اطبع هذه الصفحة


سيرٌ مختصرة لعبرٍ مزدهرة..(١١)..!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


الحمدُ للهِ رب العالمين، والصلاةُ والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد :

فإنَّ حجمَ الفوائدِ المنقولة، واللطائف المنشورة عن أسلافنا ، لا تزال فياضةً غزيرةً ، مدرارةً مفيدة ، وفيها ما فيها من حُسن الفهم العلمي، والتجريبِ الفقهي ، الذي لا يكاد يجفُّ القلم عن رصده، ولا اليراعة عن قفوه ، وصرنا في زمن شحّت فيه مثل تلك الدرر، فاحتيج إليها وإلى معانيها، وما تبثه من أسرار وحكم، لضبط السلوك العلمي، ومعالجة الأخطاء في الطلب والمسار المعرفي .
وها نحن ماضون في تقييد تلك الدرر، وتحلية المجالس، وحلق العلم بجمالها وتيجانها، .....
تقبل الله، ونفع بها الجميع ...

الأمُّ العاقلةُ ومنزلة الأدب : قال مالك رحمه الله :( كانت أمي تُعمّمني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة ، فتعلّم من أدبه قبل علمه ). هنا يتجلى حرصُ ألأم الصالحة ووفور عقلها، وتقديمها الأدبَ على العلم .

الفضيلُ والتأكل بالدِّين : قال رحمه الله :( لأَن آكلَ الدُّنيا بِالطّبل و المزمار ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَنْ آكُلُهَا بِديني ). نعم ما أتعس جامع الدنيا بدينه، وجواهر مبادئه .

الشِّربيني وفهمُ دقائقِ الأمور: قال رحمه الله :( ولا يأمرُ ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالمٌ، فليس للعوام ذلك ). لأن لديهم النصوص وفهمها، والقواعد وتنزيلها، والحكمة ومظانها .

الراغبُ وأدبُ الواعظ : قال الراغب الأصفهاني رحمه الله:( حقُّ الواعظ أن يتعظ ثم يعظ ويبصر ، ثم يبصِّر ويهتدي ثم يهدي ، ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد، وألا يجرح مقاله بفعاله وألا يكذبَ لسانه بحاله ). وهو كذلك لتكن مواعظك أولاً لنفسك ، وإياك والتناقضَ والمخالفة، لا سيما اللسان وبئيس الخصال .

ابنُ العربي وعروض الشيطان : قال رحمه الله :( فإن عَرَضَ لك فيه الشيطان بشبهة فدواؤه الأدلة..فإن عرض لك بداء الوسواس ، فدواؤه الاستعاذة) . هنا تأكيد على أهمية الأدلة ، وأنها لإعجازها ومصداقيتها تمحو كل داء وشبهة .

الفاروقُ والفقه الحقيقي : قال رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي موسى :( إنّ الفقهَ ليس بكثرة السّرد، وسعَة الهذر، وكثرة الرِّواية، وإنّما الفقهُ خشيةُ اللهِ عز وجل ) .وهذه المقولة علاج لأخطائنا في فهم معنى الفقه، فنستكثر ونسرد، ونفصِّل ونصرخ ، ولربما ضعفت الخشيةُ عندنا، ورأيتَ فينا المندفع والمتسرع تعليقا وإفتاءً ..!

مالكُ بن دينار وضابط نفع العلم : قال رحمه الله:( من لم يؤتَ من العلم ما يقمعُه؛ فما أُوتيَ من العلم..لا ينفعُه ) . والمعنى ليكن علمُك زاجرا لسلوكك ، ضابطًا لحركتك، ناصحا لتجاوزاتك ، فذاك هو العلم النافع .

ابنُ حجر وفقهُ العمل : قال رحمه الله :( فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه ، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها ). والمحصل رفض الزهد في الحسنات ولو قلت ، ونبذ السيئات ولو هانت .

السَّختياني ورباطُ أهل السنة : قال رحمه الله:( إنّه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنّه مات، فكأنما فقدتُ بعض أعضائي ). والمعنى المحبة والرابطة الإيمانية ، التي تغار على دينها وإخوتها.

الشاطبيُّ وفتحُ العلماء: قال رحمه الله:( والكتبُ وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء ، وهو مشاهد معتاد) . وهو كذاك لأن العلماء مفاتيح الكتب، ومنائر المتون، وخلاصة الفنون، وعصارة الفهوم، وترجيحات الخلافيات، ومفهام المستغلقات.

ابنُ القيم واختلال النية : قال رحمه الله :( فالعلم إن لم يكن لله ، كان للنفس والهوى ، والعمل إن لم يكن لله ، كان للرياء والنفاق ) . فدائما أصلح النية، وتعاهدها بالمراجعة والإصلاح ، فإنما الأعمال بالنيات .

مالكٌ وقلوب أهل القرآن: قال مالم بن دينار رحمه الله :( ‏يا حملةَ القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟! فإن القرآنَ ربيعُ المؤمن ، كما أن الغيثَ ربيع الأرض ). فكيف حال طلاب العلم، وخطباء المساجد، من ذلك الربيع، الذي تواتر خيره، وعمت بركته..؟! لأن خفاء ذلك الربيع مستلزمٌ القسوة والجفوة والغفوة.

مالكٌ والتلاعب بالدِّين: قال رحمه الله لصاحبه القعنبي : ( مهما تلاعبتَ بشيء ، فلا تلعبْ بدينك ). من نحو المتاجرة به، والسخرية في أدائه، وكثرة الضحك عليه، وعدم توقير أهله .

مجاهدٌ وحقيقة الفقيه : قال رحمه الله :( إنما الفقيه من يخاف الله تعالى ). لأنه إذا خاف الله ، صانَ علمه ، وحفظ درسَه، واتقى في فتواه، ولَم يشترِ بالأحكام ثمنا قليلًا ، وجعل من علمه تاجًا لا تجارة ، والله المستعان .

أحمدُ وفضل السنة : قال رحمه الله :( من مات على الإسلام و السنة ، مات على الخير كله ). لأنها خير خاتمة، وأعظم ميراث، فلا يُفقه الإسلام بلا سنة واهتداء ( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة ). سورة الأحزاب.

مالك وأُنسُ العلم : قال رحمه الله :( العلمُ نورٌ لا يأنسُ إلا بقلب تقيٍ خاشع ). لأنه إذا أنس بوجدانٍ يحتضنه، حصل الحفظ، وتم الترسيخ، وعمت البركة ، وتسهلت أعباؤه ، شريطةَ أن يكون ذلك الوجدانُ يُزهرُ بالخشوع والتقوى ، المثمرة للعلم النافع ، والعمل الصالح .

الحسنُ وحاجات الطلاب : ( حَدِّثُوا النَّاسَ مَا أَقْبَلُوا عَلَيْكُمْ بِوُجُوهِهِمْ ، فَإِذَا الْتَفَتُوا فَاعْلَمُوا أَنَّ لَهُمْ حَاجَاتٍ ) . وهذا من الفقه الدعوي العلمي، مراعاة الشيخ والعالم لنفسيات الطلاب ومشاغلهم، ومع تحريضه على الهمة والجد، لا ينسى انهم بشر لهم أهل وعيال، وفيهم ذو حاجة ومصلحة .

المُعلّمي ومعنى الرسوخ العلمي: قال رحمه الله :( الرسوخُ في العلم أمرٌ خفيٌّ، ليس هو كثرة العلم ). وكأنه يقول تعويلكم على الكثرة والجمع فقط، ليس بحسن بل هو إخلاص وإتقان ، وخشية وجمع، ورهبة ورغبة، وورع ونصب .

الثوري وزمن انتهاءِ القدوة: قال رحمه الله : ( نحن اليوم على الطريق، فإذا رأيتمونا قد أخذنا يمينا وشمالا فلا تقتدوا بنا ) . يحذر العلماء من مسالك الفتن، ومنافذ الإغراءات، وسبل الاجترار الفاتنة .

ابنُ الجوزي ومفاليس العلماء: قال رحمه الله: ( والمسكينُ كلُّ المسكين، من ضاع عمرُه في علمٍ لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا ، وخيراتُ الآخرة، فقدِم مفلسا مع قوةِ الحجة عليه ). وهنا بيان لأهمية العمل بالعلم، ومخاطر جمعه بلا تطبيق ومحاسبة، فيا خيبة من انفق تمره تعلمًا، ثم ضيعه عملا وانتفاعا .

ابنُ تيمية وأعظمُ اللذات: قال رحمه الله :( ليس في الدنيا من اللذات ،؟أعظمُ من لذة العلم بالله، وذكـره، وعبادته ) . لأنها جوهرُ السعادة، وغايةُ اللذاذة، ومنتهى الراحة، ومستقر السعد والبهاجة .

عمرُ بن عبد العزيز والعمل بلا علم : قال رحمه الله :( مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، كَانَ مَايُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ ). لأن منتهاه الغلط والتخبط، فلا منارة تَهدي، ولا دليل يَسطع ، وكل ذلك مرده في العلم وفقهه وبيناته .

الثوري وسببُ تفضيل العلم : قال رحمه الله :( إنما فُضِّل العلمُ ، لأنه يُتّقَى به الله، وإلا كان كسائرِ الأشياء ). حيث احتوى النصوصَ الهادية، والأدلة الناصحة ، والمواعظَ الزاجرة، تنفض القلوبَ نفضا، وتهز البصائر هزا ، وتصلح المسار، وتمنع الانحدار ، والله الموفق .

ابنُ القيم ونعمةُ استظهار القرآن : قال رحمه الله :( من استظهرَ القرآن عن ظهر قلب، وظن أن أحدًا أُعطي أكثرَ مما أعطي، فما قدَر نعمةَ الله عليه ). وأولى الناس بذلك حملةُ العلم الشرعي، وأئمة المساجد والدعاة، فهم قراؤه ودعاته، فاستظهارهم له أدب أصيلٌ ، وزادٌ جميل ، وسيجدون بركة ذلك في دعوتهم وأرزاقهم.

ربيعةٌ وسجنُ المفتين : قال رحمه الله :( ولَبعضُ مَن يفتي هَهنا ، أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق ) . لما فيهم من اندفاع أو جهالة، أو عدم اكتمال علمي، مؤذ وقاسٍ.. فلا النصوصُ مستوفاة، ولا القواعدُ مستلهمة ، فيفسد أكثر مما يصلح ..! وقد علَّق العلامة‏ ابنُ القيم رحمه الله فقال : فكيف لو رأى ربيعةُ زماننا، وإقدامَ من لا علم عندَه على الفتيا، وتوَثُّبَه عليها، ومَدَّ بَاعِ التكلُّفِ إليها، وتسلُّقَهُ بالجَهْل، والجرأة عليها، مع قلَّةِ الخِبرة وسُوء السِّيَرة.

عوفٌ الأعرابي وتواضعُ المعلمين : قال رحمه الله :( أما وَاللهِ، مَا نُعَلِّمُكُمْ مِنْ جَهَالَة، ولكِنَّا نُذَكِّرُكُمْ بعضَ ما تَعْرِفُونَ، لعلَّ اللهَ أنْ ينْفَعَكُمْ بِهِ ). وهنا درس أن لا يُظهر المعلم فضله على من دونه أو يجهّلهم، بل يتواضع حتى يبارك له ، وقد أضحينا في زمن يتعالى التلميذُ على أساتذته ، ويظهر مقامه عليهم، ودرايته أكثر منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ابنُ أبي مُليكة وصفة الصحابة : قال رحمه الله :( أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ ، كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه ). وهذا غايةُ العلم الخصيب ، الذي يخالطُ الأرواح ، فيقذف فيها خشيةَ ربها، ومهابته ، ويحملها على الورع وخوف النفاق، والاسترزاق بالدِّين، ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )، والله المستعان .

أبو الدرداء وعلامةُ الجهل : قال رضي الله عنه :( علامة الجهل ثلاثة : العُجْب، وكثرةُ النطق فيما لا يعنيه، وأن يَنهى عن شيءٍ ويأتيه ) . ولذلك وجبَ الحذرُ من الجهلة، وصفاتهم الدالة على عُجبهم ، أو تلفظهم الدائم ، أو مناقضتهم أفعالهم.

ابنُ تيميةَ وأصل ضلال الناس : قال رحمه اللهُ :( وأصل ضلال من ضل ، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله ، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله ). وهذه الفائدة متعينة في حق العلماء وطلبة العلم الذين يقيسون في ظل نصوص واضحة، أو يشتهون ويترخصون والأدلة داحضة ، ومعانيها قاطعة .

وهبٌ والأربعُ ساعات: يقول وهب بن منبه رحمه الله : ( حقٌ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات : ساعةٌ يناجي فيها ربه، ساعة يحاسبُ فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه، وساعة يخلو فيها بينه وبين لذاته ). لأنها شكل من التوازن الاجتماعي والذاتي المحتاج إليه ، وعدمه يعني الفوضى والاختلال، المورث للمتاعب .

ابن القيم ومضحكة العقلانيين : قال رحمه الله:( مَا عَارَضَ أَحَدٌ الْوَحْيَ بِعَقْلِهِ ، إِلَّا أَفْسَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَقْلَهُ حَتَّى يَقُولَ: مَا يَضحكُ منه الْعُقَلَاءَ ) . لأنه مجترئ على النقل والوحي، وقد رأينا مضحكاتهم ، وأحيانا الله حتى لمسنا ضلالهم ومضحكاتهم من مفكرين زعموا، وما هم إلا حفنة مخرفين، تخرجوا من السربون وشبهها، فضحكنا واندهشنا، وحمدنا الله على نعمة الدين والعقل ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ). سورة الملك .

ابنُ حنبل والتجدد اليومي : قال صاحبه إبراهيم الحربي رحمه الله: ( صحبت أحمد بن حنبل عشرين سنة ، فما من يومٍ إلا وهو أفضل من اليوم الذي قبله ). والمعنى الثبات والمحافظة على ما عنده من خير، وهو مستلزمٌ لتجويد العمل كل يوم ، وهو مشعرٌ بالنفس المؤمنة التفاؤلية .

أبو قلابةَ وجديدُ العلم : قال رحمه الله : ( إذا أحدثَ الله لك علماً، فأحدِثْ لله عبادة، ولا تكن إنما همك أن تحدثَ به الناسَ ). لأنها نعمةٌ تقابل بنعمة موازية، وشكران وخضوع ، يظهر العبد فيها ذله وافتقاره إلى ربه تعالى (...أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) سورة فاطر ... والله الموفق .



 

 
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية