اطبع هذه الصفحة


بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز (5)

محمد حسن يوسف

 
من إعجاز القصص القرآني: ارتباط قصة زكريا ويحيى بقصة مريم والمسيح عليهم السلام
جاءت قصة زكريا، وقصة مريم، وقصة المسيح عليهم السلام مبسوطة في ثلاث سور من القرآن، هي: آل عمران ومريم والأنبياء. نجد في هذه السور تلازم دائم بين قصتي زكريا ويحيى مع مريم وعيسى. وفي هذه السور الثلاث تأتي قصة ميلاد يحيى عليه السلام قبل قصة ميلاد عيسى عليهم جميعا السلام. فما هو السر وراء ذلك؟

إن الهدف يكمن في تهيئة النفوس وتوطئتها على تقبل أمر تستحيله العقول. فقد جرت عادة البشر على أن يأتي الولد من ذكر وأنثى. لذا لا تستطيع العقول تقبل أن يأتي ولد بلا أب. فإذا كان الأمر كذلك، فقد أراد الله أن يمهد لهذه القصة بقصة أخرى لا تتقبلها العقول أيضا، ولكنها لا تستبعدها تماما. وهذه القصة هي إنجاب امرأة عجوز، كانت في شبابها عاقرا، من شيخ عجوز فانٍ. فإذا أرجعت العقول هذه القصة إلى قدرة الله، فلماذا لا تُرجع القصة الأخرى إلى قدرة الله كذلك؟ فالقدرة الصالحة لذلك، صالحة لهذا!!

ونبدأ هنا بتفصيل هذا الأمر. ولكننا نشير إلى تمهيد آخر اختصت به سورة آل عمران. فقد تحدثت هذه السورة عن أمر آخر يخرج أيضا عن قدرات البشر على التصديق، ولكن يصبح تصديق ذلك ممكنا في نطاق إرجاع الأمر إلى المشيئة الإلهية.

فقد قال تعالى قبل أن يسرد علينا قصة زكريا ويحيى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ ] آل عمران: 37 - 38 [ . أي كلما دخل زكريا على مريم مكان عبادتها، وجد عندها طعاما. وهذا أمر غريب، لأنه لم يكن يدخل عليها أحد إلا هو وحده. بل والأغرب من ذلك أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. فلما تعجب من هذا، سألها: من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا، وهو آتٍ في غير حينه؟ فردت عليه قائلة: هو من عند الله. وفيه دلالة على أن هذا الأمر خارق للعادة، فهو من باب الكرامات. كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا، هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى.

هنا تهيأت نفس زكريا للولد. ورغم استحالة هذا الطلب، لكونه شيخا طاعنا في السن بلغ من العمر أرذله، ولكون زوجته عاقرا بالأساس، بالإضافة لكبر سنها، إلا أنه على يقين من أن الله الذي رزق مريم الطعام في غير أوانه، قادر على أن يرزقه الولد في غير أوانه كذلك.

وهكذا أخذ زكريا يدعو ربه أن يرزقه بالولد، وهو أمر لا تجري به العادة في هذا السن الكبير. وهذا من شدة رجائه في الله. وبالرغم من ذلك يستجيب الله له، فيحدث مجيء الولد من رجل بلغ خمس وتسعين سنة من عمره، ومن زوجة عاقر أيقنت طوال عمرها أنها لا تنجب أساسا وبلغت من عمرها الثمانين عاما. ومع ذلك يحدث الحمل والميلاد. فإذا جرت الأمور على هذا النحو، يدرك الجميع أن هناك شيئا خارقا للعادة قد حدث، وأن قدرة الله عز وجل هي التي فعلت ذلك. فهذا أمر عند جماهير الناس شبه مستحيل، لأنه لم تجرِ العادة بذلك قط، ولكنه حدث أمام عيونهم الآن. فإذا أنجبت امرأة عاقر تجاوزت الثمانين من عمرها، من زوج تجاوز الخمس والتسعين من عمره، فماذا يكون رد فعل الناس؟ يضربون كفا بكف، ويقولون إن الله على كل شيء قدير.

ولنتأمل الآن في مسألة استجابة الله لدعاء زكريا: إن الذي رفع دعاء زكريا إلى الله عز وجل هو صدق رجائه. ولأنه يدعو بشيء لا يجري في العادة، فلقد أسرّ به حتى لا يتهمه أحد بالجنون أو بأنه خرف بعدما كبر. كما أن الدعاء الخفي أليق في الإخلاص. ولذلك دعا ربه دعاء خفيا لا يسمعه أحد. وهكذا كل من صدق رجائه في الله أجرى الله له في الكون ما يعينه على الطاعة.

والذي يتأمل في المسألة يجد أن زكريا عليه السلام لم يكن لديه مأرب حقيقي في الولد. فالذي يريد الولد، يريده لكي يكون عونا له في حياته. أما هذا الشيخ الفاني الذي بدأت شمس حياته في المغيب، فمعنى أنه يطلب الولد في آخر عمره أنه يقول: لا حاجة لي حقيقية في الولد. وفي الواقع، فإن زكريا عليه السلام كان يخشى على أمور الدين من بعده، لذا طلب الولد، وذلك يدل على شدة إخلاصه لله. وهذا يتماثل تماما مع ما طلبته أم مريم ابنة عمران، التي قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا، أي خالصا لك ليس لي فيه مصلحة، فتقبل مني. لذلك تقبل الله عز وجل منها أيضا بما علم من صدق نيتها وإخلاصها. وكانت ثمرة هذا الدعاء المبارك أن تقبل الله ابنتها قبولا حسنا وأنبتها نباتا حسنا.

أراد الله إذن أن يُقرّب المسألة للناس: ولادة ولد من امرأة بلا زوج مستحيل، وكل الناس يقطع باستحالة حدوث ذلك. فلكي تقترب المسألة لأذهان الناس، جاءت قصة يحيى، وذلك كمقدمة للكلام عن خَلْق عيسى بلا أب. إذن تقترب المسألة الآن كثيرا من التصور. وقصة عيسى عليه السلام هي بالتأكيد حدث غير عادي، يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه، ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجئ في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير.

هذه القصص العظيمة نخرج منها بعدة دروس هامة مستفادة منها:
o أول ما يستفاد من هذه القصص، هو التدرج في الأمر الذي في العادة لا يكون. فالذي رزق مريم بالطعام في غير أوانه، هو الذي رزق زكريا بالولد في غير أوانه. والذي رزق زكريا الولد في ظل أسباب تبدو مستحيلة، هو الذي رزق مريم الولد بغير أب. وهذه هي قدرة الله سبحانه، الذي يقول للشيء كن فيكون. ولكن الله سبحانه تدرج معنا في الأمر، حتى تستطيع عقولنا استيعاب ذلك. وهذا هو المرجو من الدعاة، التدرج بالأمور في الدعوة مع الناس، حتى تتمكن العقول من الاستيعاب.
o كما نستفيد من هذه القصة أيضا وجوب أن يتعلق المرء بالله تعالى. وأن يخلص رجائه في الله. وأن يكون المرء حسن الظن بالله، وعلى يقين من أنه ناصرنا ومؤيدنا.
o وأهم ما يستفاد من هذه القصص، أنها تعطينا الأمل في التمكين لأمة الإسلام من جديد. قد يبدو التمكين الآن أمرا مستحيل التحقيق، ولكن مع الإيمان ليس هناك مستحيل. فالتمكين للدين سيحدث بإذن الله، كما حدث في هذه القصص من أمور خارقة للعادة. ولكن لن يكون ذلك إلا في ظل إخلاص النية لله، والتعلق بحبله المتين.

4 من رمضان عام 1427 ( الموافق في تقويم النصارى 27 من سبتمبر عام 2006 ).
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية