اطبع هذه الصفحة


الأيامُ المُداوَلة...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


حتى وإن كنتَ على الحق البين، والصواب الساطع، والصراط المستنير، فثمة أيّامٌ يداولها اللهُ بين الناس، ما بين فتح وغلق، أو نصر وهزيمة ، وظهور وأفول ، ويقيمها سبحانه ابتلاءً وتمحيصا لعباده المتقين، كما قال ( إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ ) سورة آل عمران .

وفي ذلك معانٍ وحكم جدير بالتدبر، كما قال عز وجل ، مداولة للأيام ، وتقليب الزمان، وابتلاء للأحباب والخلان، يُمحص فيها الإيمان، وتلتهب العزائم، وتُصقل الإرادات ، وفِي حديث هرقل الشهير في الصحيحين:( قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ : الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ؛ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ... ثم أجاب هو،: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ..) .

وفي التداول كشف للثبات، ومن يدوم على الطريق، ويصبر على لأواء الحياة،،،! وحتى يصطفي الله منهم من يشاء، أئمة وشهداء ( ويتخذ منكم شهداء ).

وفي التداول تنقية للصف ممن نافق أو في قلبه مرض، وفي عمله وهن، وفي تدينه تردد، وفي عبادته خلل..! حتى يعود فيجدد إيمانه، ويزكي نفسه( قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) سورة الشمس . وكما قال المتنبي: بذا قضت الأيامُ ما بين أهلها... مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ..!

وفي التداول إجراء لسنن الله في الكون من تمحيص المتقين، وإمهال الكافرين ، فيثبتُ الذين استووا، ويغتر الذين أسرفوا ، ولا يظلم ربك أحداً ..!

وكلما تداولت الأيام بالخير والشر، أو الفوز والهزيمة، والكثرة والقلة، انتبهَ الأيقاظ، وصحا العقلاء ، فرتبوا الصفوف، وأعادوا التربويات ، وجددوا الأولويات ، وكان في ذلك خير ، وحُسن عاقبة ومتاع إلى حين .

انتصر الصحابة في (بدر) ، وانكسروا في (أحد)فأراهم الله التربية الحقة، والبلاء المفيد، فلا تغتر النفوس، وتزهو العزائم، وغزتهم (الأحزاب) بعدها بسنتين، وصُدوا في (الحديببة) ، وانطلقوا إلى (مكة ) سنة ثمان(٨) هـ ... وكان في ذلك درس المداولة والتمحيص والتنقية .

ولو طابت الحياة انتصارا وبركةً ورياحين، لارتاحت النفس، وعم الاسترخاء، واتجهوا للدنيا وزهراتها، ولكن الله يريد أن يُخلصَهم لنفسه، ويصطفي الأولياء، ويجعل منهم أئمة للناس . وكما قال بعضهم: ومن عادةِ الأيام أن صروفَها .. إذا ساء منها جانبٌ سَرَّ جانب ُ...!

والنفوس مختلفة متباينة، وتتفاوت إيمانيا وصبرًا وثباتا، وعقولا وقلوبا، فناسب ذلك التداول والتنوع .

فالقُروح والأحزان كما تنتابكم فهي تنتاب الكفار والطغيان، فلا تحزنوا ولا تضيقوا، ولا تسأموا ولا تغتموا .

فها هي حياتكم ما بين عزّ وذل أَو نصر وهزيمة، أو سعة وضيق، حتى تتعلموا أنكم لستم وحدكم، وأن أعداءكم ينالهم ما تنالون، فتطيب نفوسكم، وتُقبلوا على ربكم خالقكم، فتُوثِقوا الصلات، وتضاعفوا البركات ...!

وفي ذلك تسلية لهم وتصبير، وتربية وتعويد، حتى يعرفوا الطريق، ويتبين السبيل، وتدرك الوجهة، وتلتزم المواعظ والمسارات .

والتداول تدبير من الله تعالى ( نداولها ) وهو دليل عظمته وإحاطته بخلقه سبحانه وتعالى، فنسب الفعل له سبحانه تعظيما وتدبيرًا، فهو خالق كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض ، وإليه المرجع والمنتهى ، وفي الحديث الصحيح ( وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) .

وفي التداول دليلٌ على أن النصر ليس شجرةً تُقطف، ولا زهرة تُستطاب، ولا مائدة تُلتهم، وإنما هو مراحل وجولات ، وتدابير وخطط، ونظام وتطلعات( وما النصر إلا من عند الله ) سورة آل عمران والأنفال . وكما قيل: والنصر يُجنى بالعناءِ وبالدماء وبالصفاحِ...لا بالوعود ولا وبالمنى ... من كل محتالٍ إباحي...!

وتداول الأيام دليل على الانفراج والاقتراب، فكما هو محزن ومخيف، فهو محفز وانبلاج ، بأن لا بقاء لغير الله ودينه وجنده( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) سورة الأنفال . وكما قيل: وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ... ولا يدوم على حالٍ لها شانُ...! هي الأمور كما شاهدتها دولٌ... من سره زمنٌ ساءته أزمانُ...!


 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية