اطبع هذه الصفحة


صندوق النقد الدولي وسيناريوهات الإصلاح!!

محمد حسن يوسف
بنك الاستثمار القومي

 
من المعترف به على نطاق واسع أن العديد من الاقتصادات الصغيرة في العالم لا تمتلك الموارد اللازمة لحفز الطلب من أجل تقليص انكماش الناتج في مواجهة العواصف المناوئة التي تهب عليها الآن. ومنذ نحو ستين عاما مضت، أنشأ العالم صندوق النقد الدولي بهدف من مساعدة الدول على التصرف في مواجهة التقلبات الدورية التي تواجه اقتصاداتها. ولكننا نجد أن معظم الدول لا ترغب في استخدام الصندوق الآن إلا كملاذ أخير، ولذلك فيكاد لا ينتفع بالصندوق في مواجهة ما يعتبر كأشد صدمة واجهت العالم منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ولكن استمرار هذا الأمر غير مقبول. وهو ما يمكن تغييره من خلال العمل على عدة محاور:

أولا: الإصلاح المؤسسي:
وهو أول الأشياء التي كثر الحديث عنها خلال الفترة الماضية لدرجة الملل. وبسبب غياب دور مؤثر للصندوق في التلطيف من شدة الأزمة المالية العالمية الراهنة، فقد بدا للجميع وكأنه تائه بسبب المستقبل الغامض الذي لا يعرف كنهه!! و يوجد الآن بعض الأمل في عدم استسلام إدارة الرئيس أوباما كما فعلت سابقتها وعدم القيام بالإصلاحات الحقيقية المنشودة، وبصفة خاصة تلك المتعلقة بإجراءات حوكمة الصندوق. وما لم تشعر الدول التي تريد السحب من موارد الصندوق بأنه مؤسستها التي ينبغي التعامل معها بشفافية ، فمن غير المحتمل أن تلجأ إلى الصندوق لمساعدتها في الأزمات التي تعترض طريقها.
وتتمثل أولى التغييرات المقترحة في الكراسي والأنصبة الخاصة بالدول الأعضاء. وتشير الكراسي إلى المقاعد الخاصة بالمجلس التنفيذي، والأنصبة إلى النسبة المئوية للحصص الإجمالية التي تحدد قوة التصويت في الصندوق. وفي الوقت الراهن يشير كلا من الاثنين إلى العالم الذي كان سائدا في حقبة الأربعينات من القرن الماضي، والذي كان يهيمن الأوربيون عليه من الناحية العددية ، بالرغم من وجود دولة واحدة فقط – هي الولايات المتحدة – التي لها حق الاعتراض.
وأحد التغييرات الحقيقية قد تعطي الاتحاد الأوربي ممثلا واحدا، له نفس قوة التصويت التي لممثل الولايات المتحدة، وبحيث لا يحق لأي منهما الاعتراض على القرارات التي يتخذها الصندوق. وقد يسمح ذلك لزيادات جوهرية في كل من الكراسي والأنصبة للدول الآسيوية، التي يقل تمثيلها بدرجة فظيعة حاليا من منظور النمو السريع الذي حققته المنطقة خلال نصف القرن الماضي. وقد توفر تلك التغييرات فرصة مواتية للنظر في تخفيض حجم المجلس التنفيذي، وزيادة الأصوات الرئيسية ( الأمر الذي يفيد الدول الصغيرة )، بالإضافة إلى زيادات الحصص في حالات الطوارئ التي تستدعي هذا، وذلك من زاوية النمو الاقتصادي الذي تحقق في الماضي.
وتحتاج التغييرات في حوكمة الصندوق المضي لأبعد من مسألة الكراسي والأنصبة، بالرغم من كون ذلك أساسيا. فهي تحتاج أيضا أن تتضمن اعتماد العمل بنظام رسمي لاختيار العضو المنتدب للصندوق حينما يصبح المكان شاغرا، مع تطبيق آلية تهدف لتعيين أفضل شخص في العالم يكون مناسبا لشغل هذه الوظيفة، مع إلغاء الآلية السابقة للاختيار والمتمثلة في إعطاء هذا المنصب للشخص الذي ترشحه إحدى دول أوربا الغربية، التي تعتبر أن هذا هو دورها للحصول على المنصب.
وتتمثل الاقتراحات الأخرى لإصلاح الصندوق مؤسسيا توجيه مجلسه التنفيذي للتركيز على القضايا الإستراتيجية بدلا من القضايا التكتيكية، وأن تتم مساعدة الدول التي تعاني من حدوث عجز لديها بغض النظر عن السياسات الاقتصادية التي تتبعها، لأن ذلك يدخل في صميم الشئون الداخلية لكل دولة، كما أن اللائحة الأساسية التي وافقت الدول بموجبها على الانضمام للصندوق لا تنص على ذلك إطلاقا!

ثانيا: مستوى إقراض الصندوق:

وثاني نوع من الإجراءات يهدف لزيادة المستوى المحتمل للتمويل عن طريق الصندوق خلال الأزمة. كما يتضمن ذلك أيضا إجراء نوعين من التغييرات: تغيير المبادئ التي تحكم عمليات الإقراض التي يبرمها الصندوق، وزيادة المبالغ المتاحة للإقراض – وسوف نفرد لزيادة المبالغ المتاحة للصندوق بندا مستقلا نظرا لأهميته. وبالمثل تميل المقترحات الداعية لإصلاح المبادئ الحاكمة لإقراض الصندوق - تميل لكي تأتي في صورتين: وفي هذا الصدد يتم التفرقة بين الدول التي ترغب في الاقتراض كآلية دفاعية نتيجة لأحداث تجري في مكان آخر لم يكن لها يد فيها، وتلك التي تُجبر على الذهاب للصندوق بسبب قصور سياساتها الخاصة. كما يجب أيضا أن يفسح المجال للدول للاقتراض بإرادتها الخاصة حينما يحدث عجز في نقدها الأجنبي من خلال خطأ لم يحدث بسببها.
وهناك أيضا مقترحات لتخفيف المشروطية التي تواجهها الدول التي عليها الذهاب إلى الصندوق بسبب عدم ملائمة سياساتها الخاصة. ولا يعني هذا عدم تحمل الدولة المقترضة لأعباء القرض، بل يعني ذلك عدم ارتباط تلك القروض بشروط سياسية أو إملاءات عليها بوجوب إتباع سياسة بعينها. فمن الواضح للعيان عدم ملاءمة معظم برامج الإصلاح التي تبنتها الدول النامية خلال فترتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، والتي كان يجبرها صندوق النقد الدولي على إتباعها، بل وأدت العديد من تلك البرامج إلى قلاقل سياسية واجتماعية في الدول التي طبقتها، كان لها نتائج دموية في أغلب الأحيان.
وعلى ذلك يجب أن تركز عملية إصلاح الصندوق على تمكين الدول التي ترغب في الحصول على قروضه لأسباب خارجة عنها، مثل ظروف الأزمة الراهنة، من خلال توفير المبالغ المطلوبة بدون كل هذه التعقيدات وإلغاء المشروطية. لقد ابتكر الصندوق بالفعل تسهيل السيولة قصير الأجل لتوفير تمويل سريع للدول التي تتبع " السياسات السليمة " ولكنها تعاني من قصور السيولة بسبب انتقال العدوى إلى أسواقها المالية. فهذا الإجراء ممتاز للغاية، ولكنه على أفضل الأحوال لا يساعد إلا عددا محدودا من الدول.

ثالثا: استئناف العمل بحقوق السحب الخاصة:

ومن المقترحات الأخرى لإصلاح النقد الدولي، مواصلة العمل بنظام حقوق السحب الخاصة، وهي الوحدة التي يستخدمها الصندوق في حساباته، وتتكون من سلة من عملات أقوى الاقتصادات الأعضاء في الصندوق، بل وتوسيع نطاق استخدامها كثيرا عما كان عليه الحال في الماضي. وتعتبر حقوق السحب الخاصة بمثابة نقود دولية، كان قد بدأ العمل بها في أواخر الستينات من القرن الماضي للتعامل مع العجز الذي تواجهه الدول في احتياطياتها.
ولكن هناك الشكوك من احتمال وقوع مآزق كثيرة إزاء هذا الاقتراح. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن حقوق السحب الخاصة تتراكم لدى المستحقين وغير المستحقين على السواء، أي لدى الدول التي تعاني نقصا في السيولة والدول التي لا تعاني من ذلك، ولدى الدول التي تواجه نقصا في التمويل بسبب سياساتها الخاصة التي أسيء توجيهها بالإضافة إلى تلك التي أضيرت بشدة بسبب التطورات الدولية التي تقع خارج نطاق سيطرتها. كما يمكن إرجاع بعض المآزق كذلك جزئيا إلى أن بعض الدول الدائنة لم تكن متحمسة في أي وقت مضى بخصوص حقوق السحب الخاصة.

رابعا: تسهيل التمويل المشروط:

وبسبب المشاكل التي تواجه العمل بحقوق السحب الخاصة، فقد يكون من الأفضل التعويل أكثر على نوع آخر من الإصلاحات، وهو تسهيل التمويل المشروط. وقد أدار الصندوق هذا التسهيل من قبل بنجاح ثم ألغي العمل به في إطار التوجه نحو تضييق الإقراض الممنوح من الصندوق في عام 1988. ويوفر تسهيل التمويل المشروط الأموال عمليا وبصفة تلقائية إلى الدول التي تعاني من عجز في صادراتها مقارنة بالسنوات الخمس السابقة على العام محل السؤال ( مع قيام طاقم الصندوق بتقدير مستويات الصادرات المتوقعة في المستقبل ). ويعود السبب في ذلك إلى أن هذا العجز في الصادرات ليس نتيجة لسياسات الدولة بل بسبب التطورات الدولية، ومن ثم فسوف يكون من غير الملائم أن يتطلب الأمر تغيير السياسات المطبقة في الدولة المتلقية. وسوف يوفر تسهيل التمويل المشروط - إذا ما تم العمل به - تمويلا للعديد من الدول، والتي يكون الطلب على خدماتها ضخما، كما أنه يوفر الاحتراز من إعطاء تمويل سهل لمن لا يستحقه.

خامسا: زيادة أموال الصندوق:

وقد يضيف القبول بهذا التغيير علاج ضرورة ملحة، ظهرت أثناء الأزمة المالية العالمية الأخيرة، ونعني بها زيادة الأموال المتاحة تحت تصرف الصندوق. وفي الاجتماع التحضيري لقمة العشرين المزمع عقدها في الثاني من شهر ابريل المقبل، وافق وزراء مالية ومحافظو البنوك المركزية للدول الأعضاء في المجموعة على زيادة أموال الصندوق، والبالغة 250 مليار دولار، زيادة كبيرة تتراوح بين الضعفين والثلاثة أضعاف.
ويتوقع أن تقوم الدول ذات الفوائض الكبيرة، والتي لديها احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، بتمويل هذه الزيادات. وتأتي الصين في مقدمة تلك الدول، وكذلك الدول الرئيسية في تصدير البترول، مثل المملكة العربية السعودية، وأيضا اليابان التي عرضت بالفعل تقديم مساهمة تبلغ 100 مليار دولار.
وفي المحصلة، كشفت الأزمة المالية العالمية الراهنة عن قصور كبير في الدور المنوط بصندوق النقد الدولي أن يؤديه في الاقتصاد العالمي. فبينما كان صوته عاليا مع كل أزمة تضرب اقتصاد إحدى الدول النامية الأعضاء، وبينما كانت شروطه قاسية عند تصميم البرامج التي تستهدف علاج اقتصادات تلك الدول، نكاد لا نجد له دورا يذكر بعد حدوث تلك الأزمة العالمية، الأمر الذي يفرض علينا مراجعة هذا الدور، ولكن على أسس جديدة أكثر عدالة وواقعية بحيث تتناسب مع الوضع الذي نحن عليه الآن وليس انعكاسا لمستويات الأربعينات من القرن الماضي.

mohd_youssef@aucegypt.edu
28 من ربيع الأول عام 1430 من الهجرة ( الموافق 25 من مارس عام 2009 ).
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية