اطبع هذه الصفحة


مسائل في الدعاء القرآني (8)
الدعاء بالموافاة على الكفر أو المعصية

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


في قصتي نوح وموسى عليهما السلام جاءت آيات فيها دعاؤهما على الكفار من أقوامهما بعدم الإيمان، والبقاء على الكفر، بل والزيادة فيه.

1- ففي قصة نوح عليه السلام حكى الله تعالى عنه أنه قال [وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا]. [نوح: 24] فدعا عليهم بزيادة الضلال.
2- وفي قصة موسى عليه السلام، قال الله تعالى [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88}. فدعا عليهم بالشد على قلوبهم، وقد قيل فيه: اطبع عليها، وقيل: أهلكهم كفاراً، وقيل: اشدد عليها بالضلالة، وقيل: قسِّ قلوبهم. [زاد المسير: 2/346].
فأما دعوة نوح على قومه بزيادتهم في الضلال فنفى ابن عاشور أن يكون المقصود به الضلال الذي ضد الهداية؛ لأنه يعارض دعوة نوح أصلا، فحمله على العذاب؛ لأن الضلال مسببه، ويحتمل: ولا تزد في دعائهم فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضلالا، فالزيادة منه تزيدهم كفرا وعنادا.[التحرير والتنوير: 29/211].
وقال السعدي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا، أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم.[889].

وأما دعوة موسى عليه السلام ففيها مسائل عدة:

الأولى: جواز ذكر جرائم المدعو عليه، وتعداد نعم الله تعالى عليه، فموسى عليه السلام ذكر في دعوته أن الله تعالى أنعم على فرعون وملئه نعما، وما زادهم ذلك إلا ضلالا وإضلالا.
الثانية: أن الله تعالى يعلم ما ذكره موسى من نعمه على فرعون، ومن طغيان فرعون وإضلاله عن الحق، وليس ذكر موسى له لإخبار الله تعالى به وهو علام الغيوب، وإنما هو توطئة للدعاء. فمن دعا على ظالم جاز له أن يوطئ دعاءه بذكر جرائم المدعو عليه، ونعمة الله تعالى عليه، وهي حرقة في قلب الداعي يجدها؛ ليؤكد سبب دعائه عليه.
الثالثة: اختلف المفسرون في لام (ليضلوا عن سبيلك) على أقوال كثيرة، أصحها أنها لام العاقبة والصيرورة كما رجحه القرطبي وابن عاشور.
أي: لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا.
الرابعة: هل يجوز الدعاء على كافر بالبقاء على الكفر أو الزيادة فيه؛ ليكون عذابه يوم القيامة أشد، أو على ظالم أو عاص بزيادة الظلم أو المعصية أو بلوغ الكفر، أو عدم التوفيق للتوبة والهداية. ونسمع أحيانا من يدعو على كافر أو ظالم فيقول: الله لا يهديه.
وهذه مسألة كبيرة لا من جهة المنقول فيها وتحقيقه، ولا من جهة أهميتها في باب الدعاء.

والأقوال في ذلك يمكن حصرها في أربعة:

القول الأول: جواز ذلك في الكافر والعاصي؛ استدلالا بدعوة موسى على فرعون، فإنه قال (واشدد على قلوبهم) فعامة المفسرين يرون أنها دعوة عليهم بمنعهم الإيمان، والطبع على قلوبهم وتقسيتها. إلا ابن عاشور فيرى أن (واشدد) من الشد، أي: أدخل الشدة في قلوبهم، فتكون دعوة بالهموم والأنكاد والأحزان، لا بمنع الإيمان. ثم قال: وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك، فعجلوا بالنوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة، وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله: فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء، أي: افعل بهم ذلك ليؤمنوا.[11/ 270-271].
وبناء على كلام ابن عاشور فإنه يصبح دعاء لمصلحتهم، وعليه فلا تكون الآية دليلا على جواز الدعاء ببقاء الكافر على كفره، خلافا لجمهور المفسرين.
ومما يستدل به على جواز الدعاء باستدامة الكافر على كفره ليعذب به، بل وزيادته في الكفر دعوة نوح عليه السلام [وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا] [نوح: 24].
وكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين يوم الخندق، فَقَالَ:«مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ» [رواه البخاري:6396، ومسلم: 627] وهذه الدعوة تستلزم بقاءهم على الكفر، وعدم التوبة منه.
هذا في الكافر، وأما في المسلم فما ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دعا على أبي سعدة لما كذب عليه بأن يُفتن، والفتنة نقص في الدين، فقال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. [ رواه البخاري: 755].
قال ابن علان تعليقا على الحديث: ففيه جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه. ثم ساق قول ابن المنير: وكان في النفس من ذلك شيء، وذلك أن الدعاء بمثله مستلزم وقوع المعاصي، حتى تأملت هذا الحديث فوجدته سائغاً. والسبب فيه أن وقوع المعاصي لم يطلب من حيث كونها معاصي، لكن من حيث ما فيها من نكاية الظالم وعقوبته، كما أبيح تمني الشهادة، وندب مع أن فيه تمني قتل الكافر المسلم وذلك معصية ووهن في الدين؛ وذلك لأن الغرض من تمني الشهادة ثوابها لأنفسها، ووجدت في دعوات الأنبياء كقول موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم). وقول نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) [دليل الفالحين: 7/320].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته. [فتح الباري 2/ 241].
ويجاب عن دعوة النبيين نوح وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام بأنهم قد علموا أن المدعو عليهم لا يؤمنون، فهم لا ينطقون في شيء من الشرع إلا بوحي.
وقد يعترض على ذلك في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بأن بعض من حضر الخندق ممن دعا عليهم قد أسلموا بعد ذلك.
فيجاب: بأنه عام في المشركين لكنه مخصوص بمن يبقون على كفرهم، ويتأيد بحديث سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[رواه البخاري:4070]
فالله تعالى لم يقره على هذه الدعوة، بينما أقره على دعائه على مشركي الخندق.
قال القرطبي تعليقا على دعوة موسى عليه السلام: وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم، فالجواب: أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن. [8/375].
وقال النسفي: وإنما دعا عليهم بهذا لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان.[تفسير النسفي: 2/38].

القول الثاني:
أن ذلك يختلف بقصد الداعي، فإن قصد الانتقام من المدعو عليه؛ لأنه آذاه جاز أن يدعو عليه بالكفر والمعصية. وإن قصد محبة الكفر أو المعصية كان محرما أو كفرا.
ففي المذهب الحنفي نقل شاه الكشميري من بعض كتب الأحناف عن أبي حنيفة: أن أحداً لو كان كافراً مؤذياً للمسلمين إيذاءاً شديداً فدعاء موته والرضا بأن يموت كافراً ليعذب بالنار لما يؤذي المسلمين لا بأس به. [العرف الشذي: 4/275]

وفي المذهب الشافعي نقل البقاعي عن الحليمي: وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين:

أحدهما: أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر؛ لأن استحسان الكفر كفر.
والآخر: أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه، فيحب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر. تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه؛ لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه.[نظم الدرر: 9/181].
وقال النووي: لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: لا رزقه الله الإيمان، فليس بكفر; لأنه ليس رضى بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الأمر والعقوبة عليه. [روضة الطالبين:10/65].
لكن النووي رغم أنه يقول: إنه ليس بكفر فإنه يحرمه، قال في الأذكار: لو دعا مسلمٌ على مسلمٍ فقال : اللهم اسلبه الإيمان ؛ عصى بذلك . وهل يكفر الداعي بمجرد هذا الدعاء؟ فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما القاضي حسين من أئمة أصحابنا في الفتوى، أصحهما: لا يكفر . وقد يحتج لهذا بقول الله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) الآية. وفي هذا الاستدلال نظر وإن قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا. [الأذكار: 359-360].
وهذا القول يلتقي مع القول الأول؛ لأن أصحاب القول الأول لا يعقل أنهم يجيزون ذلك بإطلاق، وإنما إذا كان قصد الداعي الانتقام من المدعو عليه، لكني أفردته لأن أصحابه لم يبينوا ذلك بل أطلقوا، إلا ما ألمح إليه ابن المنير.

القول الثالث:
تحريم ذلك؛ لأن الدعاء باستدامة الكفر أو المعصية أو إحداثهما فيه الرضا بأن يعصى الله تعالى. وهو قول القرافي، فإنه قال: وحيث قلنا بجواز الدعاء على الظالم فلا تدعو عليه بملابسة معصية من معاصي الله تعالى ولا بالكفر فإن إرادة المعصية معصية وإرادة الكفر كفر.[الفروق: 4/294]. وسبق أيضا إيراد قول النووي في الأذكار.

القول الرابع:
التفريق بين الكافر والمؤمن، وهو قول شهاب الدين النفراوي من المالكية، قال في الفواكه الدواني: اختلف في جواز الدعاء على المسلم العاصي بسوء الخاتمة:
قال ابن ناجي: أفتى بعض شيوخنا بالجواز محتجا بدعاء موسى على فرعون... والصواب عندي أنه لا يجوز وليس في الآية ما يدل على الجواز؛ لأنه فرق بين الكافر المأيوس من إيمانه كفرعون وبين المؤمن العاصي المقطوع له بالجنة إما ابتداء أو بعد عذاب.[1/183].

والذي تميل النفس إليه أنه لا يجوز الدعاء على كافر باستدامة كفره، ولا على عاص باستدامة عصيانه أو انزلاقه للكفر؛ لأن لازم ذلك أن الداعي يدعو ببقاء الكفر والعصيان، وهو مأمور بإزالتهما بالدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأما ما استدل المجيزون به من دعوة الرسل نوح وموسى ومحمد عليهم السلام على أقوامهم -فلو سلمت من الاعتراض من جهة المعنى- فلعلمهم أنهم لا يؤمنون، وهم مؤيدون بالوحي.

وأما دعوة سعد رضي الله عنه على أبي سعدة فالذي يظهر لي أن فيها إظهارا لبراءة سعد؛ وذلك من جهة أنا أبا سعدة كذب على سعد، وتناقل الناس كذبته، ووقعت في قلوب بعض الناس، فتعرض أبي سعدة للفتنة بسبب دعوة سعد فيها كشف لحقيقته، وإظهار كذبه على سعد، وإثبات عدم عدالته؛ فإن الكذاب قد يكون ظاهره العدالة فيصدقه الناس إن رمى بريئا، لكن إن تعرض لفتنة ففتن وقع فيما يخرم مروءته ويسقط عدالته فبان للناس كذبه، وهو ما دعا به سعد رضي الله عنه فاستجيب له. والدعاء بالفتنة هو دعاء بالامتحان والابتلاء، وقد ينجو ولا يفتتن، وفرق بينه وبين الدعاء بالمعصية. ولذا فإن سعدًا رضي الله عنه ما قال: اللهم افتنه، وإنما قال: عرضه للفتن.

وقد جاء عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. [رواه مسلم: 2735] والدعاء باستدامة الكفر أو المعصية أو سلب للإيمان هي دعوة بإثم.
لكن إن قصد مجرد الانتقام من عدوه فلا يعد ذلك كفرا ولو دعا عليه بالكفر، كما قرره النووي، وهو الظاهر من كلام القرافي.

وقال الشيخ ابن عثيمين: لو دعوت على شخص بسوء الخاتمة فإن الداعي لا يكفر، ولكن لا يجوز للإنسان أن يدعو على أخيه المسلم بهذا الدعاء الشنيع بسوء الخاتمة؛ لأن سوء الخاتمة والعياذ بالله يعني أن يموت على غير الإسلام.[الباب المفتوح: 165/ 9، بترقيم الشاملة آليا].

الأربعاء 15/9/1434

 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية