اطبع هذه الصفحة


حروب الأفكار!!

محمد حسن يوسف
بنك الاستثمار القومي

 
للأفكار سوق خاص بها، كما أن لكل سلعة من السلع أو خدمة من الخدمات سوق خاص بها، فقد تروج فكرة ما في فترة معينة، فيزداد إقبال الحكومات على تبنيها والشعوب على تنفيذها، ثم ما تلبث أن تصاب هذه الفكرة بالركود، فتتعرض للاندثار والموت، لتأخذ الراية بدلا منها فكرة أخرى جديدة، وهكذا! هذا هو ما أكدته أحداث الأزمة المالية الدامية التي تمر بها دول العالم الآن.
وما نشهده الآن هو مرحلة الكساد السريع التي تأتي في أعقاب ثلاثين عاما من صعود أفكار تيار المحافظين التي بدأت دعائمها في الاستقرار بدءا من 1979 – 1980، فيما عُرف بالحقبة التاتشرية – الريجانية ( نسبة إلى مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ورونالد ريجان رئيس الولايات المتحدة السابق ).
فمنذ بضعة أيام كان التيار الفكري السائد هو التيار الموالي لمزيد من الحرية والليبرالية في الحياة والأسواق، وكان يشيد دائما بالطابع الساحر الذي يغلب على أداء الأسواق المالية، وكان هذا التيار الفكري يصم كل من ينادي بالتدخل في شئون الاقتصاد بالغباء الشديد. وهذا هو مضمون التساؤل " لماذا نرغب في منع نحل التلقيح من التواجد في سوق وول ستريت " – الذي كان يطرحه آلان جرينسبان، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي السابق خلال الفترة 1987 – 2006.
ويعتبر آلان جرينسبان من الشخصيات الاقتصادية العريقة في التاريخ الأمريكي، لدرجة أن السيناتور جون ماكين المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية كان قد اقترح من قبل أن يكون مسئولا عن لجنة لإصلاح النظام الضريبي في الولايات المتحدة. ولكن بعد الأحداث العاصفة التي شهدتها أسواق المال العالمية على مدار الأيام القليلة الماضية، تعرضت شعبية جرينسبان للتدهور الشديد، في حين نجد ماكين يرّوج نفسه على أنه بطل التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية، بل ويعلن أن " الفساد والطمع الجامح هما السبب وراء الأزمة التي عصفت بسوق وول ستريت ".

ودائما ما تتمخض الأزمات الشديدة التي تصيب الأسواق المالية عن انهيار الأيديولوجيات السائدة التي كانت مصاحبة للأسواق في فترة الرواج السابقة عليها. ويمكن إرجاع الأزمة المالية الحالية إلى ثلاثة من الأفكار المحورية التي قامت عليها الحقبة التاتشرية – الريجانية، وهي:
o تدعيم فكرة تملك المنازل بين المواطنين
o التدخل الحكومي لتنظيم الأمور المالية
o الإيمان المطلق بالأسواق وقدرتها على إدارة الحياة الاقتصادية
فكل من هذه الأفكار الثلاثة لعب دورا كبيرا في خدمة النظام الرأسمالي لأكثر من ثلاثين عاما، بما في ذلك زيادة الرخاء وترسيخ الحرية. ولكن هذه الأفكار الثلاثة – مجتمعة – تسببت في حدوث كارثة، هي التي نعاني من آثارها في الوقت الراهن.
فقد أدت أزمة الرهونات العقارية الممنوحة للمقترضين ذوي الدخول المنخفضة بأسعار فائدة أعلى من سعر الخصم، والتي تعتبر بمثابة الشرارة التي انطلقت منها الأزمة المالية الحالية، أدت إلى إطلاق أحلام تملك المنازل لطبقة من الأفراد لم يكن بقدرتها تحمل الأعباء المالية التي ترتبت على المبالغ التي اقترضوها. وفي إبريل 2005 أخذ آلان جرينسبان يطري بالثناء على نظام الرهونات العقارية بسبب مساعدته في زيادة حجم ملكية البيوت، ووصف هذا النظام بأنه " يمثل رد فعل السوق الذي دفع بصناعة الخدمات المالية لتحقيق أكبر مكانة لها في تاريخ البلاد "!!
وفي ذلك الوقت، تم السماح للمسئولين عن البنوك الاستثمارية – الذين كانوا في موقع الصدارة أثناء الثورة التاتشرية – الريجانية - بدخول بنوكهم إلى هذا السوق الجديد، بل والتوسع فيه، وذلك لأنه كان لدى السياسيين والمسئولين عن التدخل الحكومي اعتقادا جازما بالقوى السحرية للأسواق وقدرتها الذاتية على حل أية أزمة قد تنتج.
وحدث نفس الشيء من سوء التقدير إزاء الأفكار الرئيسية الأخرى التي سادت في الفترة التاتشرية – الريجانية، مثل دعم الأفكار الخاصة بكل من الخصخصة، والتشكك في النظرية التي تُرجع التطورات الثقافية والفكرية للأفراد والجماعات إلى العوامل البيئية وليس الوراثية، وترسيخ الديمقراطية.
فحينما كانت تاتشر وأنصارها يناقشون فكرة الخصخصة لأول مرة، قوبلت هذه الفكرة بالسخرية الشديدة ، ووُصفت بأنها حلم غير قابل للتحقيق. ولكن النجاحات الأولى التي تحققت في بريطانيا بعد خصخصة شركات الطيران والاتصالات وفرت شعبية طاغية لهذه الفكرة بدأت تكتسح العالم بأسره. وهذا هو ما أعطى القائمين على سياسات الخصخصة في ذلك الوقت في بريطانيا إلى المضي قدما بطرق الموضوعات الشائكة، مثل خصخصة سكك حديد بريطانيا. ولكن أدى الفشل في إحراز النجاح في هذا الأمر إلى حدوث بعض القلاقل الاجتماعية.
وبطريقة مماثلة، فحين بدأت حقبة المحافظين، كانت الاشتباكات العسكرية الأجنبية بمثابة " فكرة قديمة " في نفوس الغربيين. ولكن أدت الحرب الخاطفة التي شنتها بريطانيا على جزر فوكلاند، وكذلك قيام الولايات المتحدة بغزو جرينادا، أدتا إلى تغيير هذه الفكرة. ولذلك أصبح مألوفا أن تشهد حقبة التسعينات من القرن الماضي سلسلة من الصراعات العسكرية، مثل حرب الخليج الأولى، وحرب البوسنة، وحرب كوسوفو، وهو الأمر الذي أدى لعدم تحرج القادة السياسيين في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا من استخدام القوة العسكرية كحل سهل في إدارة ما يروق لهم من أمور. ولكن ما نجم من أهوال ترتبت على غزو أفغانستان ومن بعدها العراق، وما أصاب الجنود المشاركين في هاتين الحربين من رعب لم تُزَل آثاره بعد حتى الآن، سوف يعيد التفكير بشأن استخدام القوة العسكرية باعتباره أسهل الحلول إلى الاتجاه العكسي ثانية.
كما مرت فكرة ترسيخ الديمقراطية بنفس الدورة من الرواج إلى الكساد. فقد كان يُشار إلى انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1989 على أنه الإثبات الكامل لنجاح الفكر اليميني وهيمنته على العالم، والذي يرى أن جميع الشعوب تستحق بالفعل نظم ديمقراطية يسود فيها حرية السوق. وازدادت بذلك قناعة المنادين بعولمة الديمقراطية في صحة آرائهم. ولكن للأسف تحولت سياسة توفير الدعم الأخلاقي للدول التي انشقت عن فلك الاتحاد السوفيتي في قارة أوربا في الثمانينات من القرن الماضي، تحولت إلى سياسة تصدير الديمقراطية بالقوة العسكرية إلى دول الشرق الأوسط بحلول عام 2003.
وتكمن الجذور الأيديولوجية للأفكار التي سادت حقبة المحافظين في أنها كانت بمثابة رد الفعل على الإجماع الذي كان سائدا قبل ذلك تجاه الأفكار الكينزية. ولكن بعد تأرجح الدورة الفكرية بصورة حاسمة الآن وانقلابها على الأفكار اليمينية للحقبة التاتشرية – الريجانية، فمن المتوقع لها أن تسير في الاتجاه العكسي. ولذا فلم يكن غريبا أن نسمع تطاير بعض الأفكار، مثل ضرورة التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي، أو وجوب تأميم بعض البنوك، أو ضرورة العمل بسياسات وسطية، وذلك في غمار البحث عن حل لتلك الأزمة الجامحة الآخذة بعنق الاقتصاد العالمي الآن.

13 من شوال عام 1429 من الهجرة ( الموافق 13 من أكتوبر عام 2008 ).
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية