اطبع هذه الصفحة


دروس من الحدث المصري

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


ذكرت في مقالة سابقة (رقصة الموت في مصر) أنني سأرجئ الحديث عن الدروس المستفادة من الأحداث التي سقتها ملخصة في المقال آنف الذكر لأجل طوله، والذي أراه أن الحدث ضخم ومفصلي ومؤثر ليس على مصر فقط، وإنما على العالم العربي بأسره. والعلمانيون في مصر وفي الخليج قد جعلوها مسألة حياة أو موت؛ ولذلك تآزر العلمانيون في كل الدول، وحشدوا الإعلام المرئي والصحافة ضد مرسي، وروجوا الإشاعات، وافتروا الأكاذيب لإسقاطه في داخل مصر وخارجها.

فإما أن تندحر العلمانية وتحكم الأمة بالإسلام، وإما أن تبقى الحرب سجالا، تحكم الأمة أقلية علمانية تستمر في العمالة لليهود والنصارى، وهي تكره شعوبها، وشعوبها تكرهها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم.
والحكومات العلمانية كانت ولا زالت محل كراهية الشعوب المسلمة، وتستحق غضبها ولعنتها؛ لأنها لم تصلح للناس دنياهم، ولم تبق لهم دينهم، فأفسدت الدين والدنيا، عاملهم الله تعالى بما يستحقون، وخلص المسلمين منهم ومن أقذارهم.

ومن دروس الأحداث المصرية الأخيرة:


الأول:
أن المعركة التي تشهدها مصر حاليا هي معركة الإيمان مع الكفر والنفاق، وهي معركة تحكيم الشريعة حسب الممكن أو إقصائها بالكلية، ومواقف الناس منها تختلف بحسب ما يقوم في قلوبهم من حب الشريعة أو بغضها.
وأحيانا ينسحب كره بعض الناس للإخوان إلى كره مشروعهم بالكلية مع أنه تطبيق الشريعة، أو على الأقل هم أقرب إلى تطبيق الشريعة من الخيار المتاح وهو العلماني الإقصائي المتطرف، وكم تزل في هذا المقام من أقدام، وتنتكس فيه من قلوب وأفهام، فيدفعهم كرههم للإخوان إلى تأييد أهل الردة والنفاق، والوقوف مع القانون الوضعي ضد الشريعة الربانية، وهذا مزلق خطير قد يهوي بصاحبه إلى الردة والنفاق نسأل الله تعالى العافية.

الثاني:
أن المنافقين أشد ضراوة على المؤمنين من الكفار الأصليين، ويمثل ظاهرة النفاق السلولي في الأمة الطوائف العلمانية بكافة أطيافها وانتماءاتها، كما يمثل ظاهرة النفاق السبئي الفرق الباطنية، وكلا طائفتي النفاق تتسمى بالإسلام وهي تحاربه، وترفض التحاكم إليه، وتتآمر عليه، وترتكب ما يعد ردة في شرع الله تعالى، وتغضب أشد الغضب إن رميت بالردة أو اتهمت بالخيانة، وهذا ما وقع في الحدث المصري فقد وقف العلمانيون بكافة أطيافهم وانتماءاتهم صفا واحدا ومعهم الأقباط ضد تحكيم الشريعة، وأعلنوا ذلك صراحة.
كما وقف أرباب النفاق السبئي أتباع إيران مع أرباب النفاق السلولي في محاولة إسقاط مرسي لما لم يكن على هوى إيران، وسياسته ضدها في سوريا، وقد ترضّى عن الخلفاء الأربعة في طهران، أسأل الله تعالى أن يرفع قدره كما رفع قدر الخلفاء في عقر دار أعدائهم.
ومن العجيب في الحدث المصري أن تدعم إيران وهي (الجمهورية الإسلامية!!) العلماني الناصري المتطرف حمدين صباحي، وتوجه خليتها الرافضية التي زرعتها في البؤر الصوفية بمصر إلى الوقوف مع صباحي ضد الإخوان، وتغدق عليه قرابة 400 مليون دولار!!
وقد شارك روافض مصر في المظاهرة المسماة "حلم الشهيد" لرفض مشروع مسودة الدستور المصري التي تنص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع في مصر، ورفض الإعلان الدستوري المكمل، ونصبوا خيمة لهم بقلب ميدان التحرير، وقرروا الدخول في اعتصام مفتوح حتى إسقاط إعلان مشروع دستور الشريعة الإسلامية.

الثالث:
أنه إذا تراصت صفوف المسلمين ولو كانت توجهاتهم مختلفة كان ذلك أقوى لهم؛ فمنذ اندلاع الثورة المصرية حاولت مخابرات الرئيس المخلوع زرع الشقاق بين الإخوان والسلفيين، وعثر بعد نجاح الثورة على مكاتبات بين فروع مباحث أمن الدولة تثبت تلك المحاولات، لكن باءت كلها بالفشل.
واستمرت المحاولات بعد استبعاد الشيخ حازم أبو إسماعيل، لكن بيض الله وجه سلفيي مصر وعلمائها لم يخذلوا الأمة، ووقفوا مع مرشح الإخوان ضد المرشح العلماني، ونسوا حظوظهم الشخصية، ووازنوا المصالح والمفاسد في اختلافهم مع الإخوان.
ومما يستحق الإشادة والإبراز مواقف الشيخ حازم أبو إسماعيل وأتباعه الأخيرة حين احتشدوا أمام مدينة الإنتاج الإعلامي، مؤيدين لمرسي ضد التحالف القذر المشكل ضده، ومطالبين بتطهير الإعلام من عصابات حسني مبارك. حتى تعرض الشيخ لمحاولة اغتيال لكن نجاه الله تعالى منها. وهي مواقف من الشيخ حازم تدعو للإجلال والإكبار والاحترام، ولن ينساها التاريخ له ولأتباعه السلفيين، ونطالب الإخوان أن لا ينسوها للسلفيين، وهذا يدل على تجرد الشيخ حازم من حظوظ نفسه، ويدل على صدقه في يمينه أيام الانتخابات الرئاسية حين أقسم أنه ما رشح نفسه إلا قياما بالواجب وخوفا من الإثم،وهذه النماذج الوضيئة النادرة في البشر تبشر بخير عظيم لأمة تظهر فيها، وحقهم علينا الدعاء لهم بالنصر والتمكين.

الرابع:
في هذه الأحداث من الخير شيء كثير، ومن أبرزه فضح الليبرالية، وفضح الليبراليين العرب بوجه أخص، فلقد كان الليبراليون طيلة العقود الماضية يطالبون بالديمقراطية، ويتغنون بها، ويرجعون مصائب الأمة كلها إلى عدم تطبيقها، ويعلنون أنهم ملتزمون بنتائجها، وهاهم الآن في مصر ينقلبون على الديمقراطية بإثارة الفوضى، ويرفضون الاستفتاء على الدستور، كما انقلبوا من قبل على مجلس الشعب.. ويا للعجب ظل دعاة الديمقراطية في مصر ينادون بها قرابة نصف قرن، ثم انقلبوا عليها في أشهر معدودة عند أول تطبيق عملي لها.. يا لخيبة أعمار ضاعت في فكر لما وضع المحك فضح وانتكس، وعجز أصحابه الثبات عليه.. ووالله لو كان في ليبراليي العرب من المحيط إلى الخليج ذرة من حياء لتواروا عن الأنظار حياء من الناس حين انقلبوا على خيارهم، وحياء منهم حين لم يستطيعوا الثبات على فكر أضاعوا أعمارهم في الدعوة عليه.

الخامس:
يظهر جليا في الحدث المصري شدة عداء كفار أهل الكتاب للمؤمنين، والتربص بهم، وعدم إرادة الخير لهم؛ كما أخبرنا الله تعالى عن حقيقتهم في كثير من الآيات القرآنية [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ] {البقرة:105} فإن الأمة المصرية لما اقتلعت رأس الاستبداد فيها، وتنفست الحرية، واحتكمت إلى صناديق الاقتراع لتقرر مصيرها على غرار ما يحدث في الأمم الغربية؛ لم يترك الغربيون المصريين في حالهم بل راحوا يتدخلون ويدعمون الأقليتين المتطرفتين التي على دينهم (الأقباط) والتي على فكرهم (العلمانيون) ضد الأكثرية المسالمة التي ليست على دينهم ومشربهم (التيار الإسلامي)، حتى إن السفيرة الأمريكية في القاهرة "انا باترسون" صارت تجتمع برموز المعارضة العلمانية والقبطية، وتطالب بحشود أكبر حتى تستطيع واشنطن أن تتحرك لدعم المعارضة ضد مرسي، كما اعترف بذلك عماد جاد على قناة دريم، وهو من الرموز العلمانية المعارضة، بمعنى أن الانقلاب على شرعية الرئيس المصري التي جاءت بطريق صناديق الاقتراع تسهم فيه أمريكا بشكل مباشر، وتقود فلول المعارضة لتحقيقه، وصدق الله تعالى حين قال [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] {البقرة:120} فإن الأمريكان لما رأوا أن مصر بعد انتخاب مرسي تتجه للاستقلال في القرار عن التبعية للغرب، وتتجه لتطبيق الشريعة انقلبت على خيارها الديمقراطي الذي كانت تدعو إليه من قبل، وتسعر الحروب مدعية أنها تنشره كما فعلت في أفغانستان والعراق.

والسفيرة الأمريكية في القاهرة "انا باترسون" كانت سفيرة للولايات المتحدة في باكستان، واشتُهرت في الصحافة الباكستانية باسم "سفيرة جهنم". وقد عينت في منصبها الحالي أثناء الثورة المصرية فيما رآه مراقبون أنه جاء لرسم نفس مخطط "الفوضى الخلاقة" في مصر، وهو نفس الدور الذي قامت به في باكستان. ولهذه المرأة سجل أسود من التورط في التخطيط والإشراف على تنفيذ اغتيالات لرموز سياسية معروفة عندما كانت سفيرة بدولتي كولومبيا وباكستان؛ وهب موصوفة بأنها امرأة خبيرة بثغرات الفرقة والفوضى والخراب وكيفية تفعليها فى مجتمعات الشرق الأوسط والمجتمعات الإسلامية. وكشفت وثائق سربها موقع ويكيليكس أن «آنا باترسون» عندما كانت سفيرة لأمريكا في كولومبيا وباكستان قامت بتجنيد بعض الأشخاص العاملين في وسائل الإعلام الأجنبية بتلك الدول في وكالة الاستخبارات الأمريكية, بهدف تنفيذ انفجارات وعمل شغب في هذه البلاد, فضلا عن عمل توترات دبلوماسية وتنفيذ عدة اغتيالات لشخصيات مهمة.

السادس:
فضحت هذه الأحداث دعاة الحرية والحوار ومدعي الوطنية من الليبراليين العرب، فمع انقلاب ليبراليي مصر على خيار الشعب ارتكبوا أعمال عنف فقتلوا من خصومهم من قتلوا، وحرقوا مقرات الإخوان، وهم الذين يصمون الآذان برفض العنف والدعوة إلى الحوار، والحفاظ على مكتسبات الوطن، ويتهمون الإسلاميين بأنهم يتبنون العنف ويدعون إليه، ويرفضون الحوار، ويدمرون الأوطان. ووقف ليبراليو الخليج مع ليبراليي مصر فلم ينكروا العنف، ولا حرق مقرات الإخوان، وهم الذين جعلوا العنف شماعة ركبوها فطالبوا بإلغاء تحفيظ القرآن، والجمعيات الخيرية، والعمل الخيري برمته، والمراكز الصيفية؛ لأنها أوكار التطرف والإرهاب حسب زعمهم..

وأقسم بالله العظيم لو تسنى لهم لأغلقوا المساجد بالشمع الأحمر، بل لهدموها؛ لأن مشكلتهم في واقع الأمر مع الله تعالى ومع دينه لا مع البشر.. كيف وهم الذين ألصقوا العنف والإرهاب بالإسلام، وبالكتب والمناهج المستمدة من الكتاب والسنة، وهاهم الآن يقفون بقوة مع عمليات العنف والتخريب والقتل التي ارتكبها إخوانهم ليبراليي مصر ومولوها بأموال الشعوب المسروقة، عاملهم الله تعالى بما يستحقون، وأذاقهم الذل في الدنيا والآخرة.

السابع:
الصراخ الذي نسمعه هذه الأيام، والمناحة التي يمارسها الليبراليون في صحفهم وفضائياتهم داخل مصر وخارجها، وخاصة في الخليج هو صراخ اللحظات الأخيرة من محاولة علمانية فاشلة لإجهاض مكتسبات الثورة المصرية، وقد أعجبني تعليق الكاتب أحمد فهمي على هذا المشهد بقوله: مشهدان متناقضان،أحدهما يحكي جنازة حارة، والآخر يروي ولادة شعب ودولة.. كلما اقتربت لحظة وصول الجسد في المشهد الأول، يعلو صراخُ المشيعين ويشتد عويلهم، تلكم هي اللحظة الدرامية في مشهد الجنازة، عندما يظهر الفقيدُ محمولا على نعشه إلى مثواه الأخير في الدنيا، ويتيقن الجمع أن الأمرَ جدٌ وأن القبر لحدٌ.. على الجانب الآخر، كلما اقتربت لحظة الولادة، تهللت الوجوه وتفاءلت القلوب، بانتظار صراخ الصغير القادم يبحث عن لبن ورضاعة، بينما هو في حد ذاته "لبنة" أولى في بناء دولة وشعب.

الثامن:
إذا فشل الليبراليون والأقباط في إسقاط مرسي أو إجهاض المشروع الإسلامي فإنهم سيعودون من جديد للمصالحة والوفاق مع التيار الإسلامي على عادتهم في التلون والنفاق، وحينها يجب على قادة التيار الإسلامي عدم الخديعة بهم؛ فإنهم أعداء ولو أظهروا الود والمصالحة. وكان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المنافقين أنه يقبل ظاهرهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، لكنه لا يمكن لهم في الدولة، ولا يوليهم أعمالا سيادية ولو كانوا ذوي كفاءة وشرف في أقوامهم؛ فلم يول عبد الله بن أبي بن سلول وهو قيادي بارز حتى كان يُنظم له الخرز لحكم المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يول أبا عامر الفاسق ولا غيره من المنافقين مع أن فيهم ذوي كفاءة وسيادة وشرف في أقوامهم. وكذلك فعل الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فلم يولوا رؤوس المرتدين الذين تابوا أي ولاية، بل جعلوهم من عامة الناس؛ وذلك أن من استقوى من المنافقين فعادى المسلمين لا يوثق به إذا أظهر التوبة والمصالحة في حال ضعفه وخسارته، فتقبل توبته واعتذاره ومصالحته لكن يجب الحذر منه وعدم تمكينه وتقويته مرة أخرى لئلا ينقلب على المسلمين، وما دمر الحكومات الإسلامية إلا تقريب المنافقين والثقة بهم، وما من دولة مكنت المنافقين من مفاصل القرار فيها إلا اضمحلت وسقطت هيبتها، وكانت ذيلا لأعدائها، ثم زال سلطانها، كما حصل في أكبر دولتين في الإسلام الدولة العباسية والدولة العثمانية، وكما حصل في ممالك الأندلس.

وأخيرا..
فإن دين الله تعالى ظاهر منتصر رغم أنوف قوى الكفر والظلم، ورغم أنوف أرباب النفاق، والشعوب قد ملت من الشعارات العلمانية وتريد الإسلام، ومظاهر التدين في البلاد التي حررت من طواغيتها تثبت هذه الحقيقة، والقوى الكافرة الظالمة ومعها أذنابها من المنافقين لن يألوا جهدا في إسقاط الخيار الإسلامي وخنقه بشتى الوسائل ولو باغتيال مرسي أو إثارة الفوضى في مصر، أو تجفيف اقتصادها لإفقار الناس ونشر الجوع فيهم حتى يطالبوا بالخيار العلماني بديلا عن الشريعة الإسلامية، فأسأل الله تعالى أن يحفظ مصر وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يظهر فيها دينه، ويعلي كلمته، وينصر أولياءه ويمكنهم فيها، ويكبت أعداء شريعته ويدحرهم ويذلهم، ويجعل عاقبة أمرهم خسرا، إنه سميع مجيب.

1/2/1434



 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية