اطبع هذه الصفحة


غَدوةُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


مع سَعٍته العلمية، وتفنّنهِ المعرفي ، وعبقريتِه اللامعة ، وترجيحاته الباهرة ، ومناظراته الفذّة ، إلا أن لديه مستندا متينًا،وركنًا ركينًا ، وغذاء روحيا، وزادًا مخبأً، ينفعه في المواقف، ويثبته في المُدلهمات ، قال تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله: " حَضَرتُ ⁧‫شيخَ الإسلام‬⁩ مرَّةً، صلَّى الفَجرَ، ثم جلَسَ يذكُرُ اللهَ تعالى إلى قريبٍ مِنَ انتِصافِ النهارِ، ثم التَفتَ إليَّ، وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغَدَّ الغَداءَ، سقَطَتْ قُوَّتي " .

وهو ما يقصِّرُ فيه بعضُ طلاب العلم، .. تطغى الدروسُ والمعارف ، وجديدُ الكتب والتأليفات ، والنشاط البحثي عن الزنبقة الروحية الثابتة، والزاد الإيماني الكامن، الذي يمثلُ منزلةً عليا، تربو على الطعام والشراب والإجمام..!

وقال أيضًا عنه : قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا أتركُ الذكرَ إلا بنية إراحة نفسي؛ لأستعدَّ بتلك الراحة لذِكْرٍ آخَر ".

فهو من ترويحٍ إلى ترويح فاضل، ومن تجديد إلى تجدّد أمثل ، بحيث تلتهبُ الهمة، وتتضخم العزيمة، وتنشرح النفس انشراحا مباركاً.. وفِي الذكر أسرارُ ذلك وبروزُه ونجاحه ..!

فغَدوتُه القُرَانُ وكلُّ مَعنًى... من السننِ البهيجةِ والدعاءِ.../ جلوسٌ عاطرٌ في كل يومٍ...ومكثٌ عابقٌ حتى الضياءِ.../ فلا تسلِ الجمالَ بأي قلبٍ...سكنتَ وأينَ أنتَ من البهاءِ..؟!

ويقولُ الحافظ الذهبي عنه وعن خصومه : ‏(فجرى بينه وبينهم حمَلاتٌ حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبةٍ قد رمَوه عن واحدة؛ فينجيه الله تعالى، فإنه: دائمُ الابتهال، كثيرُ الاستغاثة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُدمنها) .

ويقولُ أيضا رحمه الله تعالى: " لم أرَ مثلَه في الإقبال على الله تعالى، وكان له أذكارٌ يُدمِنُها بكيفيَّة وجَمعيَّة " .

وهذه الأذكارُ المُدمنَةُ ، أُهملت عند بعضِنا ، مع الانشغال الدنيوي، والتواصل الاجتماعي ، والهوس التقني ، حتى صار فتحُ الجوالات أشدَّ وأبلغَ من فتح القرآن والسنن، والتربية الإيمانية المتجددة، والله المستعان ..!

وقال الشيخ محمد بن عبدالهادي رحمه اللهُ في عقوده : " ختم ابنُ تيمية القرآن مدةَ إقامته بسجن القلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر سورة "اقتربت الساعة": ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55]، كان ابن تيمية يقرأ كل يوم ثلاثةَ أجزاء، ويختمُ في عشرة أيام " .

وهذا الزادُ اليومي، قصّر فيه كثيرون، وأهمله طلاب، وتشاغل عنه شيوخ، وبدده آخرون ، حتى رؤي ذلك في علومهم ودروسهم واستدلالاتهم ... وبات القرآنُ غريبا في فتاويهم وخطبهم ..!

وهذه الغَدوةُ الروحية، والغذاءُ النفسي ، ينبوعٌ لا غنى للمؤمن عنه فضلا عن العالم والداعية فهي سلاحُه الضارب، وسيفه القاطع، وراحلتُه الصبور، وصوته الجهوري، وحسه النابض ، وجماله العابر، وطاقته الوهاجة، وزهرته الأنيقة ، وعبَقُه الرافل ، ودويُّه الرقراق، وعلمه الباذخ، ودعوته الصداحة...!

ومن فوائدها: أنها سندُ العلم وقوامه ، وطاقةُ النفس وثباتها، وإسعادُ الذات وانتشارها، بحيث لا تضعفُ أمامَ موقف، ولا تنهزمُ لخصم، ولا تذل لحسود ، ولا تخشى من حاقد، ولا تتلعثم عند مُغرض... تمضى مضاءً بثقة، وتنطلقُ جادةً بشوق، وتدعو خيرا بإصرار، وتبلّغ نورا باقتدار ، قد تجلببتْ بالعلم، واكتست بالذكر، وتدثرت بالابتهال... صوتُها ذكر، وحسُّها شكر، وإدمانُها فكر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحيانه ..

ولابن تيمية رحمه الله :" ‏ما رأيتُ شيئا يُغَذِّي العقل والرُّوح ، ويحفَظُ الجسم ، ويضمن السعادة ، أكثرَ من إدامة النظر في كتاب الله تعالى ".

والملائكة تشهد وتستمع ، قال الإمامُ ابن الصلاح، رحمه الله:" قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، والمــلائكة لم يعطـــوا ذلك ، وهي حريصة على استماعه من الإنس".

فأين أوقاتُنا وأحيانُنا المُبددة، وتلكم الساعات التي تحتويها أحاديثُ طويلة، وماجَرَياتٌ تافهة ، واستغراقٌ اجتماعي ، ومخالطة فجة، وتلاقٍ موجع، وأطعمة طاغية، ومشروبات غير دافئة... وقد غصّت بها المجالس والديوانيات والاستراحات ...!

وابتُلي بها بعضُ طلاب العلم ، وعباقرة الفهم والحق، حتى تجدولت معهم، ونشبت في برامجهم، فباتوا لها عاكفين، ومن أجلها محبوسين، والله المستعان .

فكيفَ الخروجُ منها ..؟! ، وقد تسلسلت بهم، وغرزت فيها أظفارها ، حتى ضُيعت أوقات وأيام، وتلاشت ساعات وأعوام .. كان بالإمكان فيها جردُ تفسير قرآني متين، أو هضم الكتب الستة، أو القضاء على الفتح أو المغني والتهام مسائله..!

ولكنها النفسُ إذا استطابت وارتاحت بالمخالطة ، واستروحت لمَّ الشمل والمؤانسة دنيويًا وفكاهيا.. بحيث يعز عليها الانفكاكُ ، ويثقل منها الانزواء ، والعود من جديد...!

ولما تُركت هذه الغدوة الروحية ، ضُيع الورد اليومي، وضعفَ التحصيل، وتناقصَ العلم، وهُجرت المكتبات، وصار كتاب (١٠٠) صفحة، أثقلَ من الصخر ، وحفظ متنٍ مشهور ، مثل الشدة الجاثمة...! فكيف بإنهاء مجلدات، أو العكوف في زنزانة مكتبية لساعاتٍ طويلات ...؟!

وهذه الغدوة الروحية هي شكلٌ من الإقبال على الله، وتعظيم شرعه ومحبته، كما وصفه مترجموه ، يتغداها لأنها زاده، وقد وجد أثرَها في صحته وعلى جسمه وقلبه .

وركائزُها: تقوى الله وإدامةُ الذكر، والمواظبة على عمل اليوم والليلة، والورد القرآني الثابت ، ومحاسبةُ النفس على ذلك، وعدم الانجراف الدنيوي ، واعتقاد أن شخصية طالب العلم ، تجانب العوام والدهماء ..

فوقتُك ذهب، ولحظاتُك غالية، وساعاتك نفيسة.. ولا يجوز التضحية بها .. فكيف بالعلماء الربانيين، والدعاة المخبتين ..؟! قال ابنُ مسعود رضي الله عنه :" ما ندمتُ على شيءٍ ندامتي على يوم غربت فيه شمسُه، نقص فيه أجلي ، ولم يزدْ فيه عملي ".

وفي قولهِ رحمه اللهُ " لو لم أتغدها سقطت قواي " تأكيدٌ للاستضعافِ الذاتي والمبدئي الذي يصيب النفسَ بعد هجرها برنامجها، ونسيانها جدولها وزادها .. حيثُ تسقط الروح، وتذهب ريحها ، وتذبلُ عزيمتُها ، فلا تحسُّ منها شيئًا ، أو تسمع لها ركزا..! ومن ضيَّع ذكرَ الله ، وودَّه وورده، وشوقه، وتصبيحه وصبوحه ، كان جزاءه السقوطُ والانهزام ، والله المستعان .

وما وهَنَ بعضُ الدعاةِ وطلاب العلم إلا بسبب تضييع هذه الغدوة، وإيثارِ غيرها عليها، وتقديم الفاني على الباقي، والاهتمام المظهري على الجوهري والمخبري.. الذي يُعليهم ويُثبِّتهم ويصونهم

والخلاصةُ: إنَّ لهؤلاء الأعلام زادًا مع ربهم تعالى ، وخبيئةً مخصوصة، وطاقة لا تهجر،.. فتعلمْ منهم، واعقدِ العزمَ على التخطي للمألوف ، وركوب صهوة العمل والجزم، واجعلها كحاجتك الماسة للطعام والشراب، فهي أجلُّ مطعوم ، وأنفسُ محروز، ومكسوب ، والله الموفق .

١٤٤٢/٧/٢٥هـ

 

 
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية