اطبع هذه الصفحة


القطرات المتساقطة تتناثر بفعل رياح الأزمة المالية العالمية

محمد حسن يوسف
بنك الاستثمار القومي

 
ليس من شك في أن جميع برامج الإصلاح الاقتصادي التي أشرف على تصميمها كل من صندوق النقد والبنك الدوليين قد وجهت جل اهتمامها إلى النواحي المالية، ولم توجه أدنى اهتمام إلى القطاعات الحقيقية إلا في الوثائق التي كانت تصدر عنهما وحسب. وكانت هذه البرامج تولي أهمية خاصة نحو استراتيجيات تشجيع الصادرات، بهدف دمج الاقتصادات الوطنية في منظومة الاقتصاد العالمي، في مقابل التخلي عن إستراتيجية الإحلال محل الواردات، التي كانت تهدف أساسا لإقامة صناعات كثيفة وخفيفة متنوعة تخدم الاقتصادات الوطنية. وكان أهم ما نتج عن ذلك تدهور أوضاع الفقراء على مستوى العالم، وزيادة أعدادهم بدرجة غير مسبوقة من قبل، للدرجة التي أصبحت تنذر بحدوث قلاقل اجتماعية في مناطق كثيرة من العالم.

وبالرغم من كثرة الانتقادات الخاصة بهذا الأمر والتي وجهت إلى تلك البرامج أثناء تنفيذها، إلا أن مصممي السياسات في تلك المؤسستين كانت لهم وجهات نظر مغايرة لذلك، واعتمدوا على نظريات مختلفة لتبرير ما ينادون به. وتمثلت أهم الحجج التي دفعوا بها في تبنيهم للعمل بهذه الأيديولوجيات في نظرية القطرات المتساقطة.

ووفقا لما يقوله ديبراج راي Debraj Ray في كتابه " اقتصاديات التنمية " ( ص: 226 )، لم تكن فكرة نظرية القطرات المتساقطة hypothesis of trickle down يتم تداولها فيما بين دوائر صانعي القرار في الدول النامية وحسب، بل أيضا في اقتصادات الأسواق الصناعية مثل الولايات المتحدة كذلك. والفكرة بسيطة، ومفادها أنه مع تحقيق معدلات كافية للنمو وقليل من التدخل لتصحيح عدم العدالة في توزيع الدخول، فإن ثمار التنمية سوف تنفذ إلى أو تتساقط على الفقراء في نهاية الأمر، حيث سيزيد الطلب على ما يستطيعون تقديمه ( والذي هو غالبا العمالة غير الماهرة ).

ولسنا بحاجة للقول أن هذا الافتراض كان بعيدا عن التحقيق. ذلك أن الأقرب احتمالا للحدوث دائما أن الأشخاص الأغنياء في أي مجتمع تغلب عليه عدم العدالة في توزيع الدخول يسعون لإدامة وجودهم وأوضاعهم النسبية. ولا يتحقق ذلك بأعمال أحادية مدروسة وحسب ( فالأفراد عادة ما يكونون قلة مهما بلغ عددهم للتأثير في أعمال الاقتصاد بأكمله ). وبدلا من ذلك، فقد يخلق الأغنياء الطلب على المنتجات، ومن ثم المدخلات، التي لا يمكن إلا للأغنياء فقط أن يعرضوها!! كما أن الطبقات مرتفعة الدخل في الدول النامية غالبا ما تكون طبقات مسرفة لا تدخر ولا تستثمر، بل تبدد الفوائض التي تتراكم لديها في مصارف استهلاكية لا تفيد المجتمع. وهذا ما أدى إلى تناقص معدلات النمو في تلك الدول.

وهكذا لم يكتب لمفهوم القطرات المتساقطة الذي تبناه الاقتصاديين الغربيين، وعلى رأسهم المسئولين في كل من صندوق النقد والبنك الدوليين الاستمرار، حيث كان ميلاده مليئا بالشكوك في فعاليته. ثم جاءت الأزمة المالية العالمية الراهنة لتذهب بما تبقى من أفكار لهذه النظرية.

إن ما يجعل الأزمة المالية العالمية الراهنة شديدة الوطأة هو تضمنها لتشابكات عديدة للغاية، والتي لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد الحقيقي. وهذا هو ما يفسر فشل العلاج الجزئي في استئصال هذه الأزمة من جذورها، أو بمعنى آخر: هذا ما يفسر عدم نجاح خطط الإنقاذ التي تعهدت كبرى الدول الرأسمالية بتطبيقها وتريليونات الدولارات التي ألزمت نفسها بضخها في الأسواق – أو على الأقل عدم تأثيرها مباشرة، وذلك في اعتقاد الكثير من الخبراء.

لقد قام على إرساء الأساس للعولمة الاقتصادية على الصعيد العالمي أربعة لاعبين رئيسيين، هم: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والشركات متعددة الجنسيات، ومنظمة التجارة العالمية ( منذ إنشائها مؤخرا ). ولم يكن لدى أي من هؤلاء المؤسسات أدنى استعداد لسماع آراء الدول التي يريدون تطبيق برامجهم فيها. وكانت معظم هذه البرامج تصب في مصلحة الأغنياء، ونتج عن ذلك ازدياد معدلات الفقر بشكل غير مسبوق على الصعيد العالمي.
وكان أهم المبادئ التي دافعت عنها هذه المؤسسات، بمساندة شرسة من الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو مبدأ تحرير التجارة. على أن هذه التجارة العالمية كانت دائما غير متناسقة وغير عادلة وتصب في مصلحة الدول الصناعية – وذلك على حد قول جوزيف ستيجلز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، والذي كان يشغل منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي سابقا. أو كما قال سكوت مك نيلي، مدير مؤسسة سان، فإن المسألة ستكون في المستقبل هي: إما أن تأكل أو أن تؤكل to have lunch or be lunch.

وليس من الصحيح أن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي يأتي بجميع أنواع الشرور! لاشك أن التدخل الكامل للدولة في جميع أنواع النشاط الاقتصادي قد أثبت فشله في جميع التجارب التي تمت في الماضي، وفشلت معه تجارب التنمية التي تسيطر الدولة عليها. ولكن عدم تدخل الدولة تماما في أي نشاط اقتصادي قد أثبت فشله أيضا، وفشلت معه تجارب التنمية التي حاولت أن تتم بدون أي تدخل للدولة. وهي التجارب التي وصلتنا واضحة في حالة كل من الصومال وليبريا على سبيل المثال! ويظل التوسط في الأمر هو البديل المطلوب، وهو البديل الذي أثبت نجاحه في الدول التي أثبتت نفسها ونجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية. فليست الحكومة الجيدة من قبيل الترف، بل هي ضرورة حيوية لتحقيق التنمية المستدامة، وهو ما حدث بالفعل خلال تجارب التطور التي حدثت في القرن التاسع عشر، أو معجزات النمو في دول جنوب شرق آسيا خلال ثمانينات القرن الماضي.

ومن ناحية أخرى، فإن تدخل الدولة هو الأمر الذي كان ينادي به معظم المفكرين الاقتصاديين أثناء نمو النموذج الرأسمالي وبدايات تشكله. فنجد كارل بولاني في كتابه " التحول العظيم " يقول: " إن الذي فتح الطريق إلى السوق الحرة وأبقاه مفتوحا هو التصاعد الهائل في سياسة التدخل المتواصلة والمخططة والمحكومة مركزيا ". وهو ما يبدو واضحا كذلك في تعليق أ. ف. دايسي على تجربة " دعه يعمل دعه يمر "، حيث قال: " إن المؤمنين بمبدأ ( دعه يعمل ) تبينوا أنه من أجل بلوغ غاياتهم، كان تحسين الجهاز الحكومي وتقويته من الضرورات المطلقة ". وهكذا فلم يكن يتصور أحد عدم قيام الدولة بالتدخل في النشاط الاقتصادي منذ صعود الفكر الرأسمالي، وذلك إلى أن أمسك الليبراليون الجدد بمقاليد الأمور، فانقلبوا على هذه الآراء تماما، ونعتوا تدخل الدولة بكل قبيح، وعملوا على تحجيم دور الدولة إلى أضيق حد ممكن. وهو الأمر الذي نص عليه " توافق واشنطن " صراحة، وأسماه حكومة الحد الأدنى minimal government، والذي ظن القائمون عليه أنه من الممكن تحقيق ذلك في نفس الوقت الذي يتحقق فيه مبدأ سيادة الأسواق الحرة. وهو ما أثبتت التجربة العملية فشله تماما على نحو ما حدث من نتائج أفرزتها الأزمة العالمية التي اكتسحت أعتي الاقتصادات العالمية المتقدمة!!

لقد كان من أهم نتائج الحركة الأخيرة للعولمة التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزايدت وتيرتها منذ ثمانينات القرن الماضي – كان من أهم نتائجها زيادة اتجاه الثراء من خلال التعاملات في البوصات المحلية والدولية، وهو ما يطلق عليه financialization، وذلك في مقابل ضعف الاتجاه نحو التصنيع industrialization، وهو الاتجاه الذي كان سائدا حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي كأساس لتراكم الثروات.

وعلى حد قول جون جراي في كتابه الرائع " الفجر الكاذب "، فقد كان من نتيجة تطبيق مبادئ السوق الحرة بصفة عامة زيادة بؤس العمال، حيث تطلب الأمر تغيير دور النقابات العمالية وإضعافها. وأصبحت سوق العمل الأمريكية بمثابة النموذج الذي سارت على هديه - أو بعبارة أصح الذي فُرض على – جميع الدول سواء المتقدمة أو النامية. ومن الجدير بالذكر أن سوق العمل الأمريكية تمتاز بعدة خصائص، لعل من أهمها ارتفاع مستوى الحراك فيها، ومرونتها الشديدة في تخفيض الأجور، وقدرتها على تخفيض التكاليف لمصلحة أرباب الأعمال. وهي خصائص تصب كلها في غير صالح العمال، الذين يمتازون غالبا بمهارات محدودة تجعلهم يرضون بأقل من الحد الأدنى اللازم لإعالة ذويهم. وكانت النصيحة التي أسديت لأفراد الطبقة الوسطى السابقة هي التعامل في الأوراق المالية، نظرا لعدم انتمائهم للعمل في أية شركة أو مؤسسة بعينها. وكان ذلك بالطبع يعني ضياع هؤلاء الأفراد لدى أية هزة أو أزمة قد تصيب نظام الأوراق المالية، وهي الأمور التي تكررت كثيرا خلال العشرين عاما الماضية، مما أدى لازدياد البؤس وانتشار الفقر بدرجات كبيرة وغير مسبوقة على مستوى جميع دول العالم!!
وهكذا فلم تثبت نظرية القطرات المتساقطة جدواها في أي وقت، بحيث لم يعد هناك أي أساس نظري للتمسك بالعمل بها، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية لتذهب بما تبقى من الأسس الفكرية التي تقوم عليها هذه النظرية. لقد أصبح لزاما على جميع الدول النامية التفكير في طرق أخرى مغايرة لعلاج الأزمات التي تعاني الطبقات الفقيرة منها، بحيث تضع حدا لمعاناتهم وترسم الآمال بشأن مستقبلهم.


mohd_youssef@aucegypt.edu

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية