اطبع هذه الصفحة


أين " إجماع واشنطن " من الأزمة المالية الحالية؟!!

محمد حسن يوسف

 
اتسع نطاق الأزمة المالية الحالية لتصل إلى آفاق واسعة للغاية لم يكن ليتخيل أحد أن تصل إليه، فكانت أشبه بقطع الدومينو التي ما أن سقطت إحداها حتى تهاوت بقية القطع على التوالي dominoes falling.

ونحاول الآن أن نبحث عن دور " إجماع واشنطن " Washington Consensus في إدارة هذه الأزمة!! وأين هو صوته في طريقة علاج كبرى الدول الرأسمالية لتلك الأزمة التي عصفت بأسواقها؟!!

من المعلوم أنه بحلول أوائل التسعينات من القرن الماضي، اتفق معظم الاقتصاديين الغربيين بشأن ما هو المطلوب عمله لإنعاش النمو في دول الجنوب. وأُطلق على هذه السياسة العامة اسم " إجماع واشنطن "، وهو الاسم الذي أطلقه عليها جون ويليامصون John Williamson. وكان إجماع واشنطن بمثابة رد فعل لعلاج ما أصاب دول العالم النامي من تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي وغيرها من المشكلات التي صاحبت استراتيجيات النمو التي تصممها الدولة – على حد رأي الاقتصاديين المشاركين في هذا الإجماع.

وقد استمد هذا الإجماع اسمه من الدعم الكبير الذي لاقاه من حكومة الولايات المتحدة ( خاصة وزارة الخزانة الأمريكية ) وصندوق النقد والبنك الدوليين، وجميع هذه المؤسسات تقع مراكزها الرئيسية في واشنطن، فمن هنا جاء اسمه. وبالرغم من أن تلك السياسات كانت تمثل تحديا كبيرا أمام الحكومات المطلوب منها القيام بتنفيذها، إلا أنها ظلت العقيدة الراسخة لهذه المؤسسات التي لا يمكن لأي أحد أن يحيد عنها قيد أنملة!!

وكان المفهوم الأساسي الذي يستند إجماع واشنطن إليه هو أن الأسواق تقود إلى النمو بطريقة أفضل من الدولة. ومن وجهة نظر هذا الإجماع، كان العلاج المقترح للدول التي عانت اقتصاداتها من اختلالات مالية من جراء تطبيقها لسياسات التصنيع بغرض إحلال الواردات وغيرها من الأزمات الدولية المتعددة التي حدثت في عقد السبعينات من القرن الماضي ( مثل زيادة أسعار البترول، وزيادة أسعار الفائدة على المستوى الدولي، والركود الذي أصاب دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ) – كان العلاج المقترح هو " التثبيت " على مستوى الاقتصاد الكلي، والذي يعقبه " التكييف الهيكلي " أو الإصلاحات على مستوى الاقتصاد الجزئي، مثل تحرير الأسعار وإتباع برامج الخصخصة.

ووضع الاقتصاديون المهيمنون على صياغة هذا الإجماع قائمة طويلة بأهم خطوات الإصلاح من وجهة نظرهم، وصل عدد بنودها إلى عشرة. ثم أضيف إلى هذه القائمة عشرة بنود أخرى فيما أطلق عليه " ما بعد إجماع واشنطن Post-Washington Consensus – على حد قول داني رودريك في دراسته عن " إعادة التفكير بشأن سياسات النمو في دول العالم النامي ".

وكان تنفيذ العشرين بندا المقترحة مرة واحدة بمثابة انتحار سياسي لأية حكومة تقوم به، حيث إن ذلك يتطلب من هذه الحكومة الدفاع عن جملة من المصالح المتعارضة في نفس الوقت. ولذا فقد كُتب العشرات بل المئات من المقالات والأبحاث عن توقيت وترتيب بنود تلك القائمة، ولكن ظل التطبيق الفعلي لهذه القائمة – كما يقول رودريك – هو " افعل كل ما تستطيعه، وبأكبر قدر ممكن، وبالسرعة التي تقدر عليها ". ولا حظ رودريك – وبحق – عدم وجود أي تبرير نظري اقتصادي لهذه الممارسات.

ولكن على الرغم من ذلك، ظلت الولايات المتحدة - ومن ورائها مؤسستا بريتون وودز - تفرض هذا النموذج على دول العالم باعتبارها أكبر قوة سياسية واقتصادية على مستوى العالم. وسعت من خلال " العولمة الاقتصادية " إلى إحلال " السوق الحرة العالمية " محل الثقافات والأنظمة الاقتصادية المتعددة التي كان العالم يتسع لها دائما، إذ حاولت دمج هذه الثقافات والأنظمة في سوق حرة عالمية واحدة – على حد قول جون جراي في كتابه الرائع " الفجر الكاذب ".

وكانت الأمور تسير على نفس المنوال، إلى أن حدثت الأزمة المالية العالمية!! فوجدت كبرى الدول الرأسمالية أن " يد السوق " قد أصابها الشلل، لتصاب اقتصاداتها بأسوأ أزمة تحدث على مر التاريخ. وتهاوت النظريات المؤيدة لقوى السوق، لنجد في التطبيق الفعلي أن تلك الدول تقوم بعمليات تأميم لبعض البنوك الكبيرة أو دخول الدولة كشريك فيها – وهي الإجراءات الاشتراكية التي طالما حذر إجماع واشنطن دول العالم النامي من تنفيذها، ومن المغبة العظيمة التي تترتب على عدم التخلي عنها!!

إن الأزمة المالية التي ضربت كبرى الاقتصادات الرأسمالية في مقتل، لتفتح الباب الآن واسعا أمام دول العالم النامي في طريقة مفاوضاتها مع المؤسسات الدولية والدول التي تقف ورائها. فعلى الدول النامية أن تحذو حذو الدول المتقدمة في تطبيق ما يناسبها من سياسات تحقق مصالحها، وعدم التعويل على إتباع منهجية واحدة والتمسك بأصولية اقتصادية لا يمكن الحياد عنها – إذ إن هذه المنهجية والأصولية الرأسمالية قد ثبت فشلها فشلا ذريعا في عقر دارها، كما أن الدول المنادية بالالتزام الحرفي لتطبيقها وإتباع تعاليمها هي أول من انقلب عليها وتخلت تماما عنها، واتبعت بدلا منها السياسات التي تكفل لها سبل النجاة!!!

mohd_youssef@aucegypt.edu
26 من شوال عام 1429 من الهجرة ( الموافق 26 من أكتوبر عام 2008 ).

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية