اطبع هذه الصفحة


أنا مشروع، وفلان مطبوع...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


تأملتُ الأعلام الذين خلّفوا كنوزا مبهرة، كانت كمشاريع عمرية، انقطعوا لها، وكيف انتفع بها الناس إلى هذه الأيام، كالأئمة الأربعة، والبُخَارِي(٢٥٦)هـ ومسلم(٢٦١) والنووي(٦٧٦)هـ وابن قدامة(٦٢٠)، وابن الجوزي (٥٩٧) وابن تيمية(٧٢٨) وابن حجر(٨٥٢)، والقَرافي(٦٨٤) هـ ، وابن القيم(٧٥١)هـ وابن كثير(٧٧٤) والسيوطي(٩١١) وأمثالهم رحمهم الله ..!! فهل فكّر طلاب العلم، وعشاق المعرفة في ادخار أعمارهم (للمشاريع العلمية) المنتجة، بدلا من التذبذب والشتات العلمي والدعوي، والترقيع الثقافي الدائر بين العلم والآخر، والفكرة وأختها، والمنحى وشبيهه ، والتخصص وقسيمه، بحيث يَعمرون سنيّ حياتهم ، ويستثمرون هممهم، فلا يذهب العمر سُدى، أو تتفرق الهمة شذَر مذَر...! وإنك إن قلبتَ طرفَك لم تَر... سوى البحر منشورا بغير نظيمِ ...! وهذا ضربٌ من (الفقه المنهحي) في التعامل مع العلم وقضاياه وأسفاره ومدارسه ، لأن العلمَ وسيع، والعمر قصير، والحياة صارفة، والناس متلهفة..! والحكمة الفقهية تقتضي وعي ذاك، وإدراك متطلباته ، وإلا ذهبت أوقات، وفُقدت أولويات، وبتنا بين ويلات ومنغّصات..! كما قال بعضهم عن المشتَّت علميا: وكنت إذا ما الفقهُ لاح بناظري/ وهيّجني التحديثُ والفكر والفسْرُ ...قطفتُ من الأزهار خمسين زهرةً/ فخَاننيَ التركيز والفهم والزهرُ ..!

وللمنهجية الواضحة، والمشروع العمري الثابت ، تأملْ انقطاع (أبي هريرة الحديثي)(٥٩)هـ، كيف جعل منه معلَما للناس، وعلَماً يقصده الأصحاب من كل مكان. ودقّق في سلوك (خالد الجهادي)(٢١)هـ ، يبين لك كيف أنه جعله رسالته وغايته في الحياة، حتى أعزّ الله به أمةً، ورفع به راية...!

ونعني "بالمشروع" : نشاط علمي أو عملي محدد مستغرق ، يقام لتحقيق إنتاجية معينة، أو تأثير عميق، أو خلاصة بحثية...! "والمطبوع" الشخصية الميالة إلى اتجاه علمي أو نفعي مثمر، أو يطبعها أشياخها على ذلك، حتى تبلغ الغاية، وتنتج ما فيه الدراية والعناية. والمدارس والحلق العلمية تكشف وتصنع مواهب أولئك وميولاتهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالحكمة والفقه، وقال لابن مسعود( إنك غليّم معلم ) وكان لهما أحسن الأثر في الأمة .

ومن طرائق الطلب العلمي الجميلة، والنفع الدعوي المثمر، -بعد ضبط المُهمات والمتون الأولية، والثقافة المبدئية، ولكي يتم النضج العلمي، والتأصيل البنيوي للطالب، - الاضطلاع بمشروع عُمري، وجهد عصري تنقطع له، وتحيا من أجله، وترصده رصد العارفين به، والمتعلقين بجذوره، فتُعده إعدادا مبرما، وتُحكِمه إحكاما متقنا، دون ملَل أو كلل، على حد قول القائل : لأستسهلنَّ الصّعبَ أو أُدركَ المُنى ... فما انقادتِ الآمالُ إلّا لصابرِ ..! فاصبر على أنات المتاعب، لتطعم مزاهر السعادة، وجدَّ بلا تكاسل، لتذوق حلاوة الثمار، وتجلّد بلا تعلل وتأخر، لتصعد المعالي، وتنال الغوالي...( أولئك يُجزَون الغُرفة بِمَا صبروا ) سورة الفرقان . فلَم يكن هينا على الأئمة الأعلام ابتداء، وهم يقاسون المتاعب في الطلب والجمع والتأسيس، أن يتراجعوا عن برامجهم ، وهم يعلمون عظم أثرها، ولذلك مكث الإمام البخاري رحمه الله -على سبيل المثال- ست عشرة سنة(١٦) يحرّر ويراجع في كتابه، ويستيقظ في الليلة الواحدة قرابة (٢٠) مرة، مستحمِلا ذلك حتى بلغ غايته، وحقّق مُنيته ... ومن ذلك :

أولا: التزامُ كتاب محدد: والمكوث على نسخة شهيرة، ومصنَّف فذ، محشو بالفوائد والنوادر ويعتبر أصلا علمياً، يكرر ديمةً، بحيث يصبح الأخَ الصالح، والرفيقَ اللصيق، والصديق الأنيق ، والزميل النبيل، والسمير المنير، والحبيب اللذيذ، والعشيق الرقيق... من لا يُمل حديثه، ولا تُستوحش صحبته، ولا تكدر زمالته...! وقد كان نهجاً للأئمة الأقادم، منهم المزني( ٢٦٤)هـ تلميذ الشافعي (١٥٠)هـ رحمهما الله، قال : "قرأت كتاب " الرسالة " للشافعي خمسمائة مرة(٥٠٠) ، ما من مرة منها إلا واستفدت فائدة جديدة، لم أستفدها في الأخرى" ووالد المفسر أبو بكر بن عطية رحمه الله، " ذكر أنه كرر " صحيح البخاري " سبع مئة(٧٠٠) مرة. وكان أديباً ، شاعراً ، لغوياً، ديناً فاضلاً، أكثر الناس عنه، وكف بصره في آخر عمره ". ومنهم محمد بن عبد الله أبو بكر الأبهَري الفقيه "قرأ مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة(٥٠٠). والأسدية خمساً وسبعين(٧٥) مرة. والموطأ خمساً وأربعين(٤٥) مرة. ومختصر البرني سبعين مرة(٧٠).." وغيرهم كثير، وثمة مقالات تشرح ذلك وتثريه .

وفِي ذلك ترسيخ وتثبيت، وتصبير، وتدريب، وحفظ وصيانة، والتزام واستقامة، وعيش رغيد، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة...!

ومن أحسنِها علما، وأغزرها فهما، وأجلها فائدة، وأحسنها عاقبة:
"المغني"، الكتاب الموسوعي لابن قدامة المقدسي، الفقيه الفذ ، وشيخ الحنابلة، يعرّفك الفقه ومذاهبه، والأقوال وأدلتها، والاستنباط وآلاته، والترجيح وأدواته .
و"فتح الباري" للحافظ المجدد ابن حجر العسقلاني(٨٥٢)هـ، فيه جُل الجواهر والكنوز ، وحوى الدرر فقها وفهما، وتأصيلاً وتحريرا، وأخبارا وآثاراً ،وتحقيقاً وتدقيقا، ولما قيل للشوكاني(١٢٥٠) رحمه الله : اشرح صحيحَ البخاري قال: "لا هجرة بعد الفتح..!" فقدِ التهمَ الشروح السابقة، وزاد عليها واستدرك، ونبه وأفاد، وأربى وأغدق، فكل واشرب وتصدق ....
"الصحيحان" المذهّبان للشيخين الجليلين البخاري ومسلم رحمهما الله، هما منارتا الإسلام، بعد القرآن، صحّا علماً، وطابا فقها، وزانا حُسنا وفائدة، فيهما الأصول، ومنتهى المأمول ، ومنية المحصول ، ما ضبطَهما أحد إلا عزّ، ولا سامَرهما إنسان إلا بزّ، قد تجلا تياجين، وطابا رياحين، وضاعا أفانين ..!
"زاد المعاد" للحافظ ابن القيم رحمه الله، قيّم العلوم، وسيد الفهوم، وصاحب الدرر والنجوم، ما كتب في قضية الا أشبعها، ولا مسألة إلا حررها، ولا نادرة إلا مهَرها، ارتبطت به معاني العلامة المحقق، والفقيه المدقق، والشارح المتقن ، فيا لله كم ترك من تراث، وكم خلف من أثاث، وكم أشبع من طلاب وغياث...!

وفِي الزاد زادٌ للفقيه ومتعةٌ/ وفيه يواقيت ودرٌ وجوهرُ
وإن عجبٌ فاعجبْ من الزاد كلهِ/ فما زال فينا بالنفائس يزخر ُ

تخيل لو أن طالب العلم عكف دهره ، وبقي عصره على بعض هذه الأسفار، يعيدها ويكررها، ويؤمها في كل لحظة وساعة، كيف سيبلغ منه الإتقان مبلغه، أوينتهي به الوعي منتهاه، ويأتيه الرسوخ بلا متاعب وأكدار ...!

وقد طال عيشي في الكتاب وإنه... لذاذةُ عمر زانها الطيب والفخر ُ
حفظتُ مراميه وعاينتُ قعرَه... فلله هذا السفر ما بزغ الفجر ُ


ثانيا : العكوف التأليفي: على متن شهير، أو كتاب نمير، أو فكر مبتكر، فيُقرب تقريبا، وييسر تيسيرا، بحيث يَبيتُ مرجعا، تنهل منه الناس، وتتربى عليه الأجيال ، كالمتون المشهورة، وبحاجة إلى شرح مبسط، أو تعليق مبين، نحو: الصحيحين- الأربعين النووية- العقيدة الطحاوية- كتاب التوحيد -
تقريب المطولات : تُهذب تهذيبا، وتختصر اختصارا، يخرجها من إطار الطول والصعوبة نحو: فتح الباري- المغني- التمهيد- المبسوط- البداية والنهاية - وأشباهها من الكتب الموفورة جهدا وغناءً وإفادة . ويراعي في الاختصار الدقة والتخفيف، والمحافظة على الأصل، وعدم حذف الجواهر والمعمقات، التي حذفها يضر بالمختصر، ويُسيئ للأصل .
أو الاشتغال على (فكرة ابتكارية) جديدة تنضاف للمكتبة الإسلامية العامرة، عبر منهجية (البحث العلمي)، القائمة على التجديد والموضوعية والاستدلال، نحو ما صنع الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه و(١٦) سنة في جمعه وتحريره كما تقدم، والإمام مسلم رحمه الله، و(١٥) سنة في مراجعته وترتيبه، ومالك و(٤٠) سنة في الموطأ، وتدقيقه، والإمام الشافعي في الرسالة، وأضرابهم من الأعلام الذين صنفوا مصنفات لا تزال ينابيعها فياضة، وأنسامها فواحة ، وأيضا كشرح النووي على مسلم، وفتح الباري للحافظ، ظل فيه قرابة(ربع قرن) حتى أنضجه إنصاجاً، فاخضوضرت فيه الأفانين الفاتنة، والزنابيق المستعذَبة، والرياحين النفاثة ، وجاء بكل مدهشٍ ولذيذ وعجيب، ولله الحمد والمنة .... فتحتَ بالفتح كلَّ البيد والحُصُنِ/ فانقادت القومُ للإبداع والحسنِ../ رأوا الجمال وضوءَ البدر قد سطعا... بالزخرفاتِ وماءِ الورد والفَننِ
وليُنتبه أنه ليس كل مؤلف أو كاتب يحسن الاختصار وتقريب المطولات ، فإنه فنّ دقيق، ولو تُصور سهولته ابتداءً ...!!
أو الالتزام التحقيقي العلمي: من نحو صناعة بعض المشايخ المعاصرين كالشيخ محمد محي الدين(١٣٩٢)هـ وشوقي ضيف( ٢٠٠٥)م ، وأحمد شاكر(١٣٧٧)هـ، ومحمود(١٤١٨)هـ رحمهم الله، ولا يمكن تناسي مشروع المحدث الألباني(١٤٢٠)هـ رحمه الله في (تقريب السنة لعموم الأمة) عبر مصنفاته العجيبة، وتحقيقاته النادرة، وكيف قيّضه الله، وادخر عمره لهذا الجهد العظيم، في زمان اتسعت فيه الخرافة، ونجمت البدعة، وانتشرت الأباطيل، وكان لتجديده الحديثي مشاعل أيقظت الناس وحفزت التلاميذ إلى الاعتناء بالسنن وحفظها وصيانتها .

ثالثاً: التعليم القرآني: لحملته العاملين، وأربابه المتقنين المهرة، يحتسبون فيه ساعات، ويدومون به لحظات وأوقات كما صنع الأئمة قبلهم كأبي عبد الرحمن السلمي(٧٤)هـ رحمه الله: حيث مكث في جامع الكوفة الأعظم نحو أربعين(٤٠) سنة، فلما سئل عن هذا المقعد الطويل، والمنزل العتيق قال: حديث : ( خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه )...!! هو الذي أقعدني ذاك المقعد..! ومن فوائد ذلك: نشر القرآن وتمكينه من القلوب، وحفظ الناشئة من الضياع والانحراف، تقوية اللغة العربية والعناية بها، تخريج حفاظ القرآن والعون على مراجعته ، وتثبيت النفوس على الحق في أزمنة التفلت والاضطراب .

رابعاً: تدريس أمهات العلوم ومتونها المشتهرة: في العقيدة والتفسير والحديث والفقه واللغة وشبهها ، لا سيما لمن أوتي علما، وحاز أسلوباً، ورُزق بيانا مؤثرا.. نحو: العقيدة الطحاوية والواسطية، وكتاب التوحيد- ومختصرات ابن كثير- والصحيحين ومختاراتهما-وعمدة الأحكام والبلوغ- والروض المربع ومنار السبيل وفقه السنة- والبيقونية والنخبة-
وفي استدامة التدريس العلمي لها مدى الحياة فوائد منها :
تأسيس قاعدة علمية من الجيل - وتربية سليمة على العلم ومحبته- ومحاربة للجهل والخرافة- والتصدي للجهال والمنحرفين والمنافقين والمبتدعة - وإحياء الإيمان والمنهجِ القويم في حياة المسلمين -ومراغمة الباطل ودحض جيوشه وخزعبلاته- تعميق التفقه والاستنباط منها . ولعل من النماذج الموفقة في هذا الباب شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين(١٤٢١)هـ رحمه الله، فقد ادخر عمره للتدريس العلمي، والصناعة الفقهية، وأعرض عن الدنيا وحلوائها، والمناصب ومغرياتها، و الأموال ومشاغلها، وانقطع انقطاعا عجيبا، يدرّس ويعلم ويفقه، ويصنع ويربي ويؤسس، حتى تخرج عليه علماء وفضلاء ونبغاء..!
ولا زالت شهرته نيّرة من جراء ذلك (العلم المؤسس)، وتقوم جهته الخيرية على تفريغ تلك الدروس العلمية، وتطبعها وتوغل في حسن إخراجها، ولما رأينا مكتبته العلمية من خلال مؤسسته الخيرية في ( معارض الكتب )، عاينا فضل العلم المنتفَع به، والميراث المتروك، والجهد والمخلّف( أو علم ينتفع به ) وأن خيار الشيخَ العُمْري كان العلم وتبليغه، والعيش على إتمامه وتبسيطه ...! وظللتُ في هذي الحياة معلّماً... للذكر أبغيه ولستُ أزيدُ
عز لنا التعليم ننشرُ وردَه... ونضيئه لمثابرٍ ونُفيدُ

خامساً : البلاغ الدعوي الإيماني: الذي يُحيي القلوب، ويرقّق النفوس، ويذكرك بمواعظ ابن الجوزي(٥٩٧)، وإحيائيات الغزالي، وسلوكيات ابن القيم، ولطائف القشيري(٤٦٥)هـ رحمهم الله، الذين شعت المنائر في كتبهم من إطلالتها الأولى، وبان حسنها قبل فقهها، وسطع حلوها قبل درها ، ولا تزال الأمة تنتفع بذلك المسطور، وتطمع في كل مجدِّدٍ منظور، يطرح الترقيقَ الأبهج، والتأثير الأطرب، والتبصير الأطيب . ( ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله..) سورة فصلت . وجعلُ ذلك مشروعا يتجدد كل أسبوع، أو كل أسبوعين، مُزيّناً ، مطيّبا، محسّنا، قد تلفّف العلم، وزانه التأصيل، واستوفى التسهيل والتقريب، بلا تعقيد مسبق، أو تكلف متعمد، سيكون له حسن الأثر والعاقبة، والله لن يضيع أجر من أحسن عملا...!

وثمة دعاة هداة، سدّدهم الله منطقا، وألانَهم أسلوباً وانتفاعا، فهولاء مشروعهم الدعوة والوعظ الإيماني والأخلاقي ..! لا يبرحوا ساحته، ولا يغادروا منتداه، ويسيرون فيه على خطى ثابتة، متزودين بالعلم، ومذاكرين على الدوام، ومحددين لثقافتهم، غير مبالين بمثبط ناقم، أو ملوث حاقن، ولينفضوا عنهم غبار كل ضال وضلالة، وهوان كل بليد وبلادة، فما أوتيت الدعوة إلا من جهال سُذج، أو منافقين خلّص، لا هم لهم الا إشباع البطون، واستحلاء الملذات، وخدمة أصحاب الشهوات، ليستطيلَ باطلُهم، ويشتعل هرجهم وشقاؤهم، والله المستعان .

سادسا: الجهاد المسجدي: صلاةً وإمامةً وتربية، ودعوة وترتيبا..! إذ نسمع عن مشايخ أجلة مكثوا طويلا يؤمون الناس بأصوات حسنة، وحناجر رطبة، ولكنهم قصّروا من حيث القراءة اليومية والدرس المسجدي، الذي من خلاله يختمون كتباً، ويشقون أسفارا، وينفعون أجيالا، ويحيون مساجد كادت أن تموت، وجوامع ضيع جهدها، وذوبت مكانتها، ويستطيع المجدون فيهم صياغة (البرامج العلمية)، والاستضافات الدعوية، التي تجعل من أحيائهم لؤلوةً حسناء، ودرة غراء، تقصدها الجموع من كل حدب وصوب . ولا يكتفون بمجرد الإمامة وحسن الصوت، بل بجب أن يعتلي المسجد دوره، ونستحضر المنهاج النبوي في تجديده والنهوض به، بحيث يكون ينبوعا يُغيث العطشى على الدوام . وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مقالات سابقة : - القيادة المسجدية والتربية المسجدية، وقيادة إمام المسجد، والمساجد ورياض الصالحين - وقررنا فيها القدرة الذاتية على ختم الكتب، وأن هنالك من ختم: رياض الصالحين نحو أربع مرات وبعض كتب السنة، وهناك من شرحه وعلق عليه، ومختصرات التفسير والفقه، وكتب تهذيبات السلوك كمختصرات ابن القيم وغيره...!

سابعا: الخدمة الاجتماعية الخيرية: المعينة للناس، والقاضية للحوائج ، والمنفسة عن أيتام الطلبة، ونابغي الأحياء، فتسندهم، وتحفز هممهم، وتفتح لهم أبواب الفوز والنجاح، ولا يَطيب ذلك ويزين إلا عبر المؤسسات الخيرية والأهلية ، التي تأخذ على عاتقها نفع الآخرين، واحتساب الأجر، وقصد الثواب، وإعداد الأجيال، ولهم في رسول الله الكريم المفضال أصدق الأمثال ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصلُ الرحم، وتَحمل الكَل، وتَقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق ) . وفِي القرانِ :( وجعلني مباركاً أينما كنت ) قيل: نفاعا للناس، وقاضيا لحوائجهم .
ومع ما في ذلك من العطاء الاجتماعي الأخاذ، فهو نافذة لمعرفة المحتاجين، والأسر الفقيرة المُجدة، ودعم أبنائها الأفذاذ، وطلابها النوابغ، لأنهم أنفع للأمة من بعض أبناء الأغنياء، الذين خطفتهم المناعم، وغرتهم النفائس-في الجملة- وذهب بهم الترف كل مذهب ، قال تعالى :( ولا تَمُدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرةَ الحياة الدنيا لنفتنَهم فيه )سورة طه. وقال سبحانه:( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) سورة الواقعة .
ونستحضر هنا مقولة العلامة ابن حزم(٤٥٦)هـ للباجي(٤٧٤)هـ رحمهما الله، راداً عليه احتجاجه بالفقر على ضعف التحصيل قال :( بل أنا أحق بالعذر ،فإن أكثر مطالعتي كانت على منابر الذهب ) ! أراد أن الغنى أدعى إلى ترك التحصيل العلمي ....كما قال أبو نواس الشاعر : إن الشباب والفراغَ والجِده ... مفسدةٌ للمرء أي مفسدةْ..!
والمقصد أن هذا مشروع حياة عمري، لا يقل أهمية عن التدريس العلمي أو البلاغ الدعوي، بل قد لا تنهض تلك العطاءات العلمية إلا من خلال الوفرة المالية، والشحن الخيري، ومن هنا تعرف أهمية اتجار بعص العلماء كسفيان(١٦١)هـ وعبدالله ابن المبارك(١٦١)هـ، رحمهما الله، يقول ابن المبارك :( إني لأعرف مكان قوم لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه، والناس محتاجون إليهم، وهم بحاجة إلى أنفسهم وذراريهم، فإنْ تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بَثُّوا العِلم لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة، أفضلَ مِن بَثِّ العِلم ). وقال الثوري :( إنما اتجرتُ، لئلا يتمندل بنا هؤلاء ) أي يجعلوننا مماسح لهم كالمناديل .

ثامناً: النفع الإفتائي : والذي قد يكون ثمرة من ثمار العكوف الكتابي الفقهي، لا سيما والحاجة ماسة، والنَاس في تساؤل دائم، ورغبة ملحة، ولخطورتها لا يقصدها إلا مهَرة الفقهاء، قال الإمام النووي رحمه الله : ( اعلم أن الإفتاءَ عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع، كثيرُ الفضل؛ لأن المفتيَ وارثُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، لكنه مُعَرَّضٌ للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى ). وثمة شرائط ووجبات للإفتاء عليه التمكن فيها، يجمعها التأصيل القرآني والأثري واللغوي والأصولي لنصوص الأحكام .
فمن علِم من نفسه الأهلية، فليتعلم على سلالم الفقه ، كالمتفقه الحنبلي الذي يتعلم على "الزاد" فيحفظه ، ثم يكرر "الروض"، محشياً، ويقرأه على الحذاق، ثم "الحاشية"، "فالإنصاف"، و"المغني" عنايةً وتكرارا، مع مشامّة كتب المذاهب الأخرى، حتى يعي الخلاف، ويطالع كتب محققيهم ويفقه القواعد والأصول، ويتحفظ أدلة الأحكام "كالعمدة" و"البلوغ"، فيبرز للناس محتسبا مخلصا، يحل إشكالاتهم الفقهية، وسؤالاتهم الشرعية ، ولا يكون ذاك إلا بالعلم المؤصل، والفقه المتقن ،ومطالعة كتب المفتين وطرائقهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله(١٥٠): ( ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام، إلا من جهةِ العلم، وجهةُ العلم ما نُصَّ في الكتاب أو في السُّنة أو في الإجماع أو في القياس على هذه الأصول وما في معناها، قال تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) سورة يونس .
وممن تميز بذلك الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم المشاهير الذين طبقت فتاويهم الآفاق، وفقهاء التابعين وقضاة الأمصار رحمهم الله . ومن معاصرينا ابن باز وابن عثيمين تميزا إفتائيا وغالب هيئة كبار العلماء ، وقد ذُكر لابن باز رحمه الله أكثر من إحدى عشر ألف فتوى في برنامجه الشهير( نور على الدرب ). فضلا عن المجالس الأخرى .

وقد اشترط الأئمة شروطا للمفتي عليه العناية بها، منها:
١/ العلم بآيات الأحكام من القرآن الكريم.
٢/ العلم بأحاديث الأحكام من السنة الشريفة.
٣/ العلم باللغة العربية.
٤/ العلم بأصول الفقه.
٥/ العلم بمسائل الإجماع حتى لا يخالفها.

تاسعاً : الجبهة الفكرية: الجامعة بين العلم الشرعي والوعي الفكري بالأعداء ومخططاتهم والأديان وفرقها، والمذاهب ومدارسها، والطوائف ومسالكها، قال تعالى:( وكذلك نُفصل الآيات ولتستبينَ سيبيلُ المجرمين ) سورة الأنعام .
وفِي هذا المسار، حفظ للإسلام، ودفاع عن عقيدته، وكشف لخصومه، وردع لترهاتهم ، ومعالجة لشبهاتهم، والتي قد تنطلي على جهال جُدد، وعوام بُله..! وانظر لآثار من سدّ تلك الجبهة في القديم: كالغزالي الأصولي وابن رشد(٥٩٥)هـ وابن تيمية(٧٢٨) وابن خلدون(٨٠٨)هـ وابن حزم(٤٥٦)هـ رحمهم الله. وحاليا: كالمفكر مالك بن نبي(١٣٩٣)هـ والداعية الشيخ أحمد ديدات(٢٠٠٥)م والدكتور المسيري(٢٠٠٨) والسميط (١٤٣٤)هـ، والغزالي(١٤١٦)هـ ، والأستاذ أنور الجندي () وأشباههم من أرباب الصولات الفكرية، والكفاح الدعوي العريض في هذا السياق .
وهذا العطاء ما ينبغي الاستهانة به من قبل حملة العلم الشرعي وحفاظ المتون، لأنه تمس الحاجة إليه زمن انتشار الشبهات والأفكار الضالة والملحدة، كما في العصر الراهن، وعليه ينبغي أن يكون في استراتيجية الدعوة الاسلامية "صناعة مفكرين"، كذا ديدنهم وعلمهم وتخصصهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،وتلويث المتنورين ويتصدون للأعادي بكل وعي وحذق وصرامة .

عاشرا: الفقه المؤسسي : القائم من خلال كيانات علمية مؤسسية منظمة، تخضع لخطط وبرامج مدروسة تقدم "العلوم الشرعية" المهمة ، ويشرف عليها قادة ومتخصصون موثوقون، برعاية حكومية ناضجة، كالجامعات الإسلامية المشهورة في المملكة ومصر والشام- الإمام والأزهر والإسلامية بالمدينة- أو أهلية، وقفية، تمنحهم الاستقلالية والارتقاء ، وقد تكون نشأتها ميدانية، أو الكترونية، وثمة نماذج على أرض الواقع، "كتجربة قناة المجد العلمية" وأكاديميتها، "والجامعة الأمريكية المفتوحة بلندن" ومقرها القاهرة، وكذلك "الجامعة الدولية"، وبرنامج "حفاظ الوحيين" للشيخ يحي اليحي، وهو شبيه بالكلية المتنقلة، ولابد أن تكون إنتاجيته لائقة بالحجم المبذول..! وأيضا الجامعة الإسلامية المفتوحة في مصر.
ولا يمكن تناسي الأثر التاريخي والعلمي لمدارس علمية : كالنظامية والصدرية ،والسكرية، والمستنصرية، ودار الحديث الأشرفية، والتي تنسب لأئمة وتجار مسلمين نفع الله بها، وازدهرت منها الحلق العلمية بعد التخرج من المساجد والكتاتيب .

وانقطاع كفاءات لهذا المشروع، ينتج عنه ما يلي :

تكوين أجيال فاعلة علميا ، وتسهم في البناء الحضاري للأمة وحل مشكلاتها، والقضاء على الجهل والخرافة والانحراف .
المحافظة على الحد التأصيلي المتوسط لحاملي التخصصات الشرعية، وتوثيق صلتهم بالأمهات ، وحمايتهم من حمى الاختصار والعَصرنة الهشة..!
تقوية الغراس الدعوية وتنميتها بالعناصر المؤثرة، والمتنقلة في كل الجهات والأنحاءِ .
السلامة من الاستبداد الإداري، والمركزية القاتلة لصنوف الإبداع والابتكار العلمي .
إتاحة المنافذ لكل الفئات والبعداء والمنكوبين من بلدان الأزمات والتراجع التنموي .
المشاركة التأليفية والتقنية في خدمة مجالات العلم الشرعي والردود الفكرية الملائمة لقضايا العصر وتحدياته .
والله الموفق...

١٤٤٠/١٢/٢٥هـ

hamzah10000@outlook.com

‏‫‬

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية