اطبع هذه الصفحة


مشروع مقترح للفتوى

د.هاني بن عبد الله بن جبير

 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن منصب الإفتاء منصب خطير بدون شك، فهو منصب تولاه الله تعالى بنفسه، قال تعالى: "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن".
والمفتي يقوم بعمل الأنبياء، فالله تعالى قال عن نبيه: "إنما أنت نذير".
وقال عن أهل العلم: "فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
ولا عجب فإن العلماء ورثة الأنبياء، وفقدان المفتي المؤهل سبب ضلال الأمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبض العلم انتـزاعًا من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" متفق عليه.
ولا يمكن للأمة المسلمة أن تبقى بدون مفتٍ يوجه السائلين، ويعلم المسترشدين ويدلهم إلى حكم الله تعالى فيما يعرض لهم.
وفي هذه البلاد المباركة نرى تجنيد عدد كبير من طلبة العلم في موسم الحج للقيام بهذه المهمة، كما نجد رئاسة شؤون الحرمين تتولى تنسيق وجود عدد من المفتين في الحرمين سواء في أوقات المواسم أو غيرها.
وهذا كله يصب في مسار يبين بجلاء أن الأمة لا تستغني عن وجود المفتين أهل الكفاية عددًا ونوعًا؛ لأن الحاجة تظهر أن الناس يحتاجون من المفتين إلى أعداد أكبر من الموجود منهم.
ولما كان المفتي محتاجًا لأن يتصف بصفات خلقية تؤسس تأهله للإفتاء من العمل بالعلم والإخلاص والقدرة العلمية، فهو مطالب أيضًا بخصائص تمكنه من القيام بعمله على الوجه المحقق لمقصد الشارع، من مثل الاستعداد النفسي لتحمل ضغط الناس والمران على الإفتاء وأسس التعامل مع الناس.
ولا يشك أحد في أهمية التدريب والإعداد لكل عمل دنيوي أو ديني، ومن تأمل هدي السلف وجده مفيدًا لهذا المعنى، فيدرب الشخص على العمل الذي سيوكل إليه.
ومن ذلك: الإفتاء، فقد درب النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه على الإفتاء وأفتوا بحضرته، وهو تمرين لهم على الاجتهاد والإفتاء، وقد ذكر محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في الفكر السامي (1/220) عشرة أمثلة لذلك.
وقد قال أبوالأصبغ -عيسى بن سهل-: "الفتوى صنعة، وقد ابتليت بالإفتاء فما دريت ما أقول في أول مجلس وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن.. والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه". وقال محمد بن عبد السلام: "تجد الرجل يحفظ كثيرًا من الفقه ويعلمه غيره، فإذا سئل عن واقعة لبعض العوام من مسائل الصلاة أو مسألة من مسائل الأعيان لا يُحسن الجواب، بل ولا يفهم مراد السائل إلا بعد عسر". انظر المعيار المعرب (10/79).
وقال الإمام مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني انتهيت.
ويقول القرافي: "هذا باب عظيم يحتاج إلى فراسة عظيمة، ويقظة وافرة، وقريحة باهرة، ودربة مساعدة، وإعانة من الله عاضدة" (الإحكام ص28).
وإذا كان هذا الأمر ملاحظ في زمن مضى، فالعناية به الآن مع تطوّر الزمن وتغير الأحوال أشد وآكد، إذ الضغوط الحياتية كثرت، والتفرغ قل جدًا، والنوازل ازدادت، وكثر عدد الناس. وإذا كان خبراء الإدارة والتطوير يقررون أن الإنسان لا يتجاوز مدى تذكره لربع ما يراه، فإنه في المقابل يتذكر 90% من الذي يعمله ويؤديه فعلاً.
ومن هنا جاء هذا المشروع الذي هو إعداد معهد لإعداد وتأهيل المفتين وتطويرهم.
وهو معهد يتولى إعداد طلبة العلم ليكونوا مؤهلين للإفتاء، فهو مرحلة متقدمة من التدريب والتطوير لطلبة العلم؛ ليكونوا بعد ذلك مستعدين لتحمّل هذا العمل.
وإذا كان الأئمة، والدعاة، والقضاة قد أسست لهم معاهد تتولى مهمة التدريب والارتقاء، أفلا يكون للمفتين معاهد تتولى هذه المهمة لهم؟

طريقة التنمية:
لهذا المعهد –المقترح- شقان:
الأول منهما: تدريب وتأهيل المفتين داخل هذه البلاد، والمأمول أن يكون نتاج هذا المعهد هم نخبة طلبة العلم ممن يمكنه تولي مهام الإفتاء في وقت المناسك وفي الحرمين ونحوها من مواضع الإفتاء.
الثاني: هو تأهيل المفتين من أبناء الدول الإسلامية عامة.
ولكلا الشقين تقدم دورات قصيرة تتضمن تقديم عرض مهم لبعض ما يحتاجه المفتي لتكمل في نهايتها البرنامج المطوّل.
والبرنامج المطوّل يتضمن دراسة لسائر ما في البرنامج المقترح لهذا المعهد.
والدورات القصيرة نافعة لإقامتها في عدة مناطق في المملكة وخارجها بحيث تكون في غير مقر المعهد، أما البرنامج المطول فيتم داخل المعهد، ولا يقبل للدراسة في المعهد إلا حملة الشهادات الشرعية العليا، أو من يماثلهم علمًا بعد اجتياز مقابلة شخصية يعرف منها استعداده وتأهله.

أهداف المشروع:
1) تأهيل وإعداد نخبة من طلبة العلم المتمكنين علمًا وعملاً.
2) تأمين النخب الممتازة من المفتين ممن تحتاجهم الأمة.
3) سد النقص الحاصل في الأمة من المفتين الثقات على منهج سلف هذه الأمة.
4) رفع مستوى طلبة العلم ليكونوا أقدر على القيام بالدور المطلوب منهم.

الخطوط العريضة للمعهد:
المواد المقدمة:
1- أصول الفتوى.
2- دراسة نظرية لعدد من المسائل العلميّة وكيفية الإفتاء فيها.
3- دراسة لعدد من فتاوى العلماء المتقدمين والمتأخرين، وبحث أساليبهم وطريقة كتاباتهم، والنتيجة التي خرّجوا بها، ومناهجهم في الإفتاء.
4- طرق البحث ومناهجه.
5- أدب الفتوى وخلق المفتي.
6- قواعد عامة في الشريعة فقهية وأصولية مع تطبيقات عليها.
7- تطبيق عملي للإفتاء.
8- مهارات الإلقاء والتواصل مع الآخرين، والتعامل مع المواقف المحرجة.
9- إدارة المشاريع الإفتائية وتطويرها.

طريقة الدراسة:
وتكون الدراسة بطريقة ورش العمل وحلقات النقاش مع التكليف بالأبحاث.
وابتداء المعهد قد يحتم أن يكون بشكل الدورات القصيرة، حتى يتم إعداد مقره وتجهيزه كاملاً.
وخطوات المعهد المتقدمة لا حصر لها من القيام بالأبحاث والأنشطة العلمية التي تصب في خدمة الفتوى وأهل الإفتاء. وإعداد برامج تدريبية واقتراح مواد تدرّس في الكليات الشرعية حول الفتوى، وتقديم مواد علمية مبسّطة للمستفيدين في أدب الاستفتاء، وتصرف المستفتي عند اختلاف الفتوى ونحوها عبر الوسائل الممكنة.

تسويق المشروع:
يبقى أن مشروعًا كهذا قد لا يجد من الراغبين في الالتحاق به من يكفي لتحقيق أهدافه، ولحل هذا الأمر يستلزم أن يقدّم بشكل اشتراط حكومي لمن يلتحق ببعض الأعمال، أو يسوّق لدى الجهات الخيرّية المتولية للإفتاء، كما يكون بنشر الوعي بأهمية التدرب على الفتوى.
وبعد.. فهذا عرض موجز لمشروع يخدم هذه الأمة، وهو يحتاج لمن يتولاه فكرةً وهماً، إنشاء وترتيبًا.
ولن يعدم المساعدة على ذلك من كاتب هذه الأسطر ومن غيره... فهل من راغب؟!

 

هاني بن جبير
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية