اطبع هذه الصفحة


التعلّمُ بعدَ الدكتوراه...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


هل لا يزال أساتذتُنا الفضلاء يقرأون كجدهم السابق، وهل مطالعاتهم مستمرة بعد شهاداتهم العليا..؟! وهل ثمة وقت لتحقيق مسألة، أو بحث معلومة، أو تأكيد تجربة..؟! وهل لديهم نوافذ للإبداع في تخصصاتهم..؟!

أم شُغل القوم، وغاص الأحبة في محيط همومهم القريبة ، وأصبح لديهم مشروعات دنيوية، واجتماعية أنستهم البحث العلمي ، ومسؤوليات الدكتور الأخلاقية ...؟!

والعنوان؛ فكرة لمحتُها في بعض المواقع، فلصِقت في ذهني، وسرَح بي الخيال فيها، فحاولت تحليلها وفحصها، لا سيما وأن بعض النبلِ يعتقد انتهاء المشوار بعد تلكم الرتبة العلمية، وربما خلَد إلى الراحة، واستجم، وفئة أناخت وباعت الكتب، وجماعات غابت إداريا وتسلقت...! وصار همها المنصب المكنون، والمقام الموزون ، كما قال القائل :

ولما "تدكترَ " طار عني بُرهةً... ورأيته في مركزٍ وبشوتِ
وكتابه مُلقى بدون رويةٍ...وخطابُه بترفع وثبوتِ / واحسرتاه على التعلم والمدى...ونضالِه في معلَم وثبوتِ

وصارت كتبهم مكتنفةً بالعجاج، وطالتها الأرَضة ، فهَرمت، وهرم الرجل تكاسلا وتباعدا...!!
فهل يصح ذلك الموقف..؟!

وهل يستقيم أن من تُوج قبل مدة، أن ينتهي إلى إفلاس معرفي بدعوى الانتهاء أو الانشغال الإداري والتجاري..؟!

ولذلك من التذّ بالعلم، وعرف أثر البحث العلمي، وقد جرّبها هو مع جمهرة المتدكترين، يدرك أن الانفصال ليس حسنا ولا منهجاً متبعا .

ولذلك من وسائل التعلم بعد تلكم الشهادة، التي يقام لها وزن، وتُحمل لها المشالح والمظاهر ما يلي :

أولا: مسؤولية قيام الحجة : واعتقاد أنها شكل من الحجة العلمية التي يقيمها الله على بعض عباده، علهم يتعظون ويراجعون أنفسهم، فيقومون بها خير قيام، قال تعالى:( لتُبيُننه للناس ولا تكتمونه ) سورة آل عمران . فقد تعلمت خلافَ الناس، وفتحَ الباري عليك فتوحا مختلفة، وذقت لذائذ المعرفة، فلستَ كالعوام تأكل وتشرب وتنام...! وفوقك أعلامٌ تدل ببرقها...على علمك الزاكي وبعدُ ستسألُ...! والتفكر في ذلك مما يورث الحزن والتهمم للعمل والخوف من الله تعالى .

ثانيا : التعمق في البحث العلمي : وهو جوهر الدراسات العليا، ونبضها الحركي، ومدادها الفعلي والنفعي، وكلُ جامعة لا تبعثه وتهيجه فهي إلى الثانويات أقرب، وبالمعاهد ألصق..! فأين ميزانيات دعم البحث العلمي وحوافز الإنتاج، ومسابقات الإبداع والابتكار العلمي ..؟!وكذلك تنشيط ترقيات الأساتذة وحفزها، وتفعيل مدة زمنية للإنجاز .

ثالثا: المسؤولية الاجتماعية : التي يحسها الدكتور تجاه مجتمعه وأمته ، فينطلق معلما ورائدا، ومدربا، ومتطوعا ، ومؤسساً للجان وجمعيات ومعاهد، ومساهما في إثراء الناس. وكذلك من بوابة ما يسمى ( بمكاتب الخبرة ) وتفاعلاتها التفافية والاجتماعية .

رابعا: اللمسة الدعوية : من خلال علمٍ مبذول، وخلق منشور، وقدوة لامعة، عَبر دروس ثابتة، أو دورات محددة، وأنشطة متجددة...!( ومن أحسنُ قولا ممن دعا إلى الله ) سورة غافر .

خامسا: التلاقي الطلابي : تزاورا، ونفعا، وتثقيفا، بحيث تهدم الحواجز بين الأستاذ وطلابه، فتُعقد اللقاءات، وتقام الصوالين الثقافية، ويفيدهم من علمه وخبرته الزمانية، لا سيما النوابغ وأرباب المواهب .

سادسا : الاتساع المعرفي : باستكمال مشروع القراءة، وساحات الاطلاع، فلا انقطاع للشراء والتعاطي المعرفي ، بحيث لا ينقطع الشغَف العلمي، أو يذبل الطموح الفكري...! فهنالك كتب جديدة، وأطروحات فريدة، ومسائل وليدة، وتحتاج إلى نظر وفحص وتعليق .

سابعا: البلاغ التوعوي : وهو أشمل من مجرد الدعوة، بل يشمل ذوي التخصصات الأخرى، فيفيدون من خلال مجالاتهم الطبيعية والمهنية والإنسانية، وتقيم بعض الجهات والجامعات مؤتمرات خدمية تقدم العلم والفكر والعلاج والنفع مجانًا وإحسانا واتصالًا وعلائق .

ثامنا: المرجعية الإشكالية : وذلك بعد التمكن العلمي البارز، ينبغي لأرباب التخصصات العلمية أن يكونوا مراجع في علومهم وبلدانهم، ومن المؤسف أن الشرعي لا يحسن الإفتاء، واللغوي يضطرب في النحو، والإنجليزي لا يفقه يترجم لك .

تاسعا :الاتصال الثقافي العابر : للحدود والثغرات من خلال حضور المؤتمرات الدولية، واللقاءات العلمية، ومن المؤسف أن عددا غير قليل يقصر فيها، وبعضنا يفعلها سياحةً وتنزهاً، والأفضل الأحكم، أن يُعدها سياحة علمية، تعرّفه بعلماء ومكتبات ومخطوطات...! قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة شرح مسلم :( ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياما ) . وليكن في مذاكراته متحريا الإنصاف قاصدا الاستفادة ، أو الإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه، ولا بكلامه ولا بغير ذلك...).

عاشرا: المشروع العُمْري: القائم على فكرة علمية، ومصنَّف طويل المدى، يستغرق منه الوقت والجهد والمال والأعصاب والبال ، وليكن خروجه فتح وعلم، ونور ودليل، ومعرفة ومنفعة...! ومن المشاريع العلمية في المكتبة الإسلامية: الصحيحان للإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله، وشرحمها للحافظين للنووي وابن حجر رحمها الله، لا سيما ( فتح الباري) الذي مكث في تأليفه وتنقيحه قرابة ( ربع قرن ). والمغني لابن قدامة المقدسي، وفي المعاصرين: معجم المؤلفين لعمر كحالة، وتقريب السنة وتحقيقها للمحدث الألباني رحمه الله الجميع وغيرها كثير . فيستطيع الاستاذ اللماح أن يلمح فكرة مبكرة من بدء انطلاقته الأكاديمية فيقيم لها الزمان والإمكانات ، حتى يخرجها بعد عقد أو عقدين، وقد نضجت نضوجًا زاكيا .

الحادي عشر : الخبرة الزمانية: التي تُورّث للأجيال، وتُحكى للطلاب، وتنشر في الذكريات ، وتساق ملامحها وتجاربها ، لكيلا تزل أقدام قوم جدد، ولا تكرر الأخطاء، وتضاعف العثرات ...!

الثاني عشر العمق الإداري والقيادي: وغالبا ما تفتقر إليه الجامعات-وهو علم عزيز- وتعز أقسامها بدونه، وتذبل بعض مرافقها من تخلف أو عوج، أو جمود..! بسبب قلة تدريب وتثقيف وتوجيه ، وحينها لابد من انتخاب فئات لأولئك الجهد فيتعلمونه ولا يغالبون عليه، فيهجرون العلم، أو يتسلطون بِه على زملاء المهنة...! وحسنا ما تصنع بعض الجامعات من تأهيل أسَاتذتها تطويرا وتدريبا إداريا، فتنبهت حتى تجاوزت بعض الأخطاء السابقة، وبات أداؤها رفيعا بهيجًا...!

١٤٤١/٣/٢هـ
hamzah10000@outlook.com

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية