اطبع هذه الصفحة


تصحيح تلاوة الحجاج

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


في أول العشر وبعد صلاة الفجر في أحد مساجد مكة قام في وسط مسجد يغص بالحجاج من بنجلادش قام شيخ وقور وحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم رطن بلغتهم، فظننته مرشد الحملة يعطيهم تعليماته، لكن فور انتهائه انفض الحجاج البنجلادش وتحلقوا على خمس حلق وكل حلقة فيها شيخ يقرئهم الفاتحة.. فدهشت من الفكرة، وأدهشني أكثر سرعة استجابة الحجاج لتصحيح تلاوتهم مع أن عامتهم من كبار السن، أصغرهم تجاوز الستين، وفيهم من هو في الثمانين.

استمرت هذه الحلقات طلية أيام العشر المباركة، مرتان في اليوم، بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، يجلس المقرئون يلقنونهم الفاتحة وقصار السور وآية الكرسي، ويستمرون إلى أن ينهي كل مدرس مجموعته الموكول بها، ويستغرق ذلك ساعة تقريبا.
ورأيت عجوزا من أهل مكة جاء بها ابنها قبيل صلاة العصر، وقد ملأت السيارة أكياسا وضعت في كل كيس برتقالة وتفاحة وعصيرا وفطيرة وقطعة كيك، وولدها يوزع على الرجال في الحلقات هذه الوجبات، وهي توزع على النساء خارج المسجد، تتوكأ على عصاها وتشرف بنفسها على التوزيع..

بعد أيام من استمرار هذه الحلقات المباركة سألت أحد المدرسين فيها عن مدى استفادة الحجاج منها فأخبرني أنهم يأتون وهم يلحنون في الفاتحة وقصار السور فلا تنتهي الدورة إلا وهم يتقنونها. ثم أحالني الأستاذ على شيخه الذي حفظ عليه القرآن في حلقة أخرى في نفس المسجد وذهب بي إليه، وكان هو كبير الأساتذة المقرئين في ذلك المسجد، وأخبرني أن هذا البرنامج قديم لتصحيح تلاوة الحجاج، وأنهم يتجاوبون معهم تجاوبا كبيرا.. وأنه لاحظ من خلال تدريسه سنوات طويلة أن حجاج إندونيسيا هم أقل الحجاج لحنا وغلطا في الفاتحة والسور القصيرة، وقال: يبدو لي أن المقرئين هناك أو الأسرة تعتني بإقراء الأطفال هذه السور بشكل صحيح، فتبقى معهم صحيحة. وذكر أن حجاج بعض دول إفريقيا هم أكثر الحجاج لحنا في الفاتحة وقصار السور، وبعضهم يلحن فيها لحنا لا يكاد يبين قراءته، وأنهم يتعبون جدا في إقرائهم..

وسألته عن الجنسيات التي تتجاوب معهم.. فذكر لي أن الحجاج من جميع الجنسيات يتجاوبون مع هذا البرنامج، لكن الفروقات بينهم في الضبط واللحن.

ثم أمر أحد طلابه وهو شيخ أظنه جاوز السبعين أن يقرأ علينا الفاتحة فقرأها بإتقان، ثم أمر آخر دونه سنا فقرأ سورة الفيل، وثالث قرأ الماعون. ويبدو لي أن تقسيم الحلقات كان بناء على السور؛ فللفاتحة حلقة خاصة إذا تخرج منها ذهب لقصار السور، فإذا تخرج منها ذهب لآية الكرسي... وهكذا.. وهي طريقة حسنة في الترتيب.

ولاحظت أن الشيخ دقيق في تصحيح تلاواتهم وإزالة العجمة من ألسنتهم ولو كانت خفيفة جدا، فلا يسمح للطالب أن يجاوز الكلمة حتى يتقنها، ويأمره بتردادها مرات وهو يصغي إليه، ويصحح له، لا يمل التكرار.

وأثناء تلاوات الطلاب جاء المشرف العام لتفقد سير الحلقات، ويبدو أنه يدور على مساجد عدة، فأخبرني أن المشروع قديم جدا، وأن الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن تتبناه، لكنه انتعش بعد مشاركة مؤسسة هدية الحاج الخيرية، وصار له أثر أكبر، ونشاط أوسع.. وذكر لي أن مدة الإقراء لتصحيح التلاوة خمسة عشر يوما؛ لأن الحاج لما يعتمر يكون عنده وقت فراغ إلى الحج، فنستغل هذا الفراغ بعقد هذه الدورات، وقد عاد كثير من الحجاج إلى بلدانهم بنسك وضبط للفاتحة وقصار السور.

الحقيقة أن المشروع على بساطته مذهل جدا، وله ثمار لا تخفى لو لم يكن منها إلا تصحيح الفاتحة التي هي ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها. مع ما فيه من تجسيد رابطة الأخوة والمحبة بين المؤمنين، وهذه من منافع الحج الكثيرة.

وسنة إقراء كبار السن وتصحيح التلاوة سنة حميدة رأيتها في الحجاز وخاصة في المسجد النبوي ورأيتها في مصر والشام، فيا ليت أن هذه السنة الحسنة تنتقل إلى نجد، فينبري أئمة المساجد والمتقنين لتصحيح تلاوات كبار السن ليس الفاتحة وقصار السور بل كل القرآن.. فلو أن إمام كل مسجد أو من كان فيه من المقرئين يجلس لإقراء كبار السن في حلقة كالحلقات التي نشاهدها في المسجد النبوي لحصل من ذلك خير عظيم. وكذلك العمال الأعاجم يحتاجون إلى حلقات لتصحيح الفاتحة وقصار السور، وأتذكر أن شيخنا محمد بن سنان رحمه الله تعالى كان يقرئ كبار السن في مسجد الفريان بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر أو المغرب، فمنهم من يحفظ ويسمع عليه، ومنهم من يصحح تلاوته.

وينبغي العمل على كسر حاجز الرهبة والخجل الذي يمنع من ذلك؛ فإن الأمور في بداياتها تكون صعبة ثم تسهل بانتشار حلقات إقراء الكبار، خاصة وأن لدى كبار السن فراغا بعد التقاعد، وتعلم القرآن خير من مجرد تلاوته، وربما تكون تلاوة الواحد منهم خاطئة جدا، وقد درج عليها سنوات طويلة. ولأن يتعلم المرء آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين كوماوين كما جاء في الحديث.

السبت 7/12/1434

 

إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية