اطبع هذه الصفحة


أتباع الأسياد

محمد حسن يوسف

 
لاحق كلب الصيد يوما أرنبا، فعجز عن ملاحقته، ولم يستطع إدراكه. فسأل الكلب الأرنب: كيف تسبقني وأنا أقوى منك وأسرع ؟ فأجابه الأرنب: لأني أعدو لحسابي وتعدو لحساب صاحبك. [ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، ص: 32 ].

كتبت في مقال سابق عن [ الأغلبية الصامتة يجب أن تتخلى عن صمتها فورا ]، وبيّنت كيف أن الأغلبية الصامتة - بركونها إلى الصمت والتخلي عن لعب دور فاعل في الحياة - تتيح الفرصة لفئة قليلة من الناس للتحكم في مصائرها. والآن نشرح كيف أن هذه الفئة غالبا ما تكون معدومة الضمير فاسدة الأخلاق، بحيث يؤدي ذلك للتلاعب بمصائر البلاد والعباد.

ويطلق على هذه الفئة اسم " أتباع الأسياد ". وأتباع الأسياد هم طبقة طفيلية نفعية مستبدة تلتصق بمن هو أعلى منها. وجل هدف أتباع الأسياد هو نيل الرضا من السيد، وأن يظلوا في دائرة حظوته، حتى وإن جاء ذلك على حساب كرامتهم، فهذه أمور ثانوية لا تشغل بالهم.

وأتباع الأسياد يمثلون دائرة مفرغة، فتابع السيد بالرغم من كونه مرءوسا لأحد الأسياد الأعلى منه شأنا والأكبر منه وزنا، إلا إنه دائما ما يكون في نفس الوقت سيدا على قوم أقل منه في المكانة والحظوة. وبقدر الذل والمهانة التي يجدها هذا التابع من سيده، بقدر ما يسوم به مرؤوسيه من ذل ومهانة، حتى يشبع غرور نفسه ويرضي كبرياءها، ويبدو أمام نفسه المريضة وكأنه سيد كبير.

والسيد – المستبد - يحيط نفسه دائما بطبقة من الأتباع الانتهازيين، تجعل من نفسها حاشية خاصة به. فهم عيناه التي تراقب كل صغيرة وكبيرة لا تكون لصالح تسلطه، وهم يده التي يعتدي بها على كرامة الآخرين ويستبيح بها حرماتهم.

أما عن صفات أتباع الأسياد فهي كثيرة. أولها: أن أفراد هذه الطبقة أعداء للحق وللحرية، أنصار للظلم والاستبداد. ذلك أن من شروط الانتساب إلى هذه الطبقة أن يكون التابع خاليا من أي قيم أو مبادئ أو أخلاق. وهذه الشروط ضرورية حتى تصبح هذه الطبقة أعداء للعدل أنصار للجور، وهذا هو مقصد الأسياد من إيجادهم بجانبهم والإكثار من أمثالهم، ليتمكنوا من التغرير بمن يسودنهم وإلحاق الضرر بهم تحت مسمى نفعهم، لأنهم في الواقع لا ينفعون إلا أنفسهم.

ومن هذه الصفات الطاعة العمياء للسيد، فلا يُظهر الأتباع أي بادرة اعتراض تجاه أي أمر للسيد، حتى ولو كان جائرا. بل يعملون على تنفيذه بحذافيره وفي دأب وتفانٍ شديدين. ذلك أن أهم ما يميز هؤلاء الأتباع هو الذلة والانكسار أمام السيد صاحب الجاه، وإظهار مقدرة فائقة على تنفيذ كل ما يطلبه منه، بل وحتى ما لم يطلبه منه. ليس من المهم أن تكون هذه الأوامر في صالح البلاد، أو أن تكون موافقة لمصالح المرؤوسين. كل ما يهم أن يظل السيد راضيا عن الأتباع، وهو يرى أوامره محل احترام وتوقير.

وهذا ما يجعل العامة تميل هي أيضا لمزيد من التقوقع الداخلي، ولعدم الاهتمام بالمصلحة العامة. فهي ترى أن ما يشغل الأسياد وأتباعهم هو تحقيق مصالحهم الشخصية، وهي تشتم عطن العلاقة العفنة بين الطرفين. فتميل العامة والحال هكذا للعمل لصالحها الخاص هي أيضا، معرّضة البلاد لمخاطر الهلكة والدمار.
ومما يميز الأتباع أيضا، التزامهم جانب الصمت والتكتم الشديد. فهم يعملون في صمت وفي حذر، يخافون انقلاب الأوضاع عليهم إذا ما تكشفت الأمور وتبينت الحقائق. ترى الأمر وكأنهم يديرون خططا حربية لا يجوز لأحد الإطلاع عليها. وفي واقع الأمر، فإن الالتزام بهذه السرية والتكتم الشديدين هو الذي يسمح لهؤلاء الأتباع بتمرير الأمور ببساطة، حتى يُفاجأ بها العامة وكأنها أمر واقع لا يستطيعون منه فكاكا.

ويلتزم الأتباع جانب الموافقة دائما لما يقوله الأسياد، حتى ولو كانوا في دخيلة أنفسهم رافضون له. ويراقبون من الأسياد الشاردة والواردة كالكلب الأمين الذي يتبع صاحبه، حتى يصبح التابع منهم لازمة من لوازم سيده ووهما مسلطا عليه لا يتخيل إمكان الاستغناء عنه.

كما يمتازون بالنفاق وتزيين الباطل للسادة. فهم بمجرد أن يشعروا بميل الأسياد لأمر من الأمور، حتى يبدأوا في تزيين هذا الأمر لهم، حتى ولو كان باطلا. ولا تخضع الأمور - هكذا - لمعيار الحلال والحرام، وإنما لمعيار هوى السيد وما يريد.

ومن صفاتهم التظاهر بالتفاني في خدمة الأسياد والإخلاص في خدمتهم، فيلازمونهم ملازمة الظل لا يغادرونهم طرفة عين. وهم في الواقع لا يعملون إلا لمصلحتهم. ويدلك على هذا، ما يحدث إذا ما انقلب الزمان وأدار ظهره لأحد الأسياد. فما يكون من الأتباع إلا رميه بكل نقيصة وعيب، والتشفي منه ومن أعماله التي كانوا منذ عهد قريب يشيدون بها ويمجدونها. ولا ينسون بالطبع إظهار عظيم الولاء للسيد الجديد، الذي آلت إليه مقاليد الأمور، واضعين في روعه أن العناية الإلهية هي التي تدخلت في نهاية المطاف لإنقاذ المرؤوسين من عبثية الرئيس السابق، ووضع السيد الحالي فوق أعناقهم.

فإذا كان الحال هكذا، يصبح من أوجب الواجبات علينا التصدي لهذه الفئة المخرّبة التي لا تعمل إلا لصالح نفسها. ولكن كيف نقهر فئة أتباع الأسياد؟ هذا سؤال هام يجب أن نعرف إجابته بدقة ووضوح إذا ما أردنا لهذه إزالة هذه الفئة من الوجود. فهذه العصابة ما تبوأت مكانتها إلا لغفلة العامة وسلبيتهم وصمتهم إزاء ما يحاك بهم ويخطط لهم. لقد تحول هؤلاء الأفراد – القلة – إلى عصابات تعمل في وضح النهار، ولم تعد تأبه كثيرا من جراء كشف مخططاتهم أو معرفة نياتهم.
علينا عدم الالتزام بالصمت إزاء ما يحاك لنا من حولنا، والجهر بكشف هذه المخططات الدنيئة التي تهدف لتفكيك أواصر المجتمع وتدمير بنيانه. فهذه السلبية المقيتة التي اعتدناها، هي التي دفعت الأمور من حولنا إلى ما أصبحنا فيه الآن. فإذا ما أردنا تغيير ذلك الواقع الأليم، فعلينا كسر قيود السلبية وعدم المبالاة، والتحصن بفضيلة محاولة تغيير المنكر من حولنا، والاستعانة بالله في كل هذه الأمور.

18 من ذي الحجة عام 1426 ( الموافق في تقويم النصارى 18 من يناير عام 2006 ).

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية