اطبع هذه الصفحة


وقفات مع آيات الحج.. المجموعة الأولى (١)..!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


حينما نتأمل آيات الحج، ونجمعها في القرآن، نلحظ قلتها وتفرقها، ولكنها ملأى بالدروس والوقفات التي ينبغي أن تكون محل اعتبار ودرس الفقهاء وأئمة المساجد، ليعاينوا عظمة ذلك الركن الأعظم، وما خصه الله به من آداب وأحكام..! ولو انعقدت لأجلها دروس الحج والمناسك لكانت نفعا وبركة وأساسا إلى حين .

وعزمتَ للشرح الأنيق بفقهكم*** والفقهُ طيبُ الفقه فق الآياتِ
هلا اتجهتَ إلى القران فإنه***أعلامُ فقه بالغُ اللمحاتِ


وهنا نقف ونحلل (آيات المقام، والصفا والمروة وآيات الأهلة) آية (١٢٥)و(١٥٨)و(١٨٩)، لأنها ذكرت الحج وتعلقت بشيء من أحكامه، فناسب البدء بهما قبل الآيات المشهورة في المناسك .

الأولى : قال تعالى:( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 125). قوله : مثابة للناس وأمنا: قيل: مرجعاً يثوبون إليه على كل حال، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فِي الْكَعْبَةِ : مَثَابًا لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الذَّوَامِلُ .

 وقيل: يثابون عليه ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ مِنْهُ وَطَرًا. وأَمْنًا مِنَ الْعَدُوِّ، وَأَنْ يُحْمَل فِيهِ السِّلَاحُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُتَخَطَّف النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَهُمْ آمِنُونَ لَا يُسْبَون.

الثانية:( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ): الأظهر أنه المقام المعروف، وتسن عنده الصلاة كركعتي الطواف، قال ابن كثير رحمه الله: " كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام، يقوم عليه لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِهِ ليقومَ فَوْقَهُ وَيُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ فَيَضَعُهَا بِيَدِهِ لِرَفْعِ الْجِدَارِ، كلَّما كَمَّل نَاحِيَةً انْتَقَلَ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، يَطُوفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ، كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ جِدَارٍ نَقَلَهُ إِلَى النَّاحِيَةِ التِي تَلِيهَا هَكَذَا، حَتَّى تَمَّ جِدَارَاتُ الْكَعْبَةِ..."

الثالثة: تسن ركعتا الطواف بعد كل طواف،كما هو مذهب الجماهير، وقيل بوجوبها والأول أصح، وتوضع خلف المقام إن تيسر، وإلا في أي موضع من الحرم .

 والسنة أن يقرأ فيها ( الكافرون والإخلاص ) ويخففهما، ولا يشرع الدعاء عقيبهما، وليس هنالك دعاء مخصوص للمقام، ولا يجوز التمسح بالمقام ، وهو من البدع المنكرة . ولو تركهما الحاج أو المعتمر لظرف وزحام وغيره فلا يضر طوافه، لأنها سنة، يُثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها .

الرابعة : قَوْلُهُ: ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ..) قَالَ الحسن رحمه الله: أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَاهُ مِنَ الْأَذَى والنَّجَس، وَلَا يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . وقوله( للطائفين ) الطواف المعروف( والعاكفين ) المقيمين فيه( والركع السجود ) المصلين هنالك ، وفِي ذلك تعظيم لشأن الطواف وأهله وزوار البيت والقاطنين فيه للعبادة .

الخامسة: يقول تعالى: ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ): هنا دليل على ركنية السعي بين هذين الجبلين الشهيرين ، سبعة أشواط، ولا يصح الحج بدونه، ولا يُجبر بدم. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: " أي أعلام دينِه الظاهرة، التي تعبد الله بها عباده، وإذا كانا من شعائر الله، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب. والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة، كما عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث النبوية، وفعله النبي ﷺ وقال: " خذوا عني مناسككم " ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما، لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام..".

 وحقيقة السعي عند الفقهاء: هو قَطْعُ المسافةِ الكائنةِ بين الصَّفا والمروةِ، سبعَ مرَّاتٍ في نُسُكِ حجٍّ أو عُمْرةٍ . ويُستحب السعي بلا شد ولا هرولة، إلا عند الأعلام الخضر، فالسنة السعي الشديد كما فعل رسول الله، غير المرأة فإنها ممنوعة من السعي لكونها عورة . قال العلامة ابن قدامة رحمه الله : " (وطواف النساء وسعيهن مشي كله) قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم ، على أنه لا رمَل على النساء حول البيت ، ولا بين الصفا والمروة , وليس عليهن اضطباع . وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجَلَد (القوة) ، ولا يقصد ذلك في حق النساء ، ولأن النساء يقصد فيهن الستر ، وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف..!

السادسة : ( فمن حج البيت أو اعتمر، فلا جناح عليه أن يطوف بهما): فيه إثباتهما في النسك، وقد كانا صنمين على الجَبلين يقال لهما( إساف ونائلة ) فلما جاء الإسلام، وحُطمت الأصنام تحرجوا من الطواف بهما، فرفع الله الجُناح عنهم، وأخبرهم أنهما من شعائر الحج، وقد سأل عروة بن الزبير رحمه الله خالته عائشة رضي الله عنها: أَرَأَيْتِ قَوْلَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يطَّوف بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أوّلتَها عليه كانت: فلا جناح عليه أَلَّا يَطَّوَفَ بِهِمَا،.. وفيه لما تحرجوا: فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نطَّوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّوَافَ بِهِمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدع الطَّوَافَ بِهِمَا. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ..!

 وفِي قولها: فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. تأكيد لوجوبهما، وأن السعي ركن لا مناص منه .

السابعة : قوله: ( فمن تطوع خيرا فلا إثم عليه): أي من أحب الزيادة على السبعة الأشواط فلا حرج عليه ولا تبعة ، قيل: من حج تطوع أو اعتمر تطوع فإنه يسعي بينهما، أو التطوع في سائر العبادات . وقد ورد الأمر بالسعي بقوله( إن الله كتب عليكم السعي، فاسعَوا ) وصح أن ذلك إحياء لأثر (هاجر أم إسماعيل) وقصة( انهمار زمزم) المشهورة، قال العلامة ابن كثير وحمه الله في تفسيره : " فَلَمَّا خَافَتِ الضَّيْعَةُ عَلَى وَلَدِهَا هُنَالِكَ، وَنَفِدَ مَا عِنْدَهَا قَامَتْ تَطْلُبُ الْغَوْثَ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ تَزَلْ تَرَدَّدُ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُشَرَّفَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُتَذَلِّلَةً خَائِفَةً وَجِلَةً مُضْطَرَّةً فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ كُرْبَتَهَا، وَآنَسَ غُرْبَتَهَا، وَفَرَّجَ شِدَّتَهَا، وَأَنْبَعَ لَهَا زَمْزَمَ التِي مَاؤُهَا طَعَامُ طَعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ، فَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فَقْرَهُ وَذُلُّهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ فِي هِدَايَةِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِ حَالِهِ وَغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَأَنْ يَلْتَجِئَ إلى الله، عَزَّ وَجَلَّ،ليُزيح مَا هُوَ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ،..! اهـ . وصح حديث( فذلك سعي الناس بينهما ).

الثامنة : قوله:( فإن الله شاكر عليم): أي شاكر لعباده ، ومطلع على نواياهم ومقاصدهم، فيكشف الصادق، من المرائي، فهو مُجَازٍ لِعَبْدِهِ بِعَمَلِهِ ﴿عَلِيمٌ﴾ بِنِيَّتِهِ. وَالشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَ لِعَبْدِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ. يَشْكُرُ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي الْكَثِيرَ.

التاسعة : حول قوله تعالى في الآية الأخرى: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج): قيل سأل بعضهم رسول الله: عَنِ الحِكْمَةِ في اخْتِلافِ حالِ القَمَرِ وتَبَدُّلِ أمْرِهِ، فَأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُجِيبَ بِأنَّ الحِكْمَةَ الظّاهِرَةَ في ذَلِكَ أنْ تَكُونَ مَعالِمَ لِلنّاسِ يُؤَقِّتُونَ بِها أُمُورَهُمْ، ومَعالِمَ لِلْعِباداتِ المُؤَقَّتَةِ يُعْرَفُ بِها أوْقاتُها. وخُصُوصًا الحَجَّ فَإنَّ الوَقْتَ مُراعًى فِيهِ أداءً وقَضاءً..،! وكذلك عباداتهم ووقوت عُدد النساء .

 و( الأهلة ): جمع هلال؛ وهو القمر أول ما يكون شهراً؛ وسمي هلالاً لظهوره؛ ومنه: الاستهلال؛ والإهلال هو رفع الصوت،...! وهو نعمة من الله تساعد على معرفة الأوقات وتحديد العبادات ، فيرتفع الحرج والجهل .
 ولذلك كانت العبادات مرتبطة بالهلال وظهوره كما قال ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) وكذلك الحج وتحديد وقوف الناس حسب هلال ذي الحجة ، وليس ذلك بالحساب وكلام الخراصين ، وفيه دليل على إبطال الحساب الفلكي .

العاشرة : قوله( وأتوا البيوت من أبوابها ): في الصحيح: عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أتَوْا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ .

 وهنا تنبيه على حقيقة التقوى، وأنها ليس بحركات مخصوصة، ولا عادات معينة، كما يصنعون في الجاهلية إذا أحرموا أو سافروا دخلوا البيوت من ظهورها أو تسوروها..!

الحادية عشرة : في ذلك ذم العادات المخالفة، والبدع المجافية، لأنهم فعلوا ذلك ديانةً وتعبدا، فنهاهم الله عن ذلك، ونبههم على البر الحقيقي، الكامن في تقوي الله ومراقبته ( ولكنّ البر من اتقى ).

الثانية عشرة : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) هنا عاد مكرراً فضل التقوى، وأنها طريق الفلاح، وبوابة الفوز، وسبب الظفر والانشراح ، والحاج محتاج إليها، كما هي حاجة كل عابد وسائر إلى الله تعالى .

الثالثة عشر: والفلاح الناتج عن التقوى يومئ بسلامة الحج وصحته وبره، وأن صاحبه من المفلحين الناجحين ، فقد استكمل شروطه وأتى على واجباته، ولَم يخلّ بآدابه
 والحج المبرور من صور السرور والفلاح، حيث يبلغ تقوى الله، ويصيب السنن، ويحط التفث، ويحرق الذنوب، ويصل الناس، ويقيم ذكر الله، ويضبط الجوارح، ويعود الى أهله وقد تغير، منشرح الخاطر، بالغ المسرة . والله الموفق، وسيتلوها بقية الوقفات، والحمد لله على إحسانه.....!

١٤٤٠/١٢/٤هـ

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية