اطبع هذه الصفحة


تحليل نظري لمشكلة الديون الخارجية

محمد حسن يوسف

 
وقعت مجموعة الدول المتخلفة التي سارت على طريق الاستدانة المفرطة في حقبة السبعينات - وقعت في وهم خاطئ، مفاده أنه بالإمكان تحسين مستوى المعيشة في الأجل القصير، وتمويل عملية التنمية من خلال الاعتماد على الموارد المقترضة، دون أن تحدث مشاكل في السداد في الأجلين المتوسط والطويل.

وتجد الحاجة للتمويل الخارجي للبلاد المتخلفة – ومنها الاقتراض بطبيعة الحال – مبررها الموضوعي فيما يطلق عليه بوجود فجوة الموارد المحلية، وهي الفجوة القائمة بين معدل الاستثمار المطلوب تحقيقه للوصول إلى معدل النمو المستهدف وبين معدل الادخار المحلي الذي يتحقق في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة. وبوجود فجوة الموارد المحلية، فإن المجتمع يواجه ثلاثة احتمالات لحل هذا التعارض:
أ. أن يرتضي معدلا أقل للنمو في حدود ما تسمح به موارده المحلية، وهو ما يعني الارتضاء بمعدل منخفض للنمو في حدود ما يسمح به معدل الادخار المحلي.
ب. أن يعمل على تعبئة فائضه الاقتصادي الكامن في مختلف قطاعات الاقتصاد القومي، والذي تستحوذ عليه الطبقات والفئات الاجتماعية الغنية، وذلك لكي يتمكن من رفع معدل ادخاره المحلي. وهو ما يعني محاولة مواجهة التناقض الكامن في فجوة الموارد المحلية باللجوء إلى التعبئة الرشيدة للفائض الممكن، والذي يتواجد في عديد من قطاعات الاقتصاد القومي وتستحوذ عليه – من خلال علاقات الملكية والتوزيع – الطبقات والفئات الاجتماعية الثرية.
ج. أن يلجأ إلى مصادر التمويل الخارجي، مثل القروض والمساعدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية، لكي يسد بها فجوة الموارد المحلية، مع ما يستتبعه ذلك من متطلبات، وما يتمخض عنه من أعباء. وهنا لا يجوز لنا أن ننسى أن استطلاع الحل عن طريق الاعتماد بشكل رئيسي على منافذ التمويل الخارجي، إنما ينطوي على قرار خاطئ من أساسه، وهو إمكان تحقيق التنمية عن طريق القوى الخارجية.

ومن التطبيق العملي، نجد إن التصور الأول، أي الاعتماد على الموارد المحلية فقط، قد وجد نجاحه في التنمية التي تمت في مجموعة الدول الاشتراكية، بما فيها الصين واليابان. ولكن بالنسبة للبلاد المتخلفة، نجد إن الأمر في الغالب هو المزج بين مصادر التمويل المحلية والخارجية.
ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كانت قيمة الواردات التي استوردها الاقتصاد القومي خلال فترة معينة تزيد عما أمكن تدبيره من حصيلة النقد الأجنبي التي تأتي بها صادرات السلع والخدمات خلال هذه الفترة، فإن الفرق هنا لابد وأن يُمول عن طريق تمويل خارجي إضافي. وهذا التمويل الخارجي الإضافي، والذي يعكس فجوة التجارة الخارجية، لابد وأن يعادل حجم فجوة الموارد المحلية.

ومن هنا يتضح لنا ضرورة حساب وتقدير فجوة التجارة الخارجية والعوامل المؤثرة فيها، ومقارنة ذلك بفجوة الموارد المحلية والقوى المحددة لها، حتى يمكن رسم وتطبيق السياسات الاقتصادية المناسبة التي تمكن من تحقيق الأهداف المنشودة. ويجب أن يكون التقدير دقيقا بقدر الإمكان حتى لا يحدث قصور في تدبير الموارد، وبالتالي يعجز المجتمع عن تحقيق أهداف النمو. كما أن هذه الدقة مطلوبة حتى لا تحدث مغالاة في الحصول على الموارد، مع ما يترتب على ذلك من مديونية متزايدة لا نجد لها مبررا اقتصاديا معقولا.

وهناك دول نظرت إلى التمويل الخارجي على أنه عنصر ثانوي ومكمل لجهد الادخار الوطني وليس بديلا عنه. وفي ظل تلك النظرة الواعية بأهمية وخطورة التمويل المحلي، حرصت هذه الدول على أن ترفع دائما من معدل ادخارها المحلي المتوسط عن طريق زيادة ادخارها الحدي، لتواجه بذلك مستحقات التمويل الخارجي، ولتعضد باستمرار معدل استثمارها المحلي بجرعات مستمرة من مواردها المحلية. ومجموعة هذه الدول، وعددها قليل جدا، هي التي تملك الآن الأمل في الوصول إلى مرحلة النمو الذاتي.

وفي هذا الخصوص، نود الإشارة إلى أن هناك نوعين رئيسيين للتمويل الأجنبي:
 النوع الأول: هو استقدام رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة للاستثمار بشكل مباشر في مشروعات يقيمها الأجانب، أصحاب هذه الأموال، داخل الاقتصاد القومي. وفي هذه الحالة يتملك الأجانب الأصول الإنتاجية لهذه المشروعات.
 النوع الثاني: ويتمثل في القروض الخارجية على اختلاف أنواعها. ويختلف هذا النوع عن النوع الأول في نقطة هامة، وهي أن ملكية الأصول الإنتاجية التي مُوّل إنشائها بهذه القروض تصبح ملكية وطنية وليست أجنبية.

كما لابد وأن يرسخ في الذهن تلك التفرقة الهامة التي يجريها الاقتصاديون بين ما يسمى بالقروض الخارجية المنتجة، وهي تلك القروض التي تستخدم في شراء وبناء وسائل الإنتاج، وينجم عن استخدامها حدوث زيادة أو توسع في الطاقات الإنتاجية للاقتصاد القومي للبلد المدين، وما يسمى بالقروض الخارجية غير المنتجة، وهي تلك القروض التي تستخدم في أغراض أخرى، ولا تسهم في زيادة أو توسيع الطاقات الإنتاجية للبلد المدين، ومثالها القروض التي تستخدم لتمويل شراء السلع الاستهلاكية أو للحصول على المعدات العسكرية والأسلحة.

ويتضح من تلك التفرقة أن القروض الخارجية المنتجة هي وحدها التي يمكن أن تسهم في خلق فائض بالميزان التجاري عن طريق ما تدره الطاقات الإنتاجية الجديدة من عملات أجنبية من جراء ما تسهم به في زيادة الصادرات أو تقليل الواردات. أما القروض الخارجية غير المنتجة فلا تسهم إطلاقا في خلق أي فائض بالميزان التجاري، وتظل دائما عبئا على ميزان المدفوعات.

طاقة الدولة على خدمة ديونها الخارجية:
يقصد بطاقة الدولة على خدمة ديونها الخارجية مدى مقدرة الاقتصاد القومي على تدبير الموارد اللازمة لمواجهة التزامات الدفع الخارجي التي نشأت عن اعتماده على القروض الخارجية، ومدى تأثير ذلك على الأوضاع الاقتصادية بالداخل.
وعند تحديد طاقة الدولة على خدمة ديونها الخارجية، لابد لنا أن نفرق بين هذه الطاقة في الأجل القصير ( أو المتوسط ) وبين تلك الطاقة في الأجل الطويل: والتناقض الرئيسي الذي تواجهه الدول المتخلفة عند تدبير أمر خدمة ديونها الخارجية في الأجل القصير يتمثل في أنه على حين أن مبالغ الديون الخارجية الواجبة السداد إنما هي مبالغ ثابتة ومحددة سلفا، طبقا لشروط عقد هذه الديون، إلا أن الجزء الأكبر من مصادر الدول المتخلفة من العملات الأجنبية إنما هي مصادر ذات طبيعة متقلبة، أي لا تتسم بالثبات أو الاستقرار.

ويزداد الموقف حرجا إذا رفضت الدول والهيئات الدائنة تأجيل السداد وإعادة جدولة الديون بشروط ميسرة. هنالك تتفتح أمام الاقتصاد المدين حلقة مفرغة تراكمية تزيد الموقف انفجارا سنة بعد أخرى. ذلك أن الاقتصاد المدين يُجبر في هذه الحالة على اللجوء إلى القروض الخارجية القصيرة المدى ذات التكلفة العالية حتى يمكن تدبير المبالغ الواجبة السداد. وحينئذ يزداد هيكل الديون تعقيدا وتشوها، حيث ترتفع نسبة الديون الخارجية المستحقة السداد في آجال زمنية قصيرة، ومن ثم تضعف قدرة الدول على السداد سنة بعد أخرى، مما يدفعها إلى عقد المزيد من القروض القصيرة المدى.

وقد تلجأ الدولة لكي تتجنب الدخول في هذه الحلقة الانفجارية لديونها الخارجية إلى إحداث تخفيض شديد في وارداتها حتى توفر العملات الأجنبية للدائنين. غير أن الضغط على الواردات إذا ما وصل إلى حد معين، فإنه يؤدي إلى اضطراب برامج الإنتاج والاستثمار، ويعطل تنفيذ خطط التنمية، وبخاصة إذا لجأت الدولة إلى تخفيض وارداتها من السلع الوسيطة وقطع الغيار والمعدات الإنتاجية.

كما قد تتأثر مستويات الاستهلاك المحلي نظرا لتعذر استيراد بعض السلع الاستهلاكية الهامة. وتزداد الصورة قتامة إذا أضفنا إلى مدفوعات خدمة الديون الخارجية مدفوعات عوائد رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة المستثمرة داخل البلاد المتخلفة المدينة.

كما أن طاقة الدول على خدمة ديونها الخارجية في الأجل الطويل، ترتبط أيما ارتباط بمرحلة النمو الاقتصادي التي تصل إليها الدولة المدينة، وبطبيعة سرعة ومسار عملية التنمية.

 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية