اطبع هذه الصفحة


بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز (1)

محمد حسن يوسف

 
إن المتأمل في آيات القرآن ليدرك بما لا يدع مجالا للشك أنه مُنَزّل من لدن حكيم خبير. ذلك أن من يتصدى لتأليف كتاب أو الكتابة في موضوع ما – مهما بلغت درجة مهارته وحذقه – لابد وأن يعتريه قدر معين من القصور، يدركه القارئ بسهولة. ولذلك تجد الكاتب إذا ما انتهى من تأليفه، يعيد النظر فيما كتبه، فيضيف ويحذف، ويبدّل ويغير. وكذلك القارئ، إذا ما أمعن النظر فيما يقرأه، وأعاد القراءة ودقق، يجد من مثالب التأليف الكثير والكثير.
أما القارئ لكتاب الله العظيم فلا يلحظ إلا تألقا وسحر بيان. وكلما أطال المرء في مطالعته لهذا الكتاب، كلما وقف على معانٍ أخرى. ومن يفتح الله بصيرته للفهم والتدبر، يستخرج عجبا. " ومن مظاهر الإعجاز في هذا القرآن أنك لا تجد حرفا فيه إلا وهو في محله، وفي مكانه، ووجوده فيه في غاية الحكمة، ويعطي في المكان الذي هو فيه من المعاني العجيب ... ومن ثم فإن المعاني التي تتولد عن دراسة كتاب الله لا حدّ لها ".[1]
وقد أتى المفسرون بزخم ضخم من المعاني الجليلة التي لو تدبرها الإنسان حين قراءته للقرآن لازداد فهمه لهذا الكتاب ويقينه به. وسوف أبدا فيما يلي باستعراض بعض هذه المعاني الجليلة، على أن أوالي الكتابة فيها على حلقات إن يسر الله وأعان، استعرض فيها صورا من الإعجاز اللغوي والبلاغي في القرآن، حتى إذا ما قرأ المرء هذه الآيات وقف على مراد الله منها واستطاع تدبرها وتعقلها.
 
الأدب مع الله سبحانه وتعالى:
وذلك بعدم نسبة الشر إليه سبحانه، أما أمور الخير فتنسب إليه تعالى، وذلك في ثنايا آيات القرآن جميعها. ونستعرض ذلك معا فيما يلي:
أ- في سورة الفاتحة، قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ ] الفاتحة: 7 [. فأسند الله تعالى الإنعام والهداية إليه، أما الغضب على الناس وإضلالهم فقد جاءت مجهولة، حيث حُذف فاعله أدبا.
ب- جاء حب الشهوات مبنيا للمجهول، في قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ... ﴾ ] آل عمران: 14 [. أما حب الإيمان وتزيينه في القلوب فقد جاء صراحة أنه من عند الله، كما في قوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ اْلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ ] الحجرات: 7 [.
ج- عند تعليل الخضر عليه السلام لأفعاله الثلاثة، نسب العيب إلى نفسه في الأولى، فقال تعالى على لسانه: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ ] الكهف: 79 [. أما حينما تحدث عن الخير في الثانية والثالثة، فقد نسبه إلى الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ ] الكهف: 80-82 [.
ففي الثالثة أسند الإرادة إلى الله وحده، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله، ولأنه إنعام محض، فكان كمال الأدب أن يسند الفعل إلى الله. وفي المرة الثانية، قال: ﴿ فَأَرَدْنَا ﴾ لأنه إفساد من حيث الفعل، إنعام من حيث التبديل، فلم ينسبه إلى نفسه منفردة صراحة، ولم ينسبه إلى الله صراحة. وفي المرة الأولى، قال: ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ نسبة إلى نفسه فقط. لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، فكانت دقته في التعبير نموذجا على كمال أدبه، فهو تعليم لنا، وأدب من أدب الأولياء مع الله.[2]
د- حينما أراد إبراهيم عليه السلام أن يذكر المرض، نسبه إلى المجهول، بينما نسب جميع أنواع النعم الأخرى إلى الله. فقال تعالى: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ اْلأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إَِّلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ ] الشعراء: 75-82 [.
قال ابن كثير: وقوله: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قَدَر الله وقضائه وخلقه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا.
هـ ـ- جاء أن الله هو الذي أورث الكتاب لعباده المصطفين، كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ ] فاطر: 32 [. قال ابن كثير: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة. بينما جاء أن الشك في الكتاب قد أتى من الذين أورثوه، وذلك في موضعين: الأول: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ ] الشورى: 14 [، قال القرطبي: ﴿ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ ﴾: وهم: اليهود والنصارى، ﴿ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ﴾: من محمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى ﴾ ] الأعراف: 169 [. قال ابن كثير: أي: ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة.
و- جاء أن جميع الشرور تأتي بما تكسب أيدي الناس: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ ] الشورى: 30 [. وأوضح منه ما جاء في قوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ ] النساء: 79 [.
ز- نسب الجن الشر إلى المجهول، بينما نسبوا الخير إلى الله. قال تعالى: ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اْلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ ] الجن: 10 [. قال ابن كثير: وهذا من أدبهم في العبارة، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح: " والشر ليس إليك ".
 
16 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 22 من يوليو عام 2005 ).


----------------------------------
[1]  الأساس في التفسير، سعيد حوى، 6/3214.
[2]  الأساس في التفسير، سعيد حوى، 6/3214.
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية