا أَنْ نَبْتَدِئَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَقْدَمَ الْبَدَوِيُّ وَالْأَعْرَابِيُّ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وفيه: فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ ).
واختتمه (بكتاب فضائل القرانِ ) ( باب كراهية الألحان في القرآن ) وساق أثر محمد بن سيرين رحمه الله قال : ( كَانُوا يَرَوْنَ هَذِهِ الْأَلْحَانَ فِي الْقُرْآنِ مُحْدَثَةً ).. وسنده جيد .

٥/ محدّث فعال :
قال أبو حاتم بن حبان رحمه الله : ( كان الدارمي من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع، وتفقّه وصنف وحدث، وأظهر السنة ببلده ودعا إليها، وذبّ عن حريمها، وقمع من خالفها ).

٦/ السنن والمسند والجامع:
جزم الشيخ حسين أسد، وهو ممن حقق الكتاب، أن كلها وصف لكتاب واحد.

٧/ علو إسناده :
قال الشيخ عبد الحي الكِتّاني رحمه الله:( وله أسانيد عالية ثلاثيات، وثلاثياته أكثر من ثلاثيات البخاري ). ومنها ما أخرجه في
(كِتَابُ الطَّهَارَةِ)،  (باب الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ). حديث (٧٦٧)
حدثنا جعفر بْنُ عَوْنٍ ، أنبأنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَامَ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، قَالَ : فَصَاحَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَفَّهُمْ عَنْهُ، ثم دَعَا بدلو مِنْ مَاءٍ فصبه عَلَى بَوْلِهِ ).

٨/ شيوخه:
روى عنه جمع من الأئمة الكبار كالإمام مسلم وأبي داود والترمذي وعبد بن حُميد، وبُندار وبقي بن مخلَد وغيرهم...!

٩/ منهجه في الكتاب:
مرتب على الأبواب الفقهية كعادة مؤلفي السنن، يذكرونها للاحتجاج، وافتتح الكتاب بمقدمة رائعة جليلة ، ولَم يذكر شيئا من العقائد والإيمانيات، إلا ما كان من التقدمة، وكتاب الرقاق وكتاب الرؤيا ...!

١٠/ لطائف تراجمه :
امتاز باختصاره الشديد في تراجم الأبواب، وقبسها من الأحاديث، وربما صدرها بآية قرآنية أحيانا، أو تفقه فيها وأشار إلى الخلاف ومن ذلك:
(باب من أحق بالإمامة) في كتاب الصلاة وساق حديث مالك بن الحويرث ( وليؤمكم أكبركم ) وعقبه بحديث( وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ).
(باب الشرط في النكاح ) في كتاب النكاح وساق حديث عقبة بن عامر ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ).

1٠/ شروحاته :
لم يحظ الكتاب بعناية المتقدمين رغم شرفه وأهميته، حتى جاء بعض المعاصرين فشرحه وخرج أحاديثه..
وهو أبو عاصم نبيل الغمري وسمّاه ( فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن ). في عشرة مجلدات. طباعة دار البشائر- المكتبة المكية- سنة( ١٤١٩)هـ
وحققه بعض المعاصرين كالشيخ حسين أسد وغيره جزاهم الله خيرا .
وضمنه الحافظ ابن حجر رحمه الله كتابه ( إتحاف المهَرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة ).
والله الموفق...

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية