اطبع هذه الصفحة


النعي..!

د.هاني بن عبد الله بن جبير

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
فإن الله تعالى أرسل رسوله بالبينات والهدى ليتبع الناس منهاجه ويقتفوا آثاره، ويسلكوا طريقه:
وذلك أن هذا الدين دين مبني على الاتباع والاقتداء والتاسّي "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"[ الأنعام: 153].
ومخالفة طريقه تَعَرُّضٌ للفتنة والعذاب الأليم "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"[ النور: 63].
أمّا المهيع المستقيم والنهج السديد فهو الوقوف عند ما جاء به الشرع، وامتثال أمر الله ورسوله "فإن تنارعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله" [ النساء: ٥٩]. طلبًا لموعود الحق تبارك وتعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" [آل عمران: ٣١].
وعواطف المسلم مهما جاشت تُزم بزمام الشرع، وتُخطم بخطام المّلة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله!. فقال: (يا ابن عوف، إنها رحمة) ثم اتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يُرضي رَبّنا. وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (1).
فانفعالات النفس تدفق العواطف لا تُسَوّغ مخالفة الهدي النبوي، وإذ في الاعتصام بالكتاب والسُّنة منجاة من الوقوع في البدع والضلال، والواجب أن نلزم الهدي النبوي عند المصيبة، من الصَّبر، والاسترجاع، وسؤال الله الأجر والخلف وترك الندب والنياحة (2).
وإن مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند الموت النعي. قال العلاّمة ابن القيّم - رحمه الله -:[ وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك نعي الميت، بل كان ينهى عنه، ويقول هو من عمل الجاهليّة، وقد كره حذيفة أن يُعْلِم به أهلُه الناسَ إذا مات، وقال أخاف أن يكون من النعي] (3).

تعريف النعي:
النعي هو: إشاعة ذكر شيء(4). ومنه الإخبار بموت الميّت (5).
قال في لسان العرب(6):[ النعي خبر الموت.. وجاء نعي فلان هو خبر موته.. يقال نعي الميت ينعاه نعيًا إذا أذاع خبر موته وأخبر به.. وكانت العربُ إذا قتل منهم شريف، أو مات بعثوا راكبًا إلى قبائلهم ينعاه إليهم فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك]أ.هـ.

والأصل أن كل إخبار بموت ميّت فهو نعيٌ منهي عنه لعموم الخبر، لكن وردت نصوص أخرى فُهم منها التفصيل القادم:

1- إبلاغ أقارب الميت ومن يشهده ويقوم بتجهيزه غسلاً وصلاةً، وهذا جائز.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نعي النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه (7).
وذلك أنه كان بالمدينة أقارب للنجاشي ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الجبشة كذي مخمر ابن أخي النجاشي(8). وقال ابن دقيق العيد: [قيل : إنه مات بأرض لم يُقم فيها عليه فريضة الصلاة فيتعيّن الإعلام بموته ليقام فرض الصلاة عليه] (9).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه – في قصّة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغّروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فصلى عليها(10).
قال الترمذي: [وقال بعض أهل العلم لا بأس أن يُعْلم الرجل قرابته وإخوانه، وروي عن إبراهيم أنّه قال لا بأس بأن يُعلم الرجل قرابته] (11) أ.هـ.
قال الحافظ ابن حجر:[قال ابن الرابط .. النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمّة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار...] (12).

2- الإخبار بموت الميت – من غير نداء – طلبًا لتكثير المصلين فهذا جائزٌ أيضًا.
فإن رافع بن خديج - رضي الله عنه - لما مات، أتي ابنُ عمر-رضي الله عنهما - فأخبر بموته، فقيل له ما ترى أيُخْرَج بجنازته الساعة فقال إن مثل رافع لا يُخْرَج به حتى يؤذن به من حولنا من القُرى، فأصبحوا وخرجوا بجنازته(13).
قال في المغني(14) :[وقال كثير من أهل العلم: لا بأس أن يُعلَم بالرجل إخوانه ومعارفه وذووا الفضل من غير نداء ... ولأنّ في كثرة المصلّين عليه أجرًا لهم ونفعًا للميّت، فإنّه يحصل لكل مصلٍّ منهم قيراط من الأجر(15)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين، إلاّ أوجب (16)....]أ.هـ
وقال ابن دقيق العيد: [يُحمل النعي الجائز على ما فيه غرض صحيح مثل طلب كثرة الجماعة تحصيلاً لدعائهم، وتتميمًا للعدد الذي وعد بقبول شفاعتهم] (17)أ.هـ
وأمّا النداء فهو من النعي المذموم ومن عمل الجاهلية؛ قال الترمذي:[والنعي عندهم أن ينادى في الناس أنّ فلانًا مات ليشهدوا جنازته] (18).
وقال البيهقي:[وبلغني عن مالك بن أنس أنّه قال لا أُحب الصياح لموت الرجل على أبواب المساجد..] (19)أ.هـ

3- مجرَّد الثناء على الميّت – من غير رفع صوت ولا نداء – عند رؤية جنازته، أو تذكّر شيء من أعماله دون غلوٍّ ولا تجديد لوعة وحزن وهذا جائزٌ.
عن ابن مالك رضي الله عنه قال: مُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها خيرًا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأُثني عليه شرًا فقال نبي الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت.. قال رسول الله:"من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض" (20).
وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء في الفتوى رقم 2612 بقولها:[تأبين الميّت ورثاؤه على الطريقة الموجودة اليوم من الاجتماع لذلك والغلو في الثناء عليه، لا يجوز؛ لما رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي".
ولما في ذكر أوصاف الميّت من الفخر غالبًا وتجديد للّوعة وتهييج الحزن، وأمّا مجرد الثناء عليه عند ذكره، أو مرور جنازته، أو للتعريف به بذكر أعماله الجليلة ونحو ذلك مما يشبه رثاء بعض الصحابة لقتلى أحد وغيرهم، فجائز..] (21) أ.هـ

4- تعداد مآثر الميت، أو رفع الصوت بالثناء عليه، أو إعظام حال موته، أو التفجّع عليه وتهييج المصيبة به. وهو محل النهي.
قال ابن دقيق العيد:[يحمل على النعي لغير غرض ديني مثل: إظهار التفجّع على الميّت وإعظام حال موته] (22).
قال ابن حجر:[ وأما نعي الجاهلية فقال سعيد بن منصور أخبرنا ابن عطية عن ابن عون قال: قلت لإبراهيم أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم. قال ابن عون: كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابّة ثم صاح في الناس أنعي فلانًا. وبه إلى ابن عون قال قال ابن سيرين لا أعلم بأسًا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه. وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره فإن زاد على ذلك فلا] (23) أ.هـ.
فالإعلام بموت الميت متى صاحبه ندب أو نياحة أو إعظام لحال الموت أو تهييج للحزن كان مذمومًا منهيًا عنه.
قال في كشاف القناع(24) :[.. يحرم النحيب والتعداد أي تعداد المحاسن والمزايا وإظهار الجزع؛ لأنّ ذلك يشبه التظلم من الظالم، وهو عدل من الله.......... وما هيّج المصيبة من وعظ وإنشاد شعر. فمن النياحة قاله الشيخ تقي الدين – يعني ابن تيمية - .. ولما توفي ابن لابن عقيل الحنبلي قرأ قارئ " يا أيها العزيز إنّ له أبا شيخاً كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين" [يوسف: ٧٨].
فبكى ابن عقيل. وبكى الناس . فقال القارئ: يا هذا إن كان لتهييج الحزن فهو نياحة بالقرآن ولم ينـزل للنوح بل لتسكين الأحزان] (25) أ.هـ

تُلْحق بما سبق أمور تحتاج لتنبيه:

أ‌- كان السلف يحذرون من الوقوع في النهي، ويباعدون أسبابه حتى كره بعضهم مجرد الإخبار تورعًا وخوفًا من الوقوع في النعي المذموم. قال ابن حجر:[وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحدًا إني أخاف أن يكون نعيًا.. أخرجه الترمذي وابن ماجه، واستحب ذلك علقمة والربيع بن خثيم وعمرو بن شرحبيل، أن لا يُعْلم الناس بجنائزهم(26).
وعلى ذلك سار أهل العلم بعدهم. من البعد عن المذموم النهي عنه الموت من نعي ونياحة وندب وغيرها. والنهي عنه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم عمّا إذا وقف على أهل المسجد وقال مات فلان. فأجاب هذا من النعي(27).
وأدركت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لما توفي الشيخ حمود التويجري حضر للصلاة عليه - بعد صلاة الظهر - فأراد أحد الدعاة أن يتكلم بعد الصلاة المفروضة وقبل الصلاة على الجنازة، بكلمة تناسب الحال فزجره ابن باز عن ذلك ونهاه رحم الله الجميع.
ب‌- ترجمة العلماء لمعرفة تواريخهم، أو أحوالهم - عدالةً وضبطًا-، أو لأخذ عبر من حياتهم لا عند موتهم، وقرب المصاب بهم. ليس من ذلك إذ النعي إخبار بالموت، ومتى تُرجم لعالم مات وعلم الناس موته ومضى على ذلك أمد، لم يكن مذمومًا إذ ليس فيه إعظام لموته ولا تهييج بالمصيبة عليه. وما زال العلماء يصنفون في تراجم العلماء ما بين مفرد أو جامع.
ج- رثاء الميت عند موته أو بعده ليس من النعي المحرم. قال الشيخ عبد العزيز بن باز:[ ليست القصائد التي فيها رثاء للميت من النعي المحرّم، ولكن لا يجوز لأحدٍ أن يغلو في أحد ويصفه بالكذب] (28) أ.هـ.
وقد رثى حسان نبينا عليه الصلاة والسلام(29) ويكفي هذا شاهدًا.
د- من النعي الإعلان في الصحف عن موت الميت فهو كما سبق – أمّا تعزيته فيها فليس منه إذ هو تعزية وهي مشروعة، وليس إخبارًا.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز:[ النعي في الجرائد محل نظر.. وتركه أولى وأحوط] وقال: [التعزية في الجرائد... ليس ذلك من النعي المحرم، وتركه أولى؛ لأنًه يكلف المال الكثير] (30).
وهذا نهاية ما أردت تدوينه والله الموفق.


----------------------------------------------
(1) صحيح البخاري 1303؛ صحيح مسلم 2315 . واللفظ للبخاري .
(2) الندب تعداد محاسن الميت بحرف النُّدبة وهو [ وا ] . النياحة : أن يبكي ويندب برنّةٍ تشبه نوح الحمام . انظر : كشاف القناع [2/163] وفيه : [ وما هيّج المصيبة من وعظ أو إنشاد شعر فمن النياحة ] أ.هـ
(3) زاد المعاد [1/528] . والحديث أخرجه أحمد [5/406] ؛ والترمذي 986 ؛ وابن ماجه 1476 . بسند حسن .
(4) معجم مقاييس اللغة لابن فارس [5/447] نعي .
(5) القاموس المحيط للفيروز آبادي ص 1726 ؛ المصباح المنير للفيومي ص 235 . نعي .
(6) [15/334] نعا .
(7) صحيح البخاري 1245؛ صحيح مسلم 951.
(8) فتح الباري [3/141].
(9) إحكام الأحكام [1/364].
(10) صحيح البخاري 1337؛ صحيح مسلم 956
(11) السنن ص239 بعد الحديث رقم 985.
(12) فتح الباري [3/140].
(13) سنن البيهقي، كتاب الجنائز، باب من كره النعي والقدر الذي لا يكره منه [5/449] برقم 7281 .
(14) [3/524]
(15) صحيح البخاري 1323؛ صحيح مسلم 945
(16) سنن الترمذي 1028 ؛ سنن أبي داود 3164 ؛ سنن ابن ماجه 1490 ؛ مسند الإمام أحمد [4/79].
(17) إحكام الأحكام [1/364]
(18) السنن ص 239 بعد الحديث رقم 985 .
(19) السنن الكبرى [5/449].
(20) صحيح البخاري 1366؛ صحيح مسلم 949
(21) فتاوى اللجنة الدائمة [9/154].
(22) إحكام الأحكام [1/364].
(23) فتح الباري [3/140].
(24) [2/163].
(25) فتح الباري [3/140].
(26) المغني [3/524].
(27) فتاوى ورسائل سماحته [3/184].
(28) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة [13/410].
(29) السيرة النبويّة لابن هشام [4/232].
(30) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة [13/408] .

 

هاني بن جبير
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية