اطبع هذه الصفحة


وقفات مع آيات الحج.. المجموعة السادسة(٦)..!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000



ذُكرت في (سورة الحج) عدة مسائل تتعلق بالحج والمناسك، كتعيين البيت لإبراهيم عليه السلام ، ووجوب الحج والنداء به، والأضاحي وطواف الإفاضة ، ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرا ٰ⁠هِیمَ مَكَانَ ٱلۡبَیۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِی شَیۡـٔئا ، وَطَهِّرۡ بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡقَاۤىِٕمِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ (٢٧)﴾ [الحج ٢٦-٢٧] .

الأولى : ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَوأ إِبْرَاهِيمَ مكانَ الْبَيْتِ، أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهُ"، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ...

الثانية: قال الإمام ابن كثير رحمه الله: " قوله : ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ أَيْ: نَادِ فِي النَّاسِ دَاعِيًا لَهُمُ إِلَى الْحَجِّ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ. فَذُكر أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُبْلِغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لَا يَنْفُذُهُمْ ؟ فَقِيلَ: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ : عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ: عَلَى أَبِي قُبَيس، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وأسمَعَ مَن فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَر ومَدَر وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ".

الثالثة: قال ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ قَدْ يَستدلّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا، لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، أفضلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هِمَمِهِمْ وَشِدَّةِ عَزْمِهِمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ومعنى رجالاً: أي ماشين على أرجلهم جمع راجل ، والضامر: هو الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ، وفج عميق: طريق بعيد .

الرابعة: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ قَالَ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ أَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِ البُدْن وَالرِّبْحِ(١) وَالتِّجَارَاتِ. وتقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في سورة البقرة ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ..).

الخامسة: ثم قال تعالى : ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ﴾ يروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ هي أيام العشر وهو الصحيح، وهي أفضل أيام الدنيا تُندب فيها الصالحات ، والمعدودات هي أيام التشريقِ كما تقدم .

السادسة: وَقَوْلُهُ ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ فيها سنية الأكل من الأضاحي، ولَم يصب من أوجب ذلك . قال النخعي رحمه الله: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ شَاءَ أَكَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ نَحْوُ ذَلِكَ.

والسنة فيها قسمان وقيل ثلاثة أثلاث ، والأمر واسع، والمقصد إحياء ذلك ديانة، وتلمس المحتاجين فيها، وتحقيق التقوى لله تعالى .

السابعة: ثم قال تعال؛( ثم ليقضوا تَفثَهم، وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت العتيق ): قيل التفث: المناسك ، والنذور: الذبائح وكل ما نذره الحاج، وليطوفوا: قيل طواف الحج يوم النحر، المسمى بالإفاضة والزيارة .

الثامنة : قال ابن كثير رحمه الله : وَهَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مِنَى يَوْمَ النَّحْرِ بَدَأَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ نَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ ".

التاسعة: حكم طواف الإفاضة: أنه من أركان الحج العظيمة، للآية الكريمة، وحديث صفية( أحاسبتنا هي ). وأجمع الفقهاء على ذلك.

العاشرة : وَقَوْلُهُ: ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ : قال ابن كثير رحمه الله : " فِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ، الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنْ كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ، حِينَ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ؛ وَلِهَذَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ وَرَاءِ الحِجْر، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَسْتَلِمِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتَمَّمَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ الْعَتِيقَةِ..!"
وللفائدة: ذكر أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره: أنه سُمي "بالعتيق" لأحد أربعة أمور: كونه أُعتق من الجبابرة، أو لم يُملَك قط، أو أنه القديم، أو أن الطوفان لم يُغرقه، والله أعلم .

الحادية عشرة: ثم قال تعالى : ﴿ ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ أَيْ: وَمَنْ يَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ وَمَحَارِمَهُ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ. وقال مجاهد رحمه الله: الْحُرْمَةُ: مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا.
ولا ريب أن المناسك والحج والشهر الحرام من الحرمات التي تستوجب تعظيمها ومخافة الله فيها .

الثانية عشرة: ثم قال تعالى: ( وأحلت لكم الأنعامُ إلا ما يتلى عليكم) أي مباح لكم ما تذبحونه منها ، إلا ما بين لكم تحريمه،( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) حذرهم عبارة الأصنام ، وكذلك شهادة الزور، والتي يتوصل بها للباطل، وتؤكل حقوق الناس.

الثالثة عشرة: ( حُنَفَاۤءَ لِلَّهِ غَیۡرَ مُشۡرِكِینَ بِهِۦۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّیۡرُ أَوۡ تَهۡوِی بِهِ ٱلرِّیحُ فِی مَكَانࣲ سَحِیقࣲ﴾ [الحج ٣١] .
لما كان الحج مظهرا من مظاهر التوحيد والإخلاص والوحدانية لله تعالى، حذرهم الشرك وأنواعه، قال البغوي رحمه الله : ( حُنَفَاءَ لِلَّهِ) مُخْلِصِينَ لَهُ، ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ، وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ، يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ حَنِيفًا .

ثم قبّح لهم صورة المشرك بالله، وكيف أنه ضلّ طريقه، وأفسد حاله، ومحق حياته( فكأنما خر من السماء..) قيل: شَبَّهَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِحَالِ الْهَاوِي مِنَ السَّمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حِيلَةً حَتَّى يَقَعَ بِحَيْثُ تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِمَّا بِاسْتِلَابِ الطَّيْرِ لَحْمَهُ وَإِمَّا بِسُقُوطِهِ إِلَى الْمَكَانِ السَّحِيقِ...! والله تعالى أعلم .

١٤٤٠/١٢/٧هـ
hamzah10000@outlook.com



 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية