اطبع هذه الصفحة


كان يا ما كان في قديم رمضان ...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


أمةٌ مؤمنة قانتة لربها، تصومُ بلا طعامٍ ولا شراب ولا رخاء من العيش، فصدقوا مع الله فمكّنهم، وجعلَ منهم رمزا في الإيمان والتقوى، ونموذجا يُحتذى بهم .( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم ...) سورة التوبة .

ما عرفوا موائدَ ممدودة، ولا مطاعمَ مبسوطة، ولا فواكه مبثوثة ، يَطعمون ما تيسر، ويشربون ما حضر، ولا يتكلفون تكلف من بعدهم ..

هم من قاتل في "بدر " يوم الفرقان، واستبسلوا فيها، وخاضوا "فتح مكة" ، وفتحوها بكل حزم وشجاعة في رمضان، وما اكترثوا لوهَج النهار، وشدة الأوضاع، طاعةً لله ورسوله.... وسار من بعدهم على طريقتهم ، صبرا وحسبةً واجتهادا...!

كان ذلك جيلُ العهد النبوي ، الذين تخرجوا من منائر القرآن، ومدرسةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فقهوا الدنيا والآخرة، وحملوا الدين بمصداقية، وزهدوا في مغانم الحياة ، فلم يكترثوا لمال، ولم يُصغوا لوجاهة..! ورأيتُ فيهم عزمةً وزهادةً... وتطلعاً للخير في الأزمان ِ

قال أنس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري :" كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ : كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ.

قال في الفتح رحمه الله: " المسموط الذي أزيل شعره بالماء المسخن وشوي بجلده أو يطبخ، وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري، وهو من فعل المترفين من وجهين: أحدهما: المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه. وثانيهما: أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره والسمط يفسده" .

واستفاضت مجاعاتُهم في "الخندق وخيبر وتبوك " وفي رمضان وغيره، بل الغالب الجوع وليس الغنى والرفاهية ، جاء في قصة قيس بن صِرمة في الصحيحين : قال البراءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا : أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ. وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ : خَيْبَةً لَكَ. فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } .

فتخيل أنك تعود إلى بيتك هذه الأيام فلا ترى إفطارًا، أو تقول الزوجة: لم نصنع لك شيئا ...! كيف حالك ومصيرك..؟! ربما تشتعل مشكلات من جراء ذلك...! والسبب اعتياد الرفاهية، وعدم تجريبنا الحياة الصعبة المكدرة، ونكراننا حق النعمة..! بخلاف الجيل الفريد ومن تبعهم من التابعين والأعلام الصادقين عبر التاريخ .

ولذلك حينما حضرت الأزمات، ونشَبت فيهم الأرزاء انتصروا عليها ، وأعانهم الله، لأنهم عاشوا أغنياء بربهم وبدينهم ، فقراء من الدنيا وزهراتها . ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) سورة فاطر .

ولم تزل أتباعُهم على ذلك المنهج إيماناً وصبرا واحتسابا ، حتى اتسعت الخيرات، وفاضت المناعم، فجاءت طوائف لا تحفظ تلك النعم، وتعبث بها، وربما استعملتها في الموبقات ..( ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، وأحلّوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم .

وفي عصورنا المتأخرة، وسّع الله علينا ، وبُسطت لنا النعم، فترفه كثيرون، وتنعمت أمم ، وبات يأتي رمضان على مائدة غراء حسناء، قد شُحنت بالأصناف ، وتنوعت الأطباق ، وتشكلت الأطياب.

في حين توجد مناطق فقر في هذا العالم الفسيح، لم تحرك عند بعضنا ساكنا، ولم تحتشد المنظماتُ الخيرية لعلاج مشاكل الفقر لديهم ..! ووقف كثيرون في صورة المتفرج، فتخشى عاقبة ذلك، وأن ينتقم منا في معايشها وأرزاقنا ، والله المستعان .

وحدثنا آباؤنا الأقدمون عن مظاهر من الفقر والعوز عاشوها ، وتجرعوا مرارتها، وكيف كانت الحياةُ قبل الثروة النفطية، وأن الأرض مطعمهم ومهادهم ، وصبروا واحتسبوا، وكانت الحياة تسوء بهم زمن الكوارث والحروب والأوبئة .

وربما كان الفقرُ والظرف الصعب سببا وعاملا في تقاربهم وتعايشهم ، وحملوا أخلاقا عتاقا ، وشمائل دقاقا، يعز وجودها زمن الرفاه والرخاء، والله المستعان ..!

فيا أهلَ رمضان لا تسرفوا فيه، وتعاهدوا جيرانكم، والتمسوا فقراءكم، وانظروا ضعفاءكم ، واقدروا هذه النعم حق قدرها.. وأيم الله لو زالت لبكيتم عليها حسراتٍ ومرارت ( وإن تعدوا نعمةَ الله لا تحصوها) سورة إبراهيم والنحل .

صونُ النعم بحمد مسديها، والاعتراف بفضله، والاقتصاد فيها، ومنحها لأصحابها، والمحافظة عليها من الزوال .

اجعلوا من رمضانَ موسمَ تواصل وتراحم وتحاب، وفي الحديث ( من لا يرحم لا يُرحم ). جملوه بمكارم الأخلاق، وعطروه بمحاسن الآداب والشيم .. فكم من ذكرى فيه تبقى حميدة، وكم من حسنات ترسخ في ذاكرة الزمان ، ويتناقلها الأجيال ..!

لنكن تلك الأمة التي تحس بجائعها ، وتعيش وقع مصابها، فترحم فقيرها، وتغيث ملهوفها ، وتعين مختاحها...( فأصبحتم بنعمته إخوانا ).سورة آل عمران .

ليكن رمضان شهر اجتماع لا افتراق، وتحاب، لا تباغض، وإكرام ، لا شح وانقباض..!!( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ). سورة الحشر والتغابن . فهنيئا لم نجاه الله، فجادَ بيقين، وأعطى بلا منة ، وسخا بلا تردد ..( والله يحب المحسنين ) سورة آل عمران . تقبل الله من الجميع ، ورفع عنا الوباء والبلاء، وجمّع كلمة المسلمين .

١٤٤١/٩/٢٥هـ

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية