اطبع هذه الصفحة


مكتبة الطالب، ومنتهى الراغب...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


شاهَدَ له بعضُ الأحبة ومضةً علميةً، تقولُ: ( لو استدام طلابُ العلم كتباً محددةً، لأغنتهم عن مكتباتٍ وسيعة ). وتساءلوا عنها وعن مضمونها.. وما المراجع تلك الحاوية للعلم، المختصرة للطريق، والظافرة بالعميق والثمين، والمكتنزة بالرفيع والسمين..، ومن ذلك العميق ما يلي-علما أنه قد كتب فضلاء برامج وخرائط علمية للطلب والتفقه، ولكنّ في بعضها الطول والخلط، أو للمبتدئين - وهنا نقلل ونختصر عَبر انقطاع زمني مستديم :

التوطئة : ضبط القرآن والمختصرات المبدئية : كالأربعين النووية، وكتاب التوحيد والأصول الثلاثة، ونظم الورقات والواسطية والبيقونية والأجرومية، وشبهها مما يحتاج ولا يمل ولا يطل، مستعينًا بالحذاق في فهمها..! ثم بعد ذلك يُبحر قراءةً وجردا ، وتكرارا وسردا، وجيئة وذهابا في مصادر معروفة، وأسفار مكنوزة ، يضبط جواهرها، ويفقه معانيها، ويلم بأطرافها ..! ولا يغني حفظها منفردة بلا شيوخ يَفُكونها، وعلماء يَحُلّونها، وحذاق يبسطونها... فالشيوخ المَهرة، مفاتيح الكتب، وتِرياقُ مصاعبها ومشكلاتها .

وكان أبو حيّانَ كثيرا ما يُنشدُ :
يظنُّ الغمْرُ أن الكُتْبَ تهدي..أخا فهم لإدراك العلوم ِ
 وما يدري الجهولُ بأنّ فيها.. غوامـــضَ حيّرت عقلَ الفهيمِ
إذا رُمتَ العلومَ بغيرِ شيخٍ.. ضَللتَ عن الصراطِ المستقيمِ
وتلتبسُ الأمورُ عليك حتَّى.. تصيرَ أضلَّ من تُومَـا الحكيم ..! وهذا محمول على من ولجها بلا شيوخ ولا دراية...!

أولا: تفسير القرآن العظيم: للإمام ابن كثير (٧٧٤)هـ رحمه الله، ويتناوله بعد حفظ الكتاب، وضبط غالبه، لأن ذلك الأصل والأساس، كما قال تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) سورة العنكبوت. فجعل من سمات العلماء وسمتهم حفظ الكتاب. وتكراره واستدامته يعني ضبط التفسير الأثري للقرآن، ومعرفة مذاهب السلف، وضبط السنن المنقولة ، ووعي النظائر والأشباه وتعليل الأخبارِ . يقول في المقدمة:" إن أصح الطرق في ذلك أن يُفسر القرآن بالقرآن، فما أُجملَ في مكان فإنه قد فُسّر في موضعٍ آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح..."

ثانيا: الصحيحان الثمينان للبخاري(٢٥٦)هـ ومسلم (٢٦١)هـ رحمهما الله : وفقه معانيهما، والعناية بهما حفظا وتدبرا واحتفاءً بمسائلهما، وتقسيما وتصنيفًا ، والمكث فيهما يعني حفظ نصوصهما، والاستناد للقوة الصادقة، والركون إلى أعلا المعارف صحةً وشرفاً بعد الكتاب العزيز . وكونُهما جامعَين فقد جمعا علوما كثيرة، وموضوعات مختلفة ، كشفها الشراح، وجلّاها المعلّقون ، ومن أحصاها فقد جمع وأوعى ...! والمستحسنُ حفظُ مختصراتهما، والتحشية عليهما فقها وتحريرا واستنباطا . قال الحافظ ابن رجب رحمه الله، في فضل علم السلف :( فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل..) . ولبركة الكتابين يخرج قارئهما بتعظيم السنة ومحبة صاحبها، واقتفاء آثاره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الوصية الصغرى:" وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من ‏[‏صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم‏،‏‏ ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لابد من معرفة أحاديث أخر،.... وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابًا، فمن نوّىر اللّه قلبه، هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرةُ الكتب إلا حيرةً وضلالًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري ( أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ‏؟‏ فماذا تغني عنهم‏؟)." ‏‏‏.

ثالثا: زاد المعاد في هدي خير العباد: للعلامة ابن القيم (751 ) هـ رحمه الله: وقد طاب الكتاب علما وفهما ورتبةً وجلالة، ولَم يصنف مثله في بابه ...! فهو حديثٌ، وفقه، وتفسير، ومعتقد وتاريخ ، وسيرة ، وطب وأخلاق..! فهو أشبه ما يكون بالمكتبة الثرية الزاهية للعلماء والعامة، يثري العالم، ويبصّر العامي ، وتوسعه المعرفي يومئ بكفايته العلمية والاختيارية، وفيه من الأدلة ما يجعله كتابَ أثر وسنة، وفقهياته تقيمه في مصاف كتب الفقه .

رابعا : المغني : للإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله(٦٢٩) : شيخ الحنابلة في الفقه، والحجة المجتهد ، وكتابه موسوعة فقهية نادرة، يعرفك الخلاف العالي بالأدلة والمرجحات . قال فيه العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله:" لم تَطِب نفسي بالإفتاء حتى صارت عندي نسخة من المغني" . وقال الشيخ بكر رحمه الله :" المغني في شرح الخرقي. وفيه الدليل، والخلاف العالي، والخلاف في المذهب، وعلل الأحكام، ومآخذ الخلاف، وثمرته؛ ليفتح للمتفقه باب الاجتهاد في الفقهيات ". وقال صاحب المذهبة في آداب الطلبة: والمغني يغنيكَ كذا المجموعُ...

خامسا : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد : للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (١٢٨٥)هـ رحمه الله : وقد امتاز بالتدقيق والتحرير ، وأنه مهذب لمطول سابق، وختمه بالفوائد الروائع، وسهله للناس، وعلق عليه فضلاء معاصرون من أشهرهم العلامة ابن باز رحم الله الجميع .

سادساً: فتح الباري: للحافظ ابن حجر العسقلاني (٨٥٢)هـ رحمه الله، ويعظم شرحا وفقها واستنباطا، وتحقيقاً للمسائل، وفد حوى العجيب والمفيد والخصيب، ويصدق فيه : جمع فأوعى، وأجاد وأعطى، وكل الصيد في جوف الفرا...! ولا تَطيب نفسُ طالب العلم حتى يقرأ فيه، ويتضلع من ينابيعه، ويتشبع من موائده . وقد تلقاه أهل العلم بالقبول والتوقير، حتى قال الشوكاني رحمه الله، لما قيل له اشرح صحيح البخاري:( لا هجرةَ بعد الفتح ). وفي المذهبة: أقسمتُ بالله عظيمِ الصفحِ...ما طابت النفسُ بغير الفتحِ...!

سابعاً : سبل السلام شرح بلوغ المرام : في فقه نصوص الأحكامِ للصنعاني (١١٨٢)هـ رحمه الله، اختصره اختصارا، وقرّبه تقريبا، وتفقه فيه واستنبط، ودقق ورجح، وأفاد واستفاد، ولم يُطِله فيتعب، أو يقصّره فيُخل، فجاء سهلا منسابا ، وتكمن فائدته في التعريف بأحاديث الأحكامِ وحلها فقهيًا وحديثياً ، جاريًا مع الدليل والسنة دون تعصب أو عنصرية . "والسبْلُ " قد زانت برقْم محمدٍ... وتذللت في ظله الأحكامُ ... كالبيرق الميمون بات ملهّباً.. وبحشدِه الأعلامُ والأقوامُ..!

ثامناً : شرح النووي على صحيح مسلم: للحافظ النووي (٦٧٦) هـ كتبه كتابةً معتدلة متوسطة، ودبّجه بإخلاص نادر، واستنباط عجيب، وتفقه لطيف، تظهر فضله وإمامته رحمه الله، فلا غنى له عما أودعه فيه من معانٍ باهرات، وجُمل مباركات..!

تاسعاً : حاشية الروض المربع: للشيخ ابن قاسم(١٣٩٢)هـ رحمه الله: مرجع فقهي نقيس، محشو بالفوائد، ويهتم بالخلاف العالي برغم حنبليته الأساسية، وواسع النقل عن الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله ، ويربي على العناية بالدليل، ويصنع شخصية متفقهة، وقد كان الكتَاب مقررا في كلية الشريعة في جامعة الإمام لعقود طويلة، وانتفع به التلاميذ .

عاشرًا : الأذكار النووية : لصاحبه وراقمه الضليع علما، والرفيع بركة وقبولًا ، العلامة النووي رحمه الله، وفائدته التوقيف على السنن في الأذكار والدعاء، وترقيق القلوب لئلا تتصدع من مسائل الفقه، وتكراره مؤذن بزيادة العلم واليقين، والبركة في الوقت والعبادة والانشراح ، قال تعالى :( الذين آمنوا وتطمئن القلوب بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) سورة الرعد . فهو أشبه ما يكون بالحصن الحصين، والركن الركين، وزاد اليوم والليلة ، والذي لا استغناء ولا امتلاء منه ...!

الحادي عشر : الآداب الشرعية والمنح المرعية : للإمام ابن مفلح الحنبلي رحمه الله (٧٦٣ )هـ . هو كتاب أدب وسلوك ، ورياضة وتهذيب، وحكم وأحكام، وضمنه بعض اختيارات الإمام أحمد رحمه الله، وحشاه فوائد قيمة . قال في المقدمة :" فهذا كتاب يشتمل على جملة كثيرة من الآداب الشرعية ، والمنح المرعية ، يحتاج إلى معرفته أو معرفة كثير منه كل عالم أو عابد وكل مسلم..".

الثاني عشر: معارجُ القبول للشيخ العلامة حافظ الحكمي رحمه الله( ١٣٧٧هـ) : مرجع عقَدي أصيل، موفور الأدلة والبراهين، وحاوي الحجج والعناوين . وأصله نظم له في العقيدة علق المؤلف عليه شرحا وافيا قال في مقدمته: " فَلَمَّا انْتَشَرَ بِأَيْدِي الطُّلَّابِ, وَعَظُمَتْ فِيهِ رَغْبَةُ الْأَحْبَابِ سُئِلَ مِنِّي أن أعلق عليه تَعْلِيقًا لَطِيفًا، يَحِلُّ مُشْكِلَهُ وَيُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَمَدْلُولِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَاسْتَقْدَرْتُهُ بِقُدْرَتِهِ، فَعَنَّ لِي أَنْ أَعْزِمَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ مُسْتَمِدًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِعَانَةَ عَلَى نَيْلِ السُّولِ وَسَمَّيْتُهُ "مَعَارِجَ الْقَبُولِ، بِشَرْحِ سُلَّمِ الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ". وكان مع اللطافة أمتن وأكمل .

ونعتقد باْذن الله وتوفيقه، بأن هذه العشرة السمان كافية في صناعة (عالم عبقري) ينفع الله به وبتدريسه، إذا أدمنها وعكف عليه طيلة الدهر جادا مخلصا ، فموجبُ احتوائها جعلُها (كتبًا دهرية)، لا يغادرها مطالعة وحفظًا وتدقيقا، حتى يأتي على آخرها .. ثم مع المهارة والإتقان وديمة التدريس، سينتهي به الأمر إلى اختصارها والاكتفاء بثلاثية أو رباعية .

وختاما ثمة علماء لا استغناء عن كتبهم وكنوزهم الثمينة، لمن كا ذَا نَهمة وسَعة : كالأئمة الستة، وابن جرير الطبري والنووي وابن حجر وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن رجب ، وابن كثير والذهبي رحمهم الله جميعا، وما ذكرناه سابقًا، فهي مراجع الدهر الثابتة، وكتب الديمومة الخالدة، وفقنا الله جميعا، ونفعنا علمًا وعملًا .

١٤٤١/٣/٢١هـ
hamzah10000@outlook.com

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية