اطبع هذه الصفحة


خَلوةٌ فكْرية...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


فرَّ من الشوارعِ المزدحمة، والصراعات الصادمة، والأنفاق العاتمة، والجاً مكتبتَه، وجالساً على أريكة منزله، متأملا وقارئاً، ومستشرفاً قضايا وأحداث ، لا زالت شغلُه الشاغل، وهمُّه المتصاعد ..! وخلوتُ للفكر الجميل فهالَني.... أنداؤهُ في لذة ومَسيلِ...!

وجميلٌ أن تخلو بنفسك ، وتُعملَ العقل في مصيرك وعملك، وتتأمل ملكوتَ السموات والأرض، وحُسن ما أودعه الله فينا وفي خلقه وفي كونه ( وفِي الأرض آياتٌ للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) سورة الذاريات . وقد قيل: إن اللحظة الصادقة تكمن في الخلوة بالنفس، والدخول في أسرارها ..!

لقد حان الوقت.. وقد نضجتَ عمرًا وعقلًا، أن تعتزل ضجيج الحياة الاجتماعية قليلا، وتتفرغ لإسعاد العقل، وإنماء الفكر، بمنحه مجالاته، وضخ أنسامه، وفتح مساراته ، ليحدثك في همس وخفاء، ويذكرك ذِكر َالوعظ والاعتبار .

فقد جرّتنا الدنيا إلى مناكبها، وألهمتنا ملاذها، وبتنا في شغل وأشغال، وهم وإهمال، حتى إننا لنضيع واجبات شرعية، وفرائض أساسية ...!

ومن المؤسف أن فِكرَنا في دنيانا، وانحسر في أشغالنا واهتماماتنا، حتى تعطل الفكر، وضاق العقل، وقلت الطموحات، ولم يستثمر العقل البشري مواهب الكريم عليه..!

ولو أننا فعّلنا الفكر في القرآن ودرسه ، والذكر وغايته، والتنزيل وتدبره، لأدركنا خيرا كثيرا، ولنبت اليقين في القلوب، وزاد الإيمان، وتصدينا لكثير من الشبهات والتعثرات .( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها ) سورة محمد . وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله:( الفكرة مخّ العقل ).

وكذلك المجال الاستنباطي في السنن وفقه الأحاديث وما انطوت عليه من فوائد جمة، وزبد مهمة..! ولكن للأسف طار صوابُنا، وغاب فكرنا، وصرنا نجر أذيال السطحية والتخلف .

ولذلك حينما يستيقظ فكرك، عُد إلى خلوتك، وحاسب نفسك، وتفكر في عاقبة شأنك، وانظر مننَ الله عليك وعلى الخلائق ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض ) سورة يونس .

وكما قال بعضهم :" إن الكون كتاب مفتوح ، جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغة وبكل لسان، ويدرك بكل الحواس وبأي وسيلة للوقوف على صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى ".

والعجيب أن القرآن المطلوب تدبُره، يحضك على آيات الكون ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) سورة آل عمران . ويروى أنه قال عندها عليه الصلاة والسلام:( لقد نزلت علي الليلة آيةٌ ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر ) .
 
ومن المفيد النافع للمؤمن، أن يحظى بمثل هذه الساعات، ويراجع نفسه، ويجدد إيمانه . ويظفر بحدائق النجاة الإيمانية والعلمية، كما قال: ( وليسعك بيتُك ).

وعلّمنا ذاك رسول الله بتفكره في ( غار حراء ) وتأمله في ملكوت السموات والأرض، وعيشه لحظات الصفاء والمحاسبة ، والتجدد والاستعداد ، لما يُراد له من نبوة مختارة، ورسالة مهدية...!

وفي الخلوة ذكر وتسبيح، وصلاة وترويح، وتأله وخشوع، قد لايُدرك مع الصخب والمتاعب، أو الشغل والمراكب..!

وفي الاختلاء الفكري: حل لأفكار، وترتيب لمشكلات، ومراعاة لمواقف، وتصحيح لأغلاط، ..! ومن الذي يحسن الحلول في عمق الأزمة، أو عند اشتداد الجائحة ..؟!

وفيه تعلُّم معاني الصمت والانزواء قليلًا، لا سيما من استشاط نقدُه، وطال لفظه، ففرصة نفيسة، كما تعلمَ فنون الكلام، أن يتعلم فنون الصمت ، وفي الصمت حكمةٌ وحِكم، وفقهٌ وفهم، وتدريبٌ ومهارات .

وفيه خروج عن المألوف الصاخب ، وإعادة القراءة لكثير من المواقف والعلوم والاختيارات .

وفي الخلوة تعبئة جديدة للعقل، والتركيز في ضخ مواد مختلفة، وإعادة تثقيفه من جديد .

وفيها معالجة لمفهومات مغلوطة، وإحلالها بمفهومات جديدة، تستند لنص منير، أو فكر رشيد ، أو تجربة أكيدة ..!

لا سيما وأن فيها تخففاً من الذنوب الحالكة، والخطايا الماحقة، التي تضر العقل والروح، فيصدأ الاختيار والتصرف، وهو ما لايفقهه كثير من الناس..! ويعتقدون أن الذنوب ليست مؤثرة في الحياة والسلوك ، فتخرج تصرفاتهم وسلوكهم على خلاف الجودة والسداد ..!( فلا تتبعِ الهوى فيُضِلَّك عن سبيل الله ) سورة ص.

وحينما ينضاف إلى مقصود الاختلاء الفكري الإبداع والإنتاج ، وسبر المقولات والفهوم ، وتوليد المفاهيم المستحدثة ، يتولد الهم لها، فغالبا المقاصد ما تسوق إلى نتائجها ، والقراءة الحادة المتعمقة تنتج وتثري وتتجاوز كل التوقعات .

وفي تدبر الوحيين والغوص في معانيهما نفائس وروائع وعجائب ، لا سيما لمن قرأ بتدبر، وعاش متأملا، ودقق متفكرا ... وفي الفكر بالقرآن روضٌ ونعمةٌ...وفي السنة الغراء درسٌ ومخبرُ...!

ومن حكمة الله أن وضع في العقل سر وجود الإنسان واستمتاعه بمسخرات الحياة الدنيا، فيقيد ويبدع ويتفاعل، وينجز ويبتكر ، وقد يفوق الأوائل .

وكل شيء فيه قد يكبل إلا عقله، فهو مطلق اليدين في كل اتجاه ، وقد قال بعضهم :( قد يكبل الجسد ويرمى في أعتى السجون، ولكن العقل الحر غير قابل للتكبيل أو الاعتقال ).

ومن أجل موانحه: حريته وانطلاقه الإبداعي والابتكاري، فيسبح في مراتع الجمال، ويسيح في حدائق المتع واللذاذات .

ولكن ذلك راجع إلى تثقيفه وما يودع فيه من غذاء ونماء وسناء وضياء .

ولا تُغني عبقريتُه وفطنته عن الغذاء الشرعي ، الذي يهتدي به ويستنير ، فهو أولُ ثقافاته الغذائية والتعبوية ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

١٤٤١/٥/١١هـ

hamzah10000@outlook.com

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية