اطبع هذه الصفحة


بين جدلية إتباع السياسات التحفيزية أو التقشفية!!

محمد حسن يوسف
مدير عام - بنك الاستثمار القومي
ماجستير الإدارة والسياسات العامة – الجامعة الأمريكية بالقاهرة


لقد غدا النقاش حول الحاجة إلى مزيد من التحفيز المالي أو الإسراع بتخفيض النفقات نقاشا أيديولوجيا محضا، بل وشديد التطرف. ومع ذلك، فيخفي هذا النقاش في طياته ما هو أكثر من الخلاف على الأسس مما قد يبدو للوهلة الأولى. وفي الواقع، فعلى الرغم من التعليقات المتناطحة بين أنصار كل جانب، والتي ظهرت على صفحات الجرائد، فلا يوجد في الواقع صراع ضروري بين استعادة الاستدامة المالية والحفاظ على الدعم من أجل تحقيق الانتعاش.
وقد ظهر هذا الخلاف في وجهات النظر في أعقاب الأزمات التي عانت منها اقتصادات دول منطقة اليورو على وجه الخصوص. ففي أعقاب الأزمة الاقتصادية والعالمية التي ضربت اقتصادات العالم منذ نحو العامين، كان الحل المقترح لجميع دول العالم تقريبا هو تبني العمل بسياسات تحفيزية لإعادة الحيوية والنشاط في الاقتصادات القومية، وذلك من خلال ضخ الاستثمارات الجديدة في قطاعات البنية التحتية والقطاعات الكثيفة العمالة على وجه الخصوص. ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن، فحدثت أزمة منطقة اليورو، ليكون العلاج المقترح آنذاك هو ضرورة إتباع سياسات تقشفية للخروج من تلك الأزمات المالية. وتداخل كلا العلاجين معا، ووقع متخذو السياسات وصانعوها في ورطة شديدة بشأن أي السياستين يمكن إتباعها.
وعلى الرغم من تزايد المخاوف في الأيام الأخيرة من حدوث ركود مزدوج في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في أعقاب الأزمات التي مرت بها معظم دول منطقة اليورو، تظل الحقائق الأساسية بدون تغيير. فسوف تصل إدارة الديون في مجموعة الدول المتقدمة العشرين إلى 115% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2015 – أي ما يقرب من 40 نقطة مئوية فوق مستويات ما قبل الأزمة الاقتصادية. وينظر بعض المعلقين إلى هذه الأرقام ويتساءلون عن الحوافز المالية التي تمت في وقت سابق. ولكن يمكن عزو عشر هذه الديون الجديدة فقط إلى تلك المحاولات التي بذلت لتعزيز الدول لاقتصاداتها. أما الغالبية العظمى من هذه الديون فتعود إلى الركود، وإلى الخسائر في الإيرادات المتعلقة بهذا الركود. وليس هناك من يعتقد أنه كان ينبغي خفض الميزانيات لتعويض هذه الخسارة في الإيرادات. بل في الواقع، فإن السماح بزيادة العجز هو الذي وضع حدا لو لم يكن موجودا لكان من الممكن أن يحدث انهيار فاجع في الطلب، بما يعنيه ذلك من التردي في هاوية الركود.
وعلى ذلك، فإن مشاكل الديون اليوم لا تنتج من كيفية إدارة السياسة المالية خلال فترة الأزمة الاقتصادية، ولكن بدلا من ذلك من سوء إداراتها خلال فترة ما قبل الأزمة. لقد دخلت البلدان المتقدمة إلى الأزمة في ظل وجود أعلى نسب للدين العام لم تحدث في أي وقت آخر حتى في ظل عدم وجود الحروب الكبرى. وتم تجاهل الدرس الأساسي للسياسة المالية الخاص بوجوب الزرع في الأوقات الجيدة والجني في الأوقات العصيبة.
والهدف المستقبلي هو تحقيق ما تسميه مجموعة الدول العشرين " النمو القوي والمستدام والمتوازن ". وهذا يتطلب بالتأكيد العودة إلى الاستدامة المالية، وهو ما يتطلب أيضا وجود خطط مالية متوسطة الأجل تتمتع بالمصداقية. وينبغي أن يكون الهدف الأول لهذه الخطط هو تحقيق الاستقرار في نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ويعني القيام بذلك على مدى السنوات الخمس المقبلة تحقيق تحسن متوسط في العجز الهيكلي في الميزانية يدور حول 1% سنويا في بلدان مجموعة الدول العشرين. كما يجب أن يستمر هذا المعدل تقريبا لمدة خمس سنوات أخرى وبعد ذلك فمن الممكن أن يؤدي تحقيق الاستقرار إلى تخفيض مستويات الديون في المتوسط إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030.
ولا ينبغي أن يثير الجدل أي من ذلك. وبالفعل، فإن الانقسامات بين دعاة التشدد المالي وخصومهم غالبا ما تكون أكثر وضوحا من الحقيقة. فدعاة التشدد المالي عادة ما يتحدثون عن ضرورة التشديد في دورة ميزانية عام 2011، ولكن من وجهة نظر مالية أيضا، فإن عام 2010 قد ولى بالفعل. أما خصومهم فعادة ما لا يعارضون خفض العجز في عام 2011، نظرا لحجم الحوافز الحالية التي يجري حاليا سحبها حسبما كان مخططا لها من قبل.
ومع ذلك، فإن البعض يفضل بوضوح أكثر اللجوء إلى التثبيت القائم على تحديد التكاليف والعوائد في فترات مبكرة، في حين لا يفضل الآخرون ذلك إلا قليلا. ويشير المؤيدون للتحديد في فترات مبكرة إلى الحاجة للحفاظ على سياسة مالية موثوق بها، والتي يكون من الصعب تحقيقها بل ومن السهل التخلي عن العمل بها. وأشاروا إلى إمكانية تحول مفاهيم السوق عن السلامة المالية بنفس السرعة التي تمضي بها ضربات القلب، ولذلك فيجب على البلدان اتخاذ الخطوات الوقائية اللازمة.
أما المؤيدون لتحديد التكاليف والعوائد في فترات لاحقة فيردون بأنه إذا كان التكيف المتسارع يؤدي لتحريف مسار النمو، فسوف يؤدي ذلك أيضا لإصابة المصداقية في مقتل. وباستخدام التعبير الملائم الذي أطلقه لاري سمرز ، مدير المجلس الاقتصادي الوطني التابع للرئيس الأمريكي باراك أوباما، فتبين الأرقام الأخيرة عن النمو أن الاقتصادات المتقدمة لم تحقق حتى الآن فرارا سريعا من مرحلة الركود. ويمكن أن يؤدي السحب المالي السابق لأوانه إلى تعريض الانتعاش للخطر، وخصوصا عندما يتم استنزاف ترسانة السياسات النقدية على نحو فعال – وفقا للتدابير التي أعلن عنها بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا الأسبوع. وعندما ينشط الطلب الخاص، كما يجادلون، فسوف يكون التثبيت أسهل وأكثر أمنا.
ولحسن الحظ ، فهناك طريق للنجاة من خلال هذه الأشواك. فيمكن تجنب آراء المؤيدين لتحديد التكاليف والعوائد في فترات سابقة إذا ما تصاحب التكيف المعتدل الذي يحدث في الوقت الراهن مع مزيد من المدخرات في المستقبل. وهذه الخيارات متاحة، ومرغوب فيها، في كثير من الحالات، وتكون أكثر جدوى من الناحية السياسية من تخفيض الإنفاق بناء على تحديد التكاليف والعوائد في فترات سابقة. وعلى الدول التي تريد ذلك القيام بالإصلاحات في نظم معاشات التقاعد والتأمين الصحي. فوفقا لدراسات صندوق النقد الدولي، فإن من شأن زيادة سن التقاعد لمدة عامين أن يؤدي لتخفيض العجز بمقدار نقطة واحدة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. كما يمكن للمؤسسات المالية الأقوى - بما في ذلك تلك المسئولة عن إصدار القواعد المالية، وتنفيذ العمليات المالية المتعلقة بالميزانية، والوكالات المالية المستقلة – أن تذهب شوطا بعيدا في هذا المضمار. ومن غير المحتمل أن تؤثر تلك الإصلاحات على الطلب في المدى القصير. وفي الواقع ، قد تؤدي الزيادة في سن التقاعد أيضا إلى تقليل الحاجة للمدخرات الخاصة، وبالتالي زيادة الاستهلاك.
من هنا يمكن أن نفهم سر توجه الحكومة المصرية في الفترة الأخيرة للعمل على إصدار تشريع يزيد من سن التقاعد بمقدار خمس سنوات، إذ إن غاية الحكومة هو تقليل العجز في موازنتها بمقدار 2.5%. ولكن يجب الأخذ في الاعتبار الآثار الجانبية لهذه السياسة على سوق العمل، حيث إن إطالة مدة مكوث الموظفين في الخدمة بمد السن القانونية للتقاعد لن يسمح باستيعاب شباب الخريجين الجدد المفترض دخولهم إلى سوق العمل. وهذا ما يعني ضرورة المواءمة بين تلك السياستين.
ومع ذلك، فمن الناحية الواقعية، تتطلب المصداقية من الحكومات أن تعمل على توفير دفعات مبدئية، ولكن هذا يعني وضع خطط للتكييف موضع التنفيذ من الآن بالنسبة لمعظم البلدان. وفي عام 2011، فإن معظم خطط التكييف التي تتوخاها دول مجموعة العشرين – حوالي 1.25 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط - تأتي من استثارة الحوافز المالية. ويبدو هذا الأمر مناسبا، ما دام الطلب الخاص يثير الشكوك كما هو الحال في الوقت الراهن.
ولكن يظل الأهم من ذلك اتخاذ التدابير التي من شأنها تحسين التوقعات المالية طويلة الأجل في تلك البلدان التي تعاني من عجوزات وديون مرتفعة. هذا هو المجال الذي ينبغي على الحكومات أن تركز جهودها فيه. فبدون إجراء إصلاحات مالية طويلة المدى، سيكون محكوما على الانتعاش الدائم بالفشل بدرجة أكبر مما لو فشلت خطط العالم لعام 2010 بمقدار جزء من نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي.

mohd_youssef@aucegypt.edu
11 من رمضان عام 1431 من الهجرة ( الموافق 21 من أغسطس عام 2010 ).

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية