اطبع هذه الصفحة


قصة قصيرة : عصر الخوف

محمد حسن يوسف

 
(1)


منظر مؤثر هو الغروب، تبدو فيه الشمس وهي ترسل أشعتها الحمراء من حولها وكأنها تدافع عن وجودها في محاولة يائسة من أجل البقاء، سرعان ما تفشل أمام هجوم الليل بظلامه الكثيف.
جلس عبد الحميد يرقب هذا المنظر البديع من شرفة منزله. تواردت على رأسه أفكار سريعة متتابعة. لم يستطع أبدا تصديق ما سمعه ... كان يتخيل أن يسمع أي شيء آخر غير ذلك!! حقا إن الدنيا مليئة بالمتناقضات، ولكن ذلك كان شيئا يفوق الخيال! ولم يدرِ حقيقة ما يفعله الآن. أخذ يفرك يديه بشدة، وكأنه يريد أن يتأكد من أنه ليس نائما أو أن ما يحدث الآن هو مجرد كابوس فظيع!!
لقد تمت جريمة " الاختلاس " منذ ما يقرب من أسبوع. فُقد مبلغ كبير من المال يقدر بملايين الجنيهات من خزينة الشركة التي يعمل فيها. وانتهت التحقيقات إلى إلصاق التهمة بأحمد شكري صراف الخزينة، لعدم وجود أي دليل على براءته. واندهش الناس لحدوث ذلك من صراف نزيه تميز طوال سنوات عمله بالأمانة.
اختلطت الأمور على عبد الحميد. أمسك رأسه بكلتا يديه كأنه يريد أن يتأكد من أن عقله ما زال موجودا. يريد أن يجد من ينتشله من حيرته. إنه عامل بسيط يعمل في سويتش إحدى الشركات، وينتمي إلى طبقة الفقراء الذين يمتلئ بهم المجتمع!! طارده صوت الدهشوري وأخذ يرن في أذنيه بشدة حتى كاد أن يصيبه بالصمم. أحس بضعف عام يسري في أوصاله. لا يدري كيف حملته قدماه من مقر العمل إلى منزله.
وفجأة أطل على ذهنه وجه الشيخ كامل العبودي، إمام الجامع بالحي الذي يعيش فيه بجلاله ووقاره وهيبته. عرف أنه هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرشده ويدله إلى ما يفعله في هذا الأمر الجلل. وانتظر حتى موعد الصلاة ليقابله.
كان الليل قد أرخى سدوله على واحد من أيام الشتاء المطيرة، التي امتلأت الشوارع فيها ببرك المياه. كان الجو باردا لا يشجع على الخروج، ولكن لم يكن أمامه خيار آخر. نجح في الوصول إلى الجامع بعد طول عناء. وبعد أن انتهت الصلاة، ذهب إلى الشيخ كامل ومال عليه برأسه. وأخذ يقص عليه تفاصيل الحقيقة المذهلة التي تكشفت أمام عينيه فجأة لتربكه وتشل حركته ...
كان يمارس عمله ككل يوم، عندما التقط صوت زين الدهشوري، أحد الشخصيات الهامة في المجتمع، يرغب في الاتصال بمدير الشركة. واندهش عبد الحميد أن يتم هذا الاتصال عن طريق السويتش، ولكنه أرجع ذلك لتعطل التليفون المباشر للمدير. وقام عبد الحميد بتحويل المكالمة، ولكنه انتظر لحظات قبل أن يرفع السماعة عن أذنيه ... لحظات سمع خلالها الشيء الكثير. لقد عرف من الحديث تفاصيل الجريمة. فلم يكن أحمد شكري هو من قام بالاختلاس كما قيل، ولكن تمت السرقة بتدبير من الدهشوري ومدير شركته. اندهش وهو يشعر بأن مقدرات الناس أصبحت تديرها عصابة من اللصوص تعبث بها غير عابئة بشيء سوى تحقيق مصالحها الذاتية.
وركز عينيه على وجه الشيخ كامل يريد سماع رأيه كتلميذ صغير ينتظر حكم أستاذه. وجاءه صوت الشيخ كامل عميقا هادئا:
- يجب الاعتراف بالحقيقة مهما كان الثمن!!
وبُهت عبد الحميد من رد الشيخ كامل. ارتعد من مجرد التفكير في فعل ذلك. فهو من عامة الناس الذين يريدون لصوت الحق أن يرتفع، ولكن ليس من خلاله. وحاول جاهدا أن يخفف من الحكم الذي نطق به الشيخ كامل، فقال متلعثما:
- ولكن قد يكون في ذلك ضياعي ونقلي من عملي وتشريد أسرتي!!
ورد عليه الشيخ كامل بصوت قوي لينهي أي تردد في نفسه وليقضي على أية محاولة للمقاومة:
- يريد كل منا الهرب من قول الحقيقة والتشبث بمتع الحياة الزائلة. فما هو الوجه الحقيقي للحياة إذا لم نقم بهذا الواجب؟! في الواقع ما هذه الحياة الدنيا إلا تفاصيل، ومنها يتكون نسيجها ... وبقدر ترهل التفاصيل تكون رثاثة النسيج. لقد عبثنا بتفاصيل جميع الأشياء، فأصبح نسيج الحياة من حولنا كالثوب المهلهل!! لقد ربض بداخل كل منا وحش مخيف اسمه الخوف ... ولا أدري من الذي زرعه بداخلنا؟!! يا عبد الحميد ... إن عليك قول الحقيقة، وما يتبقى بعد ذلك فأمر ليس من شأنك!!
وانصرف الشيخ كامل ليبقى عبد الحميد وحيدا، بعد أن هدأ روعه وسكنت نفسه بعض الشيء. ومضى في طريقه عازما على أن يفعل أمرا ما!!!
 

(2)


امتلأت القاعة بالأصوات الصاخبة العالية ... اختلطت أصوات المجتمعين فلا تكاد تميز أي حديث يقال. وفجأة ارتفع صوت الحاجب معلنا قدوم القاضي إلى القاعة، فهدأت الأصوات وخفتت الهمهمات. ودخل إلى القاعة قاضٍ مهيب غطى المشيب رأسه. كان رجلا وقورا ربعة في قوامه، إذا نظرت إليه أحسست بالاطمئنان وراحة البال. ونادى الحاجب على القضية محل النظر. وسأل القاضي:
- أين الشاهد عبد الحميد محمود؟!
ونادى الحاجب بصوت جهوري:
- عبد الحميد محمود!!
ودخل عبد الحميد إلى القاعة بخطوات متباطئة وعينين زائغتين وقلب واجف، كان يقدم رجلا ويؤخر الأخرى كأنه يريد أن يهرب. وانتفض على صوت القاضي يسأله:
- أنت عبد الحميد محمود؟!
وأجاب بتلعثم:
- أيوه ...
وقال له القاضي بصوته العميق:
- قول والله العظيم اشهد بالحق!
وتمتم عبد الحميد بكلمات غير مفهومة. فجاءه صوت القاضي قويا مكررا:
- قول والله العظيم اشهد بالحق!
وانتفض عبد الحميد على صوت القاضي، كان في حيرة شديدة من أمره، لم يكن يريد أن يقولها حتى يستطيع أن يتخفف بعض الشيء مما هو مقبل عليه.
وجاءه صوت القاضي مرة ثالثة:
- قول والله العظيم اشهد بالحق!
وكررها عبد الحميد وراءه وهو يرتجف. تصبب العرق من جبينه وتسارعت أنفاسه كرجل ضل طريقه في الصحراء في ظهيرة يوم شديد الحرارة. وأخذ عبد الحميد يقص كل ما يعرفه عن القضية. كان منفعلا في حديثه. أخبر القاضي بتفاصيل الجريمة كما سمعها من التليفون تماما ولم ينس شيئا.
وانتهى عبد الحميد من شهادته. شكره القاضي على ما أدلى به من معلومات هامة أخبره أنها ستغير مسار القضية. خرج إلى الشارع ليبدأ رحلة العودة إلى منزله. وفجأة سمع صوت محرك إحدى السيارات يخترق سكون الطريق وهي تحاول أن تتفاداه.
لم يدرِ بنفسه إلا وهو ممدد على الأرض والناس تلتف من حوله. تعالت أصوات استنكار السرعة الجنونية لسائقي هذه الأيام، وأخذت تستنزل اللعنات عليهم. قام عبد الحميد بحذر، وأخذ يتحسس أعضاء جسده. اطمأن لعدم وجود إصابات خطيرة. بدأ الحشد الملتف حوله في تجميع حاجياته التي تناثرت حوله. وفجأة استوقفته ورقة غريبة تتميز بالأناقة وسط أوراقه البالية. وأوجس قلبه خيفة، وقام بفتح الورقة بعصبية، ليجد فيها:
" ننصحك الابتعاد عما ليس من شأنك ... انس القضية!! "
وداهمته الحقيقة المفزعة كوحش كاسر انقض على فريسته البريئة يلتهمها بنشوة وتلذذ. وسرى الخوف في أوصال عبد الحميد. كان يعرف خطورة ما هو مقدم عليه، ولكنه لم يتوقع أن تتسارع الأحداث هكذا. وصل إلى بيته مسرعا ... جمع حاجياته على عجل ... أخبر زوجته أنه ذاهب في مهمة خارج القاهرة لعدة أيام ... قصد إلى بلدته في الصعيد ... قرر أن يختبئ في بيت جده المهجور.
كان يتحرك بحذر ... أحس بأنه يختنق ... شعر بخطوات الدهشوري ورجاله تقترب منه ... أخذ يجري في الطريق ... يريد أن يهرب ولكن هيهات له أن يحصل على ذلك ... لمح أحد الرجال الغرباء في الطريق ... خُيل إليه أنه يتعقبه ويهم بقتله ... فزع أكثر وأكثر ... أحس بدنو أجله ... أخذ يغذ السير في طريقه إلى الضياع ... شعر بأن هناك من يسير في أثره ... اختبأ وراء أحد الجدران ... أصاخ السمع جيدا ... لم يسمع سوى نقيق الضفادع وصرير الصراصير ... أكمل طريقه مسرعا ... لمح خيالا في ضوء القمر ... التفت مسرعا ... لم يرَ أحدا أمامه ... لم يدرِ إلى أية وجهة يقصد ... لقد أصبح كالسجين في رحاب الدنيا الواسعة ... ما أضيق سجن النفس حينما يصبح المرء أسير فكرة معينة لا يستطيع منها فكاكا ... أحس بشوق إلى زوجته وأولاده ... تذكر إمام الجامع وهو يقول له:
- إن عليك قول الحقيقة، وما يتبقى بعد ذلك فأمر ليس من شأنك!!
أخذت هذه الكلمة تتردد على مسامعه. لقد فعل ما أمره به الشيخ كامل، ولكن أنى له ألا ينشغل بما سيحدث له بعد ذلك ... سقط على الأرض بلا حراك من كثرة ما يشعر به من تعب وإعياء.
وأخذ الدهشوري يتعقبه، وأرسل رجاله وراءه. أخذوا يبحثون عنه في كل مكان، ولكن بلا جدوى. واستطاع رجال الدهشوري أخيرا تحديد مكان عبد الحميد. وصلوا إليه مسرعين وهم يشهرون أسلحتهم بأيديهم. وهمّ الرجال بالانقضاض على الجسد الملقي أمامهم ليمثلوا به، بيد أن منظره أدهشهم. لم يكن عبد الحميد في حاجة لمن يقتله ... لقد مات منذ أدلى بشهادته في المحكمة!!!

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية