اطبع هذه الصفحة


مسائل في الدعاء القرآني (9)
المرور بآيات التسبيح والسؤال والتعوذ

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


القرآن الكريم مملوء بأدعية الثناء والسؤال، ومملوء بآيات الوعد التي تستخرج السؤال، وآيات الوعيد التي تستخرج التعوذ. ومن دلائل التدبر في قراءة القرآن الوقوف عند هذه الآيات للسؤال والتعوذ والتسبيح ونحوه، وصيغ ذلك في القرآن منوعة، منها:
1- أن تأتي بالأمر الصريح نحو قول الله تعالى ﴿وَقُلِ الحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ﴾ [النمل:93] ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 74] ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1].
2- أن تأتي في معرض الثناء على قائل ذلك، كما في الثناء على المؤمنين ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 28] والثناء على عباد الرحمن ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: 65].
3- أن تأتي في معرض ذم من لا يفعله، كما قال تعالى في المنافقين ﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [ النساء: 142]. وقد ورد أن ذلك في الصلاة، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» [رواه مسلم: 622].
وإذا كان لا يذكر الله تعالى إلا قليلا في الصلاة وهي موطن الذكر فأولى أن لا يذكر الله تعالى خارجها. وإذن فكثرة قراءة القرآن، والوقوف عند آيات التسبيح والسؤال والتعوذ للامتثال مما يجعل المؤمن من الذاكرين، فيبتعد عن النفاق، فليحرص عليه قارئ القرآن.
4- أن تأتي إخبارا بتسبيح الخلق لله تعالى كما في تسبيح الملائكة ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20] ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [غافر: 7]. وتسبيح جميع الكائنات ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44] ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:1].

والكلام عن ذلك منتظم في مسائل عدة:


المسألة الأولى: فعل ذلك خارج الصلاة.
وهذا لا إشكال فيه البتة، ولا أعلم أن أحدا منعه. ومن فوائده: التدبر، والدعاء، إضافة إلى القراءة، وكل واحدة منها عبادة. وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قول الله تعالى: (يتلونه حق تلاوته) قال: إذا مرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار.[ رواه ابن أبي حاتم: 1160].

المسألة الثانية: فعله داخل الصلاة.
ووردت فيه أحاديث صحيحة؛ كحديث حذيفة رضي الله عنه في وصف قيام النبي عليه الصلاة والسلام وقد صلى معه، قال:«يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ»[رواه مسلم: 772].
وفي رواية النسائي:«لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ أَوْ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا ذَكَرَهُ» [1133].
وكذلك حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال:«قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ مِنَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ يَتَعَوَّذُ»[رواه النسائي: 1132].

ومع ذلك اختلف العلماء في موضع هذه الأحاديث على أقوال:

الأول: ذهب الأحناف إلى أنه مندوب للمنفرد فقط، دون الإمام والمأموم، فهو بدعة في حقهما. كما نص على ذلك الطحطاوي في حاشيته على المراقي [1/122].
قال الكاساني رحمه الله تعالى: وأما الإمام في الفرائض فيكره له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في المكتوبات وكذا الأئمة بعده إلى يومنا هذا فكان من المحدثات؛ ولأنه يثقل على القوم وذلك مكروه، ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه يزيد في خشوعه والخشوع زينة الصلاة، وكذا المأموم يستمع وينصت؛ لقوله تعالى ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204] اهـ.[بدائع الصنائع: 1/235].
وفي حاشية ابن عابدين منع الإمام منه في التراويح؛ لئلا يثقل على المأمومين، ومنع المأمومين منه؛ لأن وظيفتهم الاستماع للقرآن، وحصر حديث حذيفة بالصورة التي مثله وهي اقتداء واحد أو اثنين بإمام. [1/545].
الثاني: أنه مندوب في النافلة دون الفريضة؛ لأن الحديث فيها، وهو قول ابن قدامة من الحنابلة.
قال: ويستحب للمصلي نافلة إذا مرت به آية رحمة أن يسألها، أو آية عذاب أن يستعيذ منها؛ لما روى حذيفة...ولا يستحب ذلك في الفريضة؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في فريضة، مع كثرة من وصف قراءته فيها.[المغني: 1/394].
ومشايخنا يقولون بقول ابن قدامة؛ ففي فتاوى اللجنة الدائمة: إن كانت القراءة في الفريضة فالسنة ترك ذلك؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم. أما إن كانت الصلاة نافلة كالتهجد في الليل فيستحب للقارئ أن يقف عند آية الرحمة فيسأل، وعند آية العذاب فيتعوذ، وعند آية التسبيح فيسبح. [5/310].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: والراجح في حكم هذه المسألة أن نقول: أما في النفل -ولا سيما في صلاة الليل- فإنه يسن له أن يتعوذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك أحضر للقلب وأبلغ في التدبر، وصلاة الليل يسن فيها التطويل، وكثرة القراءة والركوع والسجود، وما أشبه ذلك.
وأما في صلاة الفرض فليس بسنة وإن كان جائزا....الدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كل يوم وليلة ثلاث صلوات، كلها جهر فيها بالقراءة، ويقرأ آيات فيها وعيد وآيات فيها رحمة، ولم ينقل الصحابة الذين نقلوا صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك في الفرض، ولو كان سنة لفعله ولو فعله لنقل، فلما لم ينقل علمنا أنه لم يفعله، ولما لم يفعله علمنا أنه ليس بسنة، والصحابة رضي الله عنهم حريصون على تتبع حركات النبي صلى الله عليه وسلم وسكناته حتى إنهم كانوا يستدلون على قراءته في السرية باضطراب لحيته، ولما سكت بين التكبير والقراءة سأله أبو هريرة ماذا يقول؟ ولو كان يسكت عند آية الوعيد من أجل أن يتعوذ، أو آية الرحمة من أجل أن يسأل لنقلوا ذلك بلا شك. [الشرح الممتع: 3/289-290].
فحاصل هذا القول أنه يجوز في الفرض؛ لأنه دعاء، والدعاء يشرع في الصلاة، لكنه ليس بسنة؛ لأنه لم ينقل فعله عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الثالث: كراهيته في الفريضة، ومشروعيته في النافلة. وهو مذهب المالكية؛ ففي مختصر خليل: وكرها بفرض: كدعاء قبل قراءة وبعد فاتحة وأثناءها وأثناء سورة. [ص: 33]
وفي شرحه للخرشي قال: يعني: أنه يكره في هذه المواضع الدعاء كما تكره البسملة والتعوذ في الفرض، لكن قوله (وأثناءها وأثناء سورة) هو في الفرض، وأما في النفل فجائز.[1/290].
ونقل في منح الجليل عن الشامل عن مالك رحمه الله تعالى: إن سمع مأموم ذكره عليه الصلاة والسلام فصلى عليه، أو ذكر الجنة فسألها، أو النار فاستعاذ منها فلا بأس ويخفيه، ولا يكثر. [منح الجليل1/266].
الرابع: استحباب ذلك مطلقا في الفرض والنفل، للإمام والمأموم والمنفرد، وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة.
قال النووي رحمه الله تعالى: قال الشافعي وأصحابنا: يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة... ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد... لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين. ثم قال: وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف ممن بعدهم.[المجموع: 4/66].
وقال الحجاوي رحمه الله تعالى: وله السؤال والتعوذ في فرض ونفل، عند آية رحمة أو عذاب. [الإقناع 132، وينظر: شرح المنتهى: 1/212، والروض المربع: 101].
وقد يقال إن الحنابلة لم ينصصوا على سنية ذلك في الفرض، وإنما قالوا بجوازه، فعاد قولهم إلى القول السابق. ولكن ليس هذا هو الظاهر؛ لأنهم سووا بين الفرض والنفل في ذلك، فلا فرق عندهم بينهما.
وهذا القول هو قول الظاهرية، قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ونستحب لكل مصل إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله عز وجل من النار. [المحلى: 3/ 33].
والقول الثاني هو أعدل الأقوال، وهو الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية والتركية، فيستحب في النافلة، ويشرع في الفريضة بلا استحباب، والسنة تركه.

المسألة الثالثة: إذا صلى النافلة كالتراويح خلف إمام،
وكان الإمام يقف عند آيات السؤال فيسأل فيتبعه المأموم بالسؤال بلا إشكال، لكن إن كان الإمام لا يقف عند هذه الآيات كما هو حال أكثر أئمة المساجد في هذا الزمن، فهل للمأموم أن يخالف إمامه في ذلك فيسأل ويستعيذ ويسبح وإمامه مستمر في القراءة أم لا؟
الذي يظهر والله أعلم أنه لا يفعل ذلك إن كان يشغله عن الإنصات؛ لأنه تعارضت سنة السؤال والاستعاذة والتسبيح مع واجب الإنصات لقراءة الإمام، والإنصات أولى.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إن أدى ذلك إلى عدم الإنصات للإمام فإنه ينهى عنه، وإن لم يؤد إلى عدم الإنصات فإن له ذلك... لو كانت آية الوعيد في أثناء قراءة الإمام، فإن المأموم إذا تعوذ في هذه الحال والإمام لم يسكت انشغل بتعوذه عن الإنصات للإمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المأموم أن يقرأ والإمام يقرأ؛ إلا بأم القرآن.[الشرح الممتع: 3/287].

المسألة الرابعة: المنصوص عليه في حديث حذيفة رضي الله عنه:
التسبيح، والسؤال، والتعوذ، وفي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه السؤال والتعوذ، فهل يقتصر عليها لورود النص فيها، أم يدخل معها ما كان مثلها كالاستغفار، والحوقلة، والتكبير، والتهليل، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟!
الظاهر أنه يدخل فيها ما كان مثلها؛ لأن الاستغفار والحوقلة والصلاة على النبي دعاء فهي في معنى السؤال المنصوص عليه، والتكبير والتهليل ثناء يشبه التسبيح المنصوص عليه، وكلاهما مشروع في الصلاة.
قال الإمام أحمد، في الإمام يقول: "لا إله إلا الله ". فيقول من خلفه: "لا إله إلا الله" يرفعون بها أصواتهم، قال: يقولون، ولكن يخفون ذلك في أنفسهم. قال ابن قدامة: وإنما لم يكره أحمد ذلك، كما كره القراءة خلف الإمام؛ لأنه يسير لا يمنع الإنصات، فجرى مجرى التأمين. قيل لأحمد: فإن رفعوا أصواتهم بهذا؟ قال: أكرهه. قيل: فينهاهم الإمام؟ قال: لا ينهاهم. قال القاضي: إنما لم ينههم؛ لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بمثل ذلك في صلاة الإخفاء، فإنه كان يسمعهم الآية أحيانا.[المغني: 2/44].
وقال ابن فرحون المالكي رحمه الله تعالى: إذا مر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الإمام فلا بأس للمأموم أن يصلي عليه.[مواهب الجليل: 1/544].
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام إذا مرّ ذكره في آية أثناء الصلاة، فقال: أما في الفريضة فلا يفعل ذلك؛ لعدم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما في النافلة فلا بأس؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم في تهجده بالليل يقف عند كل آية فيها تسبيح فيسبح، وعند كل آية فيها تعوذ فيتعوذ، وعند كل آية فيها سؤال فيسأل. والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من هذا الباب. [مجموع فتاواه:11/201].

المسألة الخامسة: هل للتسبيح والسؤال والتعوذ صيغة موقوتة؟

الأحاديث ورواياتها في أصل المسألة لم أقف فيها على صيغة معينة، فالظاهر أنه إذا أتى بأي صيغة وافق السنة، والظاهر أنه لا مانع أن يطيل في السؤال أو التعوذ أو التسبيح ويكرره إذا كان يصلي وحده.
روى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَنَفَسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 8] وَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا وَخَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» [رواه الطبراني: 11191، وحسنه الهيثمي والألباني].
قال ابن أبي عاصم في السنة: وهو في الصلاة كأنه القنوت.[1/140].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، قَالَ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى "[رواه أحمد: 2066، وصحح محققو المسند الموقوف، وصحح الحاكم والألباني المرفوع].
وقال البغوي رحمه الله تعالى: يعني: قل سبحان ربي الأعلى، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين. [تفسير البغوي: 8/396]. وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير يفعلون ذلك. [5/468]. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: يستحب للقارئ إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين. [20/13].

المسألة السادسة: جواب الآيات التي تختم باستفهام؟

وهي على نوعين:
الأول: ما ورد فيه أحاديث أو آثار عن السلف.
الثاني: ما لم يرد فيه شيء.
ومن النوع الأول:
1- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الجِنِّ لَيْلَةَ الجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الحَمْدُ ": [رواه الترمذي: 3291، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ].
والحديث معل بزهير بن محمد، فهو منكر الحديث كما قال الأئمة أحمد والبخاري والذهبي. [ينظر: سنن الترمذي: 3291، وميزان الاعتدال: 2/85].
وصححه الحاكم وحسنه الألباني [المستدرك: 2/473، والسلسلة الصحيحة: 2150].
2- حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَهَى إِلَى {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ، فَبَلَغَ:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50]، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ» [رواه أبو داود: 887].
وهذا الحديث معل بالاضطراب، وبجهالة الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، تنظر طرقه في: علل الدارقطني: 11/247، ومسند أحمد، نسخة الرسالة: 12/353.
3- حديث مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ، قَالَ: «سُبْحَانَكَ» ، فَبَكَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» [رواه أبو داود: 884].

وبهذه الأحاديث أخذ فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، فالمالكية يقولون بالجواز، والشافعية والحنابلة يقولون بالاستحباب [ينظر: مواهب الجليل: 2/253، وروضة الطالبين: 1/249، وزاد المستقنع: 47].
قال النووي: قال أصحابنا: وإذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ (فبأي حديث بعده يؤمنون) قال آمنا بالله، وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها، وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد؛ لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين. [المجموع: 4 / 67].

وقال ابن قدامة: قيل لأحمد رحمه الله: إذا قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة: 40] هل يقول: سبحان ربي الأعلى، قال: إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه، ولا يجهر به في المكتوبة وغيرها... وعن ابن عباس، أنه قرأ في الصلاة: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة: 40]. فقال: سبحانك، وبلى.[المغني: 2/ 44].
قال البهوتي: في صلاة وغيرها قال سبحانك فبلى، في فرض ونفل، ومنع منه ابن عقيل فيهما.[كشاف القناع: 1/384].

وواضح من كلام النووي أن الأصل عند الشافعية في هذا الأحاديث التي ذكرتها آنفًا، وأما الإمام أحمد فذكر الأثر عن ابن عباس.

ومن العلماء من أجاز ذلك في نهاية سورة القيامة؛ لأن حديثها ثابت بخلاف الاستفهام في بقية السور؛ فالشيخ ابن باز رحمه الله تعالى سئل: من هل يجوز قول (بلى) عند السور التي تنتهي ببعض الأسئلة مثل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؟ فقال: لا يشرع ذلك إلا عند تلاوة آخر آية من سورة القيامة وهي قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}فإنه يستحب أن يقال عند قراءتها:سبحانك فبلى؛ لصحة الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.[مجموع فتاواه: 29/282].

ومن النوع الثاني وهو الاستفهام الذي لم يرد فيه شيء:

قول الله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53] وقوله تعالى ﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ [النمل: 60] وقوله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36] وقوله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ﴾ [ الزمر: 37].

فمن وقف على ثبوت النص فيه فإنه يمنع الجواب عند هذا النوع ببلى ونحوه لا داخل الصلاة ولا خارجها؛ لأنه أمر محدث لا دليل عليه، ولكنها تدخل في آيات التسبيح؛ لأن التسبيح تنزيه يتضمن التعظيم، والتسبيح عند الآيات المقتضية ذلك منصوص عليه.

ومن العلماء من يتوسع في ذلك فيرى جواز الجواب في هذا النوع ببلى ولو لم يرد نص بخصوصه؛ لأنه إن جاز في بعض الاستفهام جاز في بقيته مما هو مثله. وهو قول قوي جدا لولا أن هيبة مبنى العبادات على التوقيف ترد عنه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وفيه آيات كثيرة؛ كقوله في سورة النمل: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}؟ فهل يصحُّ أن يقول: لا؟ الجواب: نعم، يصحُّ أن يقول: لا إله مع الله.[الشرح الممتع: 3/291].
وهذا البحث كله في الاستفهام التقريري، أما الاستفهام الإنكاري، فلا يجيب فيه؛ لأنه حينئذ يقلب المعنى. وكذلك الاستفهام المسوق للتهديد والوعيد.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولو قرأ:{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} [الملك:30]. فهنا لا يقول: يأتي به الله؛ لأن هذا إنما جاء في سياق التهديد والوعيد، فالله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المكذبين: {أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} [الشرح الممتع : 3/291].


الجمعة 17/9/1434

 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية