اطبع هذه الصفحة


مسائل في الدعاء القرآني (6)
دعوات مأمور بها (أ)

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


ثمة أدعية قرآنية أمر الله تعالى بها نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام؛ فالآمر هو الله تعالى الخالق المدبر العليم الرحيم، والمأمور هو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، وتوثيق ذلك وحفظه في أصدق كتاب وأوثقه.. فماذا بقي؟!
كلما مررت في القرآن بواحدة من هذه الدعوات المأمور بها حزنت كثيرا على عمر مضى فرطت في الدعاء بها، ولا سيما حينما أقرأ القرآن فأمر بها ولا أنتبه لها، وأحزن أيضا أني لم أضمها إلى الدعوات المطلقة التي أدعو بها؛ ولذا فإني أدعو نفسي والقراء الكرام إلى العناية بهذه الدعوات، والإكثار منها، والدعاء بها حين المرور عليها في المصحف أثناء القراءة، تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان لا يمر بآية سؤال إلا سأل.
وأي سؤال أعظم من دعوة علمها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بها؟! ولا يختار الله تعالى لنبيه إلا أجمع الدعاء وأحسنه وأكمله. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: يعجبني في الفريضة أن يدعو بما في القرآن.[سنن أبي داود:1/234].
وآمل من أئمة المساجد في صلاة التراويح الوقوف عندها والدعاء بما تضمنته؛ ففيه فائدة للإمام بنيل بركة الدعوة، وفيه تنبيه للمصلين خلفه بأهمية هذا الدعاء.

وهذه الدعوات المأمور بها في القرآن ست دعوات:

الدعوة الأولى: قول الله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:24].
فهذه الآية في الأمر بالترحم على الوالدين، وفيها مسائل كثيرة، منها:
الأولى: أن والدي النبي عليه الصلاة والسلام ماتا كافرين، ونهي عن الاستغفار لهما؛ ولذا جنح عدد من المفسرين إلى القول بنسخ هذه الآية بآية التوبة ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]. والقول بالنسخ مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما [تفسير الطبري: 17/420، وتفسير البغوي: 5/86].
وقيل: ليست منسوخة وإنما هي عام مخصوص بالأبوين المسلمين بأدلة أخرى [تفسير الطبري: 17/420، والتحرير والتنوير:15/72].
فيكون الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ويراد به أمته ممن والديهم مسلمون. [ينظر: تفسير النسفي: 2/253].

وبناء على ذلك فلا يخلو قارئ هذه الآية من حالات:

1- أن يكون أبواه مسلمين حيين كانا أم ميتين، فيدعو لهما بهذا الدعاء.
2- أن يكون أبواه كافرين ماتا على الكفر، فلا يجوز أن يدعو لهما بهذا الدعاء.
3- أن يكون أبواه كافرين حيين فالظاهر أنه لا مانع أن يدعو لهما به؛ لأن من مقتضيات رحمة الله تعالى لهما هدايتهما؛ ولذا كان الهدى رحمة، والضلال عدلا.
4- أن يكون أحد أبويه مسلما والآخر كافرا، فيدعو بصيغة المفرد للمسلم دون الكافر. وقد سبق أن بينا في مقالة سابقة أن تغيير صيغة الدعاء القرآني من الإفراد إلى الجمع والعكس كله جائز؛ لأنه يدعو ولا يقرأ.
قال أبو السعود رحمه الله تعالى: (وَقُل رَّبّ ارحمهما) برحمتك الدنيوية والأخرويةِ التي من جملتها الهدايةُ إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرَهما.[تفسير أبي السعود: 5/167].

الثانية: في الآية إيماء إلى أن دعاء الولد لوالديه مستجاب؛ لأن الله تعالى أمر به، ولا يأمر سبحانه به إلا لأنه يحبه ويرضاه، فكان حريا بالإجابة.
ويؤيده قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" [رواه مسلم 3/1255]. فجعل دعاء الولد عملا لأبويه. [ينظر: التحرير والتنوير: 15/72].

الثالثة: أن الله تعالى قبل هذا الدعاء أمر الولد برحمة والديه ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ ولكن رحمة الولد فانية، فأحاله على الرحمة الباقية وهي رحمة الله تعالى لهما ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [ينظر: تفسير أبي حيان: 7/ 39].
وأيضا: لأن رحمة الولد بهما لا تَفيِ بما قدّموه له، ولا ترد لهما الجميل، وليس البادئ كالمكافئ، فهم أحسنوا إليه بداية وهو يحسن إليهما ردّاً؛ لذلك ادع الله أن يرحمهما، وأن يتكفل سبحانه عنك برد الجميل، وأن يرحمهما رحمة تكافئ إحسانهما إليك. [تفسير الشعراوي: 14/8466].

الرابعة: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ هذا أمر رباني، والأصل أن الأمر يقتضي الوجوب إلا بصارف. قال الرازي رحمه الله تعالى: وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان رحمه الله تعالى: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال:﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه﴾ [الأحزاب: 56] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن الله تعالى قال:﴿واذكروا الله في أيام معدودات﴾ [البقرة: 203] فهم يكررون في أدبار الصلوات. [تفسير الرازي:20/327].

الخامسة: مربي اليتيم له ما للوالد من حق الدعوة لقوله تعالى ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
قال السعدي رحمه الله تعالى: وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية. [تفسير السعدي: 456].
وفي الآية بشرى لمن رَبَّى غير ولده، ولاسيما إنْ كان المربَّى يتيماً، أو في حكم اليتيم. [تفسير الشعراوي: 14/8467].

الدعوة الثانية:
قول الله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:80].
للمفسرين عبارات كثيرة متنوعة في تفسير المدخل والمخرج، فمنهم من جعله الهجرة من مكة إلى المدينة، وجاء فيه حديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنهم من جعله الدخول في القبر، وجعل الخروج: البعث، ومنهم من جعله الدخول في الطاعة والخروج منها، إلى غير ذلك من الأقوال التي زادت على عشرة أقوال.
والصواب أن الآية عامة في كل مدخل ومخرج للعبد:
قال القرطبي رحمه الله تعالى: وقيل: الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة. فهي دعاء، ومعناه: رب أصلح لي وردي في كل الأمور. [10/313].
وقال السعدي رحمه الله تعالى: أي: اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك وعلى مرضاتك، وذلك لتضمنها الإخلاص وموافقتها الأمر. [465].
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: وذلك دعاء بكل دخول وخروج مباركين...وهذا السؤال يعم كل مكان يدخل إليه ومكان يخرج منه. [15/187].
والقول بالعموم كما هو ظاهر الآية يعطي قيمة كبيرة لهذه الدعوة، ويجعلها من أنفع الدعوات لمن دعا بها.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنًا على الله، وهو دخول وخروج بالله ولله، وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد؛ فإنه لا يزال داخلا في أمر وخارجا من أمر. فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أُدخل مدخل صدق، وأُخرج مخرج صدق والله المستعان.[حادي الأرواح: 101].
وكذلك قيل في السلطان النصير أقول عدة؛ فقيل: الحجة، وقيل: القوة والسيف والرياسة التي ينتصر بها الإسلام وينتشر، ونحو ذلك.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية والقدرية والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين؛ فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوته ومجيئه من الخوارق للعادات فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.[الفتاوى: 11/324].
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: وعطف عليه سؤال التأييد والنصر في تلك المداخل والمخارج وغيرها من الأقطار النائية، والأعمال القائم بها غيره من أتباعه وأعدائه بنصر أتباعه وخذل أعدائه.[15/187].
وتضمنت هذه الدعوة طلب السلطان والنصر اللدني، وهو أبلغ من العندي، فقال ﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ ولم يقل (من عندك).

قال ابن القيم: فالسلطان النصير الذي من لدنه سبحانه: أخص وأقرب مما عنده...وهو الذي أيده به. والذي من عنده: نصره بالمؤمنين كما قال تعالى ﴿هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين﴾ [المدارج: 2/445].
قلت: ولعل من ذلك نصره بالرعب مسيرة شهر، وما قذف الله تعالى في قلوب أعداء أمته من خوف أمته والهيبة منهم، وهذا مشاهد فإن المسلمين ضعفاء متفرقون قد اجتمع كل الأعداء عليهم وتآمروا، ومع ذلك يخافونهم ويحتاطون لهم.

وللحديث بقية في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى..

السبت 11/9/1434

 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية