اطبع هذه الصفحة


اصبروا وصابروا

جمع وإعداد
حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ,, وبعد

إن الدنيا قد جبلت على كدر وهم , وضيق وغم , أوجاعها لا تنقضي , ومآسيها لا تنتهي , والإنسان فيها بين آلام مرض وهموم دين , وبين جفوة قريب وفقد حبيب , وبين معاناة سفر ومكابدة سهر .
أسرة هنا تحت سلطة أب ظالم أو تمرد زوجة ناشز أو عقوق أبناء منحرفون .
بلد هناك يئن من احتلال كافر , وبلد يشكو من سلطان جائر , فتن متلاطمة , ومحن متتابعة .
ولله ما يقدر ويفعل , وله في كل شي حكمة .
والناس مع هذه الأحداث على قسمين , فمنهم من يجزع ويسخط ويعترض على قضاء الله وقدره , وأولئك الذين ضعف إيمانهم واضطرب يقينهم , فهم عطفاً على تبرمهم وتسخطهم تعظم مصائبهم وتتفاقم همومهم وتثقل عليهم أوجاعهم حتى يعجزوا عن حملها أو مواجهتها , فيخسروا بذلك أجر الصبر والرضا بأقدار الله تعالى من وجه , ويعجزوا عن حل مشاكلهم ومعالجة أوضاعهم من وجه آخر .
ومنهم من يصبر على قضاء الله وقدره ويرضى به , فلا يأتون من الأعمال والأقوال إلا ما يرضي ربهم ويساهم في مضاعفة أجرهم ويسكن الطمأنينة والأمن في قلوبهم , متطلعين إلى ما عند ربهم من الأجر والمثوبة التي كتبها الله للصابرين الشاكرين قال تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".

إن خلق الصبر من أفضل فضائل الأعمال , وأجل أخلاق الكرام , وأحد أهم أسباب التوكل الصادق على الملك العلّام , جاء بيان فضله في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعا , وهو واجب بإجماع الأمة , وهو نصف الإيمان , فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر , ذكر ذلك ابن القيّم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين .

وهو مذكور في القرآن على أنواع عدّة : ومنها :

الأول : أن الله جل وعلا قد أمر به فقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " وقال : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وقال : " اصبروا وصابروا " وقال : " واصبر وما صبرك إلا بالله " ونهى جل وعلا عن إتيان العبد كل ما هو ضده ( أي ضد الصبر) , فقال تعالى : " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم " ، وقال : " فلا تولوهم الأدبار " ، فإن تولية الأدبار : ترك للصبر والمصابرة . وقوله : " ولا تبطلوا أعمالكم " فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها . وقوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا " فإن الوهن من عدم الصبر .

الثاني :
ثناء الله جل وعلا على الصابرين وهذا كثير في القرآن الكريم ، كقوله تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " ومن صور ثناءهم عليهم أن الله قد أوجب محبته و معيته لهم فقال في محبته لهم : " والله يحب الصابرين " وقال في معيـّته لهم : " واصبروا إن الله مع الصابرين" وقال " والله مع الصابرين " وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم .

الثالث :
أوجب الله للصابرين مآلات عدة وخيرات متعددة , ومنها أن منحهم الجزاء بأحسن أعمالهم فقال تعالى : " ولنجزيّن الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ومنحهم أيضاً الجزاء بغير حساب , فقال تعالى" : إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب " , وأوجب لهم الخير كله إن هم حققوا معنى الصبر وتمثلوا به , فقال تعالى : " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقال : " وأن تصبروا خير لكم " وفي هذا المقام أيضاً أخبر جل وعلا أنّه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة عليها إلا أهل الصبر ، قال تعالى : " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون " وقال تعالى " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " وفيه أيضاً أن الله أخبرهم بأن الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من المكروه المرهوب ، ودخول الجنة ، إنما نالوه بالصبر , قال تعالى : " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" , ومن منحه جل وعلا لهم أن ضمن لهم النصر والمدد لهم من عنده فقال تعالى : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ومن منحه جل وعلا للصابرين أن أطلق لهم البشرى دون تحديد في وقت أو مكان أو أمر , فقال تعالى : " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين " , ومن مآلات الصبر التي تعتبر من منح الله تعالى لعباده الصابرين أنه يورث صاحبه درجة الإمامة , قال ابن القيم رحمه الله : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين , ثم تلا قوله تعالى : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "

الرابع :
أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم بأن أهل الصبر هم أهل العزائم , وهم أهل جادة الحق والهمم العالية وأهل التضحية من أجل الله تعالى ومن أجل التقرب إليه بفعل الطاعات وترك المعاصي , ومن أجل محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وسنته وسيرته , ومن أجل ابتغاء ما عند الله من الأجر والثواب ومن أجل دعوة الناس إلى الحق والإحسان إليهم , فقال تعالى : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" وقال تعالى : " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " وقال تعالى : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور" .

الخامس :
بيّن الله تعالى أن أهل الصبر أهل تفكر وتدبر , وأصحاب نفع من الآيات والعبر , قال تعالى لموسى : " أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " ، وقوله في أهل سبأ : " فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " , وقوله : " ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور "

السادس :
قرن الله الصبر بمقامات الإسلام والإيمان ، كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان ، والتقوى والتوكل , وبالشكر والعمل الصالح والرحمة , ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له , وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خير عيش أدركناه بالصبر , وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه ضياء , وقال" : من يتصبر يصبره الله" , وفي الحديث الصحيح : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن , إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته أن يدعو لها : " إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك " فقالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها , وأمر الأنصار - رضي الله تعالى عنهم - بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض , وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر , وأمر بالصبر عند المصيبة , وأخبر أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى , وأمر صلى الله عليه وسلم المصاب بأنفع الأمور له ، وهو الصبر والاحتساب , فإن ذلك يخفف مصيبته ، ويوفر أجره . والجزع والتسخط والتشكي يزيد في المصيبة ، ويذهب الأجر , وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر خير كله ، فقال : ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر .

والحمد لله رب العالمين

حسين بن سعيد الحسنية
30/1/1437هـ
 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية