اطبع هذه الصفحة


معالجة الشكاوى في الإسلام

محمد حسن يوسف

 
جاء في صحيح البخاري، ( حديث رقم 755 ): عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا. فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ َلا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي! قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا، وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا. أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي اْلأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي اْلأُخْرَيَيْنِ. قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ َلأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ، يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على الحديث في فتح الباري: أن ناسا من أهل الكوفة جاءوا عمرا يشكون إليه سعد بن أبي وقاص، حتى قالوا إنه لا يحسن الصلاة. وكان عمر بن الخطاب أمّر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة ففتح الله العراق على يديه, ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة واستمر عليها أميرا إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط, وعند الطبري سنة عشرين, فوقع له مع أهل الكوفة ما ذكر. فلما حدثت هذه الشكوى، ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب استعمل عمارا على الصلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وكأن تخصيص عمار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها مما وقعت فيه الشكوى.
وكانت جهات الشكوى متعددة, ومنها قصة الصلاة. ففي رواية أخرى، قال عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة. وذكر بعض الرواة أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه. وأنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب, وكان السوق مجاورا له فكان يتأذى بأصواتهم, فزعموا أنه قال: انقطع التصويت. وذكر بعضهم أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. علما بأن هذه الأشياء حين كشفها عمر وجدها باطلة. ويقوي ذلك القول قول عمر في وصيته: " فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة "، على ما سيلي ذكره.
فلما جاء سعد إلى عمر, خاطبه عمر بالقول: ( يا أبا إسحاق )، وهي كنية سعد, كني بذلك بأكبر أولاده, وهذا تعظيم من عمر له, وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. وإنما خص العشاء بالذكر لحكمة, وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة، كان ذلك في غيرها بطريق الأولى وهو حسن, ويقال مثله في الظهر والعصر لأنهما وقت الاشتغال بالقائلة والمعاش. والأولى أن يقال: لعل شكواهم كانت في هاتين الصلاتين خاصة فلذلك خصهما بالذكر.
قوله: ( ذلك الظن بك )، أي هذا الذي تقول هو الذي كنا نظنه. زاد في رواية أخرى: " فقال سعد: أتعلمني الأعراب الصلاة! "، أخرجه مسلم. وفيه دلالة على أن الذين شكوه لم يكونوا من أهل العلم, وكأنهم ظنوا مشروعية التسوية بين الركعات، فأنكروا على سعد التفرقة. فيستفاد منه ذم القول بالرأي الذي لا يستند إلى أصل, وفيه أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار.
وفي قوله: ( فأرسل معه رجلا أو رجالا ) دليل على أنه أعاده إلى الكوفة ليحصل له الكشف عنه بحضرته، ليكون أبعد من التهمة. وذكر بعض الرواة أن رسول عمر بذلك هو محمد بن مسلمة، فهو الذي كان يقتص آثار من شُكي من العمال في زمن عمر. وحكى آخرون أن عمر أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم, فإن كان محفوظا فقد عُرف الرجلان.
قوله: ( نشدتنا )، أي طلبت منا القول. قوله: ( لا يسير بالسرية ) الباء للمصاحبة، والسرية: قطعة من الجيش, ويؤيد ذلك رواية أخرى بلفظ: " ولا ينفر في السرية ". قوله: ( في القضية ) أي الحكومة, وفي رواية: " في الرعية ".
قوله: ( أما والله ) بتخفيف الميم حرف استفتاح. قوله: ( لأدعون بثلاث ) أي عليك, والحكمة في ذلك: أنه نفى عنه الفضائل الثلاث وهي الشجاعة حيث قال " لا ينفر "، والعفة حيث قال " لا يقسم "، والحكمة حيث قال " لا يعدل "، فهذه الثلاثة تتعلق بالنفس والمال والدين, فقابلها بمثلها: فطول العمر يتعلق بالنفس, وطول الفقر يتعلق بالمال, والوقوع في الفتن يتعلق بالدين, ولما كان في الثنتين الأوليين ما يمكن الاعتذار عنه دون الثالثة قابلهما بأمرين دنيويين والثالثة بأمر ديني, وبيان ذلك أن قوله " لا ينفر بالسرية " يمكن أن يكون حقا لكن رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم, أو كان له عذر كما وقع وهو في القادسية، وقوله " لا يقسم بالسوية " يمكن أن يكون حقا فإن للإمام تفضيل أهل الغناء في الحرب والقيام بالمصالح, وقوله " لا يعدل في القضية " هو أشدها لأنه سلب عنه العدل مطلقا وذلك قدح في الدين.
ومن أعجب العجب أن سعدا مع كون هذا الرجل واجهه بهذا وأغضبه حتى دعا عليه في حال غضبه، راعى العدل والإنصاف في الدعاء عليه, إذ علقه بشرط أن يكون كاذبا وأن يكون الحامل له على ذلك الغرض الدنيوي. قوله: ( رياء وسمعة ) أي ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر. قوله: ( وأطل فقره )، في رواية: " وشدد فقره "، وفي رواية أخرى: " وأكثر عياله ". قيل: في الدعوات الثلاث مناسبة للحال, أما طول عمره فليراه من سمع بأمره فيعلم كرامة سعد, وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه لأن حاله يشعر بأنه طلب أمرا دنيويا, وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده.
قوله: ( إذا سئل )، وفي رواية: " إذ قيل له كيف أنت ". قوله: ( شيخ كبير مفتون ) قيل لم يذكر الدعوة الأخرى وهي الفقر، لكن عموم قوله: " أصابتني دعوة سعد " يدل عليه.
وقوله : ( دعوة سعد ) أفردها لإرادة الجنس وإن كانت ثلاث دعوات. وكان سعد معروفا بإجابة الدعوة, روى الطبراني، قال: " قيل لسعد متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر, قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم استجب لسعد "

*****

وفي هذا الحديث من الفوائد سوى ما تقدم جواز عزل الإمام بعض عماله إذا شكى إليه وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت ذلك المصلحة, قال مالك: قد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة. والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة, ففي إحدى روايات الحديث: " قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقي من أمير مثل سعد لما عزلته ". وقيل عزله إيثارا لقربه منه لكونه من أهل الشورى, وقيل لأن مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين, وقيل: اختلفوا: هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه؟
وفي الحديث أيضا استفسار العامل عما قيل فيه, والسؤال عمن شكى في موضع عمله, والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل. وفيه أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممن يجاوره, وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال. وفيه خطاب الرجل الجليل بكنيته, والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه.
وفيه الفرق بين الافتراء الذي يقصد به السب, والافتراء الذي يقصد به دفع الضرر, فيعزر قائل الأول دون الثاني. ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقه منهم أو عفا عنهم واكتفى بالدعاء على الذي كشف قناعه في الافتراء عليه دون غيره فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر: " من دعا على ظالمه فقد انتصر "، فلعله أراد الشفقة عليه بأن عجل له العقوبة في الدنيا, فانتصر لنفسه وراعى حال من ظلمه لما كان فيه من وفور الديانة. ويقال إنه إنما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة, وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة.
وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه, وليس هو من طلب وقوع المعصية, ولكن من حيث أنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته. ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم, ومن الأول قول موسى عليه السلام: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) الآية. وفيه سلوك الورع في الدعاء, واستدل به على أن الأوليين من الرباعية متساويتان في الطول.
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: في الحديث أن الإمام إذا شُكي إليه نائبه بعث إليه واستفسره عن ذلك, وأنه إذا خاف مفسدة باستمراره في ولايته ووقوع فتنة عزله, فلهذا عزله عمر رصي الله عنه مع أنه لم يكن فيه خلل, ولم يثبت ما يقدح في ولايته وأهليته. وقد ثبت في صحيح البخاري في حديث مقتل عمر والشورى أن عمر رصي الله عنه قال : إن أصابت الإمارة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.

*****

رأينا في الحديث كيف عالج الإسلام شكوى أحد الأمراء من رعيته، فكان الرد هو العزل، حتى مع معلومية نقاء سريرة الأمير المشكو وطهارة يده. ولكننا في عالم اليوم نجد بعض الوزراء أو رؤساء بعض الهيئات، تحيط بهم الشبهات من كل الجهات، وتضج الشكاوى في حقهم من جميع الناس، ومع ذلك يغفل القائمون بأمر البلاد تلك الشكاوى ولا يلقوا لها بالا. حتى أصبحنا نسمع عن " الكراسي ذات الغراء "، التي يلتصق بها من يجلس عليها، فلا يمكن تغييره أبدا!!
ولا ندري العلة من وراء ذلك؟ هل يرى القائمون بأمر البلاد أن جموع الشعب هي من الرعاع الذين لا حق لهم في الكلام عن علية القوم؟ أم أن هناك دوافع وأغراض خفية تربط بينهم وبين المشكو منهم؟ أم أن المشكو منهم أصحاب جاه لا يمكن الوصول إليهم أو تسندهم قوى خفية؟
لقد حدثت فجوة كبيرة بين المثال الذي جسده الإسلام في عصوره الأولى، وبين الواقع الذي نعيشه اليوم. وكلما زاد بعدنا عن إتباع تعاليم الإسلام، كلما زاد حجم تلك الفجوة. ولن نتمكن من استعادة مكانتنا السابقة إلا بعد عودتنا لجميع تعاليم ديننا والعض عليها بالنواجذ، ففي هذا الخير كل الخير لنا.

14 من ربيع الثاني عام 1428 ( الموافق في تقويم النصارى الأول من مايو عام 2007 ).
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية