اطبع هذه الصفحة


وما نرسل بالآيات إلا تخويفا

محمد حسن يوسف

 
كتب أحد الكتّاب من أصحاب الأعمدة اليومية في جريدة الأهرام يوم الثلاثاء الموافق 30/11/2004، الصفحة الثالثة عشر، في عموده اليومي مقالا بعنوان " غضب من الله ". وقال الكاتب إن الأدبيات العربية تحفل بوجود نظريتين لتفسير معظم الأحداث التي تواجهنا، " فهي إما نتيجة مؤامرة إذا كان الحدث سياسيا، أو دينية إذا كانت ظاهرة طبيعية ".
وتعرض الكاتب تحديدا للغزوة الأخيرة لأسراب الجراد الأحمر التي تعرضت لها مصر في الفترة الأخيرة، وذكر أن الفكر السائد بين الناس أرجع حدوث هذه الغزوة بسبب ذنوبنا والبعد عن الله. ثم تساءل: " والسؤال المنطقي الذي لابد وأن يثور هو: هل معنى عدم تعرض كثير من الدول لغزوات الجراد رضا الله عن هذه الدول وغضبه علينا نحن؟ بمعنى آخر هل هم مع الله أكثر منا "؟
وبمتابعة حركة أسراب الجراد، نجد أنه بعد خروجه من مصر عرج على إسرائيل، ولكن نفقت هذه الأسراب بسبب الظروف المناخية الباردة هناك. فأنهى الكاتب مقاله بالتساؤل: " ولابد بنفس منطق التفسير الديني أن يخرج من يقول إن الله كان راضيا عن إسرائيل، فكفاها مقاومة الجراد دون أي جهد تبذله ".
وبغض النظر عن الناحية السياسية ونظرية المؤامرة، فلن أخوض فيها، رغم أن الكل يعلم أن كل ما يعانيه العالم العربي والإسلامي هو بفعل اتفاقية سايكس بيكو الغاشمة، والتي أُبرمت في مايو 1916 فيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، لتتقاسم فيها الأولى والثانية تركة الدولة العثمانية أو الرجل المريض كما كانوا يطلقون عليها. ومنذ ذلك الوقت والعالم العربي والإسلامي يئن تحت مؤامرات ومحن تُحاك له من الدول الكبرى ليظل منكفئا على ذاته حبيس حدوده.
وكان من آخر هذه المؤامرات، تلك التي أُبرمت على العراق وشاركت فيها جميع الدول الكبرى سواء كانت الصين وروسيا أو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، من الرغبة في عدم تمكين أية دولة عربية من امتلاك أسلحة تدمير شامل. حيث لم ترفض أية دولة منها مسألة نزع أسلحة العراق.
ويبدو من الضروري هنا الإشارة إلى أن هذا الموقف لا يعود إلى كراهية نفسية ولا لمجرد تغيير في المواقف السياسية، وإنما يعود إلى أن امتلاك أي من الدول العربية لأسلحة الدمار الشامل يعني إحداث تغيير هائل في الأوضاع العربية، وكذلك هو يعني قدرة دول أمتنا على السيطرة على مقدراتها، وخاصة البترول الذي يمكن أن يحدث تغييرا في معاملات القدرة في العالم.[1]
بغض النظر عن هذه الناحية ووضوحها للعين وضوح شمس النهار، إلا أنني سوف أركز حديثي على الناحية الدينية. وابدأ بعرض بعض المسلمات التي لا يمكن لأحد الجدال فيها. وأول ذلك هو التساؤل: هل ما يحدث في الكون ممكن أن يكون عبثا ولعبا؟ والإجابة بالطبع لا. ذلك أن ما يجري في الكون يخضع لنظام دقيق، يوحي بأنه ما من شيء يحدث إلا وله حكمة، سواء عقلناها أم لم نعقلها!
قال تعالى: ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إَِّلا بِالْحَقِّ [ ] الحجر: 85 [، قال صاحب الظلال: إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود، فهو لم يُخلق عبثا ... وكذلك عميق في تدبيره. فبالحق يدّبر ويصرف، وفق النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى ولا نزوة، إنما تتبع الحق والعدل. وقال عز وجل: ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ [ ] الأنبياء: 16 [، قال صاحب الظلال: لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة، لا لعبا ولا لهوا. ودبره بحكمة، لا جزافا ولا هوى. وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما، أرسل الرسل وأنزل الكتب وفرض الفرائض وشرع التكاليف ... فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون، أصيل في تدبيره، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات.
وقال سبحانه: ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ ] ص: 27 [، وقال: ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا َلاعِبِينَ [ ] الدخان: 38 [. قال القرطبي: أي هزلا ولعبا. أي ما خلقناهما إلا لأمر صحيح، وهو الدلالة على قدرتنا.
إن جميع ما في الكون آيات محكمة خلقها الله لتكون آيات معجزة للناس تذكرهم بوجود الله وقدرته وبديع صنعته، وتدلهم عليه. فلا ينبغي لأحد وهو يرى هذه الآيات ألا يعبد الله سبحانه، أو أن يشرك بالله شيئا، أو أن يعبد مع الله أحدا. فإذا حدث انحراف في نفوس البشر، أرسل الله إليهم الرسل والآيات تبشرهم وتنذرهم بعدم الشرك بالله شيئا، ليردوهم إلى جادة الطريق.
قال تعالى: ] وَمَا نُرْسِلُ بِاْلآيَاتِ إَِّلا تَخْوِيفًا [ ] الإسراء: 59 [. قال القرطبي: فيه خمسة أقوال، ومنها: أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. قال ابن كثير: قال قتادة إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكّرون ويرجعون. ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. وهكذا رُوي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم! والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن.
إذن فقد كان فهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم للآيات التي تحدث من حولنا على أنها نذر من الله لنا. وأنها ليست مجرد ظواهر طبيعية تحدث وفقا لنواميس لا تتغير ولا تتبدل، وإن كانت هي في حقيقتها كذلك. وهذا هو الفهم الصحيح لقوله عز وجل: ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ َلآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ ] البقرة: 164 [. ولذلك فلما كُسفت الشمس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فزع إلى جمع الناس في المسجد، ثم بدأوا جميعا في صلاة مختلفة في هيئتها عن الصلوات المعتادة، تضرعا إلى الله عز وجل أن يرفع عنهم البلاء.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ". ثم قال: " يا أمة محمد! والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ".
كذلك فقد جاء في القرآن أن حدوث شيء خارق عن المعتاد في الدنيا يعتبر من الآيات التي يريد الله لعباده أن يتدبروها ويراجعوا أحوالهم من خلالها ليعرفوا أين هم يقفون في علاقتهم بربهم. قال تعالى: ] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [ ] الإسراء: 59 [. قال القرطبي: أما الجراد، فرجز وعذاب. أي أن إرسال الله الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم كان آيات من الله لهم ليرجعوا إليه سبحانه، فأما من تدبر منهم ذلك فقد تاب وأناب إلى الله، وأما من استمر في عناده، فلم ير في هذه الآيات سوى أنها مجرد ظواهر طبيعية تحدث وفقا لنواميس معتادة، فقد وقع تحت طائلة العقاب.
وكذلك كان عدم فهم قوم صالح للآية التي أرسلها الله إليهم: ] فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [ ] الأحقاف: 24 [. فلم يجدوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة التي تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب الذي قالوا فيه من قبل: ] فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [ ] الأحقاف: 22 [.
ولكن قوم يونس فهموا الآية التي أرسلها الله تعالى إليهم. قال تعالى: ] فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إَِّلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ ] يونس: 98 [. قال ابن كثير: أي أنه لا توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم، فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأُخروا.
وقال القرطبي: وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة ( أي: سحابة أو غمامة ) وفيها حُمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. أي أنه لولا أن أهل هذه القرية فهموا المقصود من آيات الله، وأيقنوا أن العذاب سيصيبهم، فرجعوا إلى الله، ولم يكابروا، فرفع الله عنهم العذاب.
كان صديقان يركبان في سيارة ويشقان الطريق إلى غاية لهما. فاختلت عجلة القيادة في يد القائد، فانقلبت بهما السيارة، ولكن لم يصبهما أذى. فارجع أحدهما ما حدث له إلى سوء تخطيط الطريق، وعدم منهجية قائد السيارة أثناء القيادة، وغير ذلك من الأسباب العلمية التي يمكن أن تقف وراء مثل الحوادث، ووعد نفسه بتلافي حدوث ذلك فيما بعد. وأما الآخر، فظن أن ما حدث هو نذير من الله تعالى إليه لكي يعود إلى الله وينيب إليه، فتاب واستقام.
إن انتشار أسراب الجراد في بعض البلاد هو آية من آيات الله الدالة على قدرته. وحتى لو استطاعت بعض الدول القضاء عليه، وعدم تحقق أي خسائر فيها بسبب هذه الأسراب، فلا يعني ذلك أن الآية انتفت، بل يعني ذلك أنهم ارجعوا هذه الآية إلى الأسباب العلمية، شأن من سبقهم، ولم يأخذوا العظة التي تتضمنها هذه الآية.
نريد أن نكون – كما كان سلفنا من قبل – ربانيين، نعرف لله قدره، ونوقن بآياته، ولا نستخف بها. فلن ينفع هذه الأمة وهي تقف الآن في موقف المواجهة مع أعدائها، إلا الاستعانة بالله العظيم، لينصرها كما نصر أسلافها، وكما وعد ربنا.
 
28 من شوال عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 10 ديسمبر عام 2004 ).

---------------------------
[1]  راجع في هذا الشأن المقال الهام بعنوان: هل أخطأ صدام في امتلاك أسلحة الدمار الشامل أم في خطة حمايتها وتأمينها في بداياتها، طلعت رميح. سلسلة استراتيجيات، عدد أكتوبر 2004، ص: 17.
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية