اطبع هذه الصفحة


صراع النظريات والمصالح في دافوس

محمد حسن يوسف
بنك الاستثمار القومي

 
إذا كانت هناك معارض سنوية تقام للكتب وأخرى للسلع، فإن هناك أيضا معرضا سنويا للعولمة، والذي يُعرف باسم " المنتدى الاقتصادي العالمي " بدافوس، والذي انعقدت آخر مؤتمراته في شهر يناير 2009. وخلال العقد الماضي، أثمرت اجتماعات دافوس عن أعمال تجارية ضخمة وتدفقات مالية كبيرة بالإضافة إلى قرارات سياسية على أعلى مستوى تهدف لتعزيز اندماج الاقتصاد العالمي وتشجيع جميع الدول على القيام بذلك. ومهما كانت المنافسات التجارية أو الاختلافات السياسية، فدائما ما كانت تتفق جميع الوفود بدافوس على أن الطريق لتحقيق السلام والرخاء يكون من خلال تشجيع تدفقات التجارة والاستثمار على المستوى الدولي – أو باختصار: تدعيم حركة العولمة.
على أن هذا العام كان على المنتدى الاقتصادي العالمي أن يواجه ظاهرة جديدة – وهي الحد من وتيرة العولمة. لقد ارتد العالم الذي ابتكره رجال دافوس على أدباره وأصيب بانتكاسة كبيرة. فقد انخفضت تدفقات التجارة والاستثمار على المستوى الدولي وتزايدت حجم الحواجز الحمائية. ودخلت الاقتصادات في مرحلة من الانكماش مع تزايد معدلات البطالة. ووفقا للتحديث الذي أدخله صندوق النقد الدولي على تقريره نصف السنوي " آفاق الاقتصاد العالمي " الصادر في أكتوبر 2008، فيتوقع الآن انخفاض النمو الاقتصادي العالمي إلى نصف بالمائة فقط في هذا العام، وهو أقل معدل نمو يتحقق منذ الحرب العالمية الثانية. كما يتوقع أيضا انخفاض الناتج في الدول مرتفعة الدخل بنحو 2 بالمائة، وهو أول انكماش سنوي يحدث منذ عام 1945. أما الإنتاج الصناعي والصادرات السلعية فيتوقع لها الانخفاض كذلك، حيث يقرر المستهلكون عدم حاجتهم للسيارات الجديدة أو للسلع الاستهلاكية الجذابة على الأقل في الوقت الراهن.
لقد أصبحت أعراض الحد من العولمة تحيط بنا من كل مكان. وعلى سبيل المثال، أعلنت جريدة الفاينانشيال تايمز عن انخفاض حركة نقل البضائع عبر الملاحة الجوية في ديسمبر 2008 بنحو 22.6% مقارنة بما كان عليه الوضع في ديسمبر 2007. وأعلن رئيس وزراء تايلاند في المنتدى أن عائدات السياحة في بلاده انخفضت بنحو 20% على أساس سنوي، وذلك بالتوازي مع التدهور في حركة السياحة الدولية. أما في الولايات المتحدة وأوربا، فإن الحكومات تسعى لإعادة الحياة ليس في البنوك وحدها، ولكن في شركات السيارات كذلك. ولكن تظل " المساعدات التي تقدمها الدولة " إلى الشركات الصناعية المحلية نوعا من أنواع التدابير الحمائية – على نحو ما كرر الاتحاد الأوربي ذلك الأمر طويلا من قبل.
كذلك طغى نوع ما من " المركنتيلية " المالية على محادثات دافوس في هذا العام. حيث تزايدت الضغوط على البنوك والمؤسسات المالية للتراجع عن إبرام الصفقات الدولية للتركيز بدلا من ذلك على الأسواق المحلية. ولخص وزير مالية جنوب إفريقيا مخاوف العديد من السياسيين حينما حذر من أن بلاده وغيرها من الأسواق الناشئة على حافة الخطر من استبعادها من أسواق رأس المال الدولية لتعاني بذلك من الحرمان وانخفاض التدفقات المالية إليها.
ويدفع إلى الحماية المالية منطق السوق والضغوط السياسية. ذلك أن البنوك التي خسرت الثقة ورأس المال في الأزمة المالية تتجه الآن إلى الأسواق المحلية التي تعرفها جيدا. وبسبب ذلك فقد قام دافعو الضرائب " المحليين " بمساعدة العديد من البنوك المتضررة، لتقع بذلك تحت الضغوط السياسية بضرورة الإقراض محليا بديلا عن الخارج.
وبالرغم من ذلك، كانت هناك دلائل قليلة في دافوس على أن الأزمة المالية العالمية قد قادت إلى أي إعادة للتفكير بشأن الافتراضات التي تقوم عليها العولمة. حقا، أصبحت " الموضة " الآن الحديث عن ضرورة دعم البنوك الخاسرة مع الدعوة لمزيد من الإشراف الدولي على النظام الحالي للمؤسسات المالية. ولكن تظل مبادئ السوق الحرة والاندماج الاقتصادي الدولي تشكل تحديا كبيرا أمام كل ذلك.
وقد ركز منتدى دافوس في هذا العام من عدة وجوه على مدى اتساع نطاق هذه الأفكار الآن بحيث تشمل العالم كله. فبعد عشرين عاما من نهاية الحرب الباردة، يظل من المثير للدهشة أن تجد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين يحذر من " الإيمان الأعمى " بما يسمى " قوى السوق المفرطة "، أو أن تجد رئيس الوزراء الصيني وين جياباو يعلن أنه يعيد قراءة كتاب آدم سميث مرة أخرى أملا في الخروج برؤية جديدة لعلاج ما حدث وعلاج الوضع الراهن.
ولكن بالرغم من استمرار ترسخ الأفكار التي دعمت العولمة وعدم تأثرها بكل ذلك، إلا أن الأحداث تتحرك في الاتجاه المعاكس. فقد أعلنت الجرائد المتناثرة على جانبي الطرق المؤدية لدافوس عن انخفاض تدفقات التجارة العالمية. بل إن هذه الجرائد تكلمت أيضا عن حدوث عدة مظاهرات في فرنسا، وقلاقل اجتماعية في روسيا، واحتجاجات مناهضة للأجانب في بريطانيا. كما تظل التعهدات التي شهدتها دافوس من أجل " استكمال جولة الدوحة " لمحادثات التجارة العالمية مجرد أقوال جوفاء لا يعضدها أي إيمان داخلي بالعمل من أجل تحقيق ذلك على أرض الواقع.
وفي الحقيقة، بالرغم من تجديد القادة السياسيين التزاماتهم بالعولمة في دافوس، فغالبا ما كانت حكوماتهم تتحدث عن خطوات مناقضة لتلك الالتزامات في أوطانهم. وليس هناك ما يجسد هذه المقولة أكثر من موقف جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا، الذي جعلت تصريحاته عن أهمية تعضيد الاقتصاد الدولي ونداءاته بشأن تعزيز التعاون الدولي – جعلته نجما من نجوم دافوس لهذا العام.
ففي اجتماعات المنتدى، حذر براون بشدة من " الاتجاه نحو الحد من العولمة " كما شجب الاتجاه نحو تدعيم الإجراءات الحمائية المالية والتجارية. ولكن أصيبت الوفود المشاركة في دافوس بدهشة شديدة حول مدى توافق هذه التصريحات مع الضغوط التي مارستها الحكومة البريطانية على البنوك التي تلقت صفقات دعم منها لكي تعطي الأولوية للعملاء المحليين. وفي تلك الأثناء، نظم العمال الساخطين مسيرة رفعوا خلالها اللافتات التي نقشوا عليها كلمات براون " الوظائف البريطانية لعمال بريطانيا ". وهذا ما دعا البعض لوصف براون وغيره من زعماء الدول الغنية بالنفاق. ذلك أن هؤلاء القادة يفعلون غير ما يقولون. على أن العذر الذي يبرر به هؤلاء القادة أعمالهم هو أنهم يقعون بين شقي الرحى: فعلى الصعيد الفكري، فإنهم يؤمنون بوجوب الحفاظ على الأسواق مفتوحة وعلى استمرار تدفقات التجارة والاستثمار. ولكن على الصعيد السياسي، فإنهم يواجهون ضغوطا شديدة من أجل الاستجابة لمطالب الناخبين الذين بلغ بهم الغضب والخوف مداه، وتمادوا في مطالبهم المنادية بتطبيق السياسات الحمائية.
وتوحي التطورات الحديثة أن أصوات المواطنين الغاضبة ستعلو على الأفكار النظرية المجردة. فلم يعد في قدرة منظمي دافوس السيطرة على الأحداث. لقد أثبتت الأزمة المالية أن العولمة قد أحدثت نظاما اقتصاديا أكثر تعقيدا وأكثر خطورة مما كان يدور بخلد الوفود المجتمعة في دافوس. وتبدو عدم قدرة الساسة ورجال الأعمال المحتشدين من جميع أنحاء العالم في دافوس على إيقاف التحول نحو السياسات الحمائية – تبدو وكأنها المحطة القادمة في قطار " تقويض إجماع دافوس "، كما تقوض من قبله " إجماع واشنطن ". وهكذا يظل أمام الدول النامية فرصة كبيرة لصياغة مستقبلها بأيديها إذا ما توحدت جهودها واغتنمت الفرصة المواتية لذلك.
ويعقد معظم الخبراء الآمال على الولايات المتحدة للخروج من هذا النفق المظلم. ولكن يظل تنسيق تصرفات الدول على المستوى العالمي من الأمور المطلوبة بشدة، فحتى الولايات المتحدة لا تستطيع حل مشكلاتها بمفردها بمعزل عن المجتمع الدولي. على أنه يجب أن يكون واضحا أن تقوم جميع الدول بتطبيق السياسات المقترحة، فليس من المقبول أن تتحمل الدول النامية وحدها عبء تنفيذ تلك السياسات. كما يجب توجيه جميع الجهود لإنعاش الطلب على السلع والخدمات، أو ما قال عنه كينز من قبل " الطلب الفعال"، وذلك بدلا من الانشغال بكيفية إصلاح البنيان المالي العالمي.
وحتى هذه اللحظة، لم ترق الأفكار لمواكبة التحول في العالم الحقيقي. ففي احتفالية العولمة لهذا العام، ترنمت الوفود المشاركة بنفس " التراتيل " القديمة عن الأسواق المفتوحة والاندماج الدولي. ولكنهم لم يعودوا مقتنعين تماما بهذه الأفكار. ففي رحاب العالم الواسع، تزايدت بدرجة كبيرة أعداد الناس التي لم تعد تعطي آذانا صاغية لتلك الترنيمات! وتظل الآمال كبيرة بشأن قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في ابريل المقبل في لندن كفرصة لتحقيق مزيد من الخطوات نحو حل الأزمة الحالية.

mohd_youssef@aucegypt.edu
15 من صفر عام 1430 من الهجرة ( الموافق 10 من فبراير عام 2009 ).

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية