اطبع هذه الصفحة


( إن الله يحب المحسنين )
خطبة جمعة

حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الخطبة الأولى
الحمد الذي هيأ لنا سبيل الهداية , وحذرنا من سُبُل الغواية , وأنعم علينا بأجلّ نعمة , وجعلنا من خير أمّة , وأنزل القرآن هدىً وشفاءً لما في الصدور , ولأهل الحيرة والتيه علامةً ونور , فسبحانَه الودودُ الغفور , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنّ محمّداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
تأبى الحروفُ وتستعصي معانيها
حتى ذكرتُك فانهالت قوافيها
(محمد) قلتُ فاخضرّت رُبَى لغتي
وسال نهرُ فراتٌ في بواديها
فكيف يُجدِبُ حرفٌ أنت ملهمهُ
وكيف تظمأُ روحٌ أنت ساقيها
وصل اللهم على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد,,
فاتقوا الله أيّها المسلمون , وأروه منكم كل خير , واحذروا التنكّب عن طريقه أو البعد عن سبيله , واعلموا أنكم إليه راجعون , ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون , قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون "
عباد الله ,,
لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الآخرين ومدِّ يدِ العون لهم , ونصحهم وتوجيههم , والبذلِ والتضحية من أجلهم , في إشارةٍ مهمّة بأن الإسلام دينُ تعاونٍ ولحمة , وأخوةٍ وصحبة , وإيثارٍ وخدمة , قال تعالى : " وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين " , وقال تعالى : " وإذْ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللهَ وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً .." , وقال : " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن " .
أمر الله تعالى بالإحسان إلى الآخرين لأنها عبادةٌ عظيمةٌ وقربةٌ كريمةٌ , فالإحسان سببٌ من أسبابِ رضى الرحمن , وعامل مهمّ من عوامل بناء الإحسان , ورافدٌ رئيسٌ من روافد الأمن والأمان في المجتمعات والبلدان والأوطان .
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
فطالما استبعد الإنسانَ إحسانُ
يا عبد الله :
كثير أولئك الذين ينتظرون منك الإحسان وطيب المعاملة والمعاشرة بالمعروف , ومن أولئك الوالدان فبرّك بهما وطاعتك لأمرهما والقرب منهما إحسان منك وبرّ .
ومن أولئك زوجتك وأبناءك وأهل بيتك وأرحامك وقرابتك فالعناية بهم وصلتهم وتلمّس حاجاتهم وسوقهم إلى كل خير ومعروف إحسان منك لهم وصلة .
ومن أولئك أيضا جيرانك وجماعة مسجدك فزيارتك لهم وكف الأذى عنهم والتعاون معهم في كل فضيلة ومشاركة في أفراحهم وأحزانهم إحسان منك لهم ومعروف .
ومن أولئك أيضاً أهل بلدك وساكني وطنك وشركاءك في أرضك فتعاونك معهم على كل فضيلة وخير , ومشاركتك لهم بالرأي والمشورة , وتفاعلك الإيجابي مع قضاياهم وهمومهم , ومساندتك لهم ضد كل من يسعى للفتنة والبلبلة والشر إنما هو منك إحسان لهم وخير .
ومن أولئك إخوانك في الدين والعقيدة في مشارق الأرض ومغاربها , فالدعاء لهم واستشعار آلامهم وآمالهم ومتابعة أخبارهم , والنصح لهم بصدق هو أيضاً إحسان منك لهم ومعروف .
ومن أولئك أيضا الناس بصفة عامة فلهم عليك حق الإحسان من خلال دعوتهم للإسلام , ونشر أخلاقه ومثله بينهم وتعريفهم على ربهم جل وعلا .
إلى غير ذلك من الذين لهم عليك حق الإحسان والمعروف , كالفقراء والمعوزين والعمّال والخدم والأيتام والمرضى والموتى ومن غير صنف البشر أيضا كالحيوانات والنباتات .

يا عبد الله :
إنّ أولُ من يظفرُ ويستفيدُ من الإحسان هو المحسن نفسه , فلك أن تتخيل لو أنقذك إنسانٌ من الغرق , أو منحك من خيرهِ منحة , أو فكَّ عنك ضائقة , كيف يكونُ شعورك عنه واحتفالك به وشكرك له , عندها استشعر أيضا ما يعيشه هو في تلك اللحظات من سعادةٍ واطمئنانٍ وراحةِ بالٍ وسكينةٍ ولذةٍ إيمانيةٍ منقطعةِ النظير , وهو يرى فرحتك واحتفالك به .
وممّا يظفرُ به المحسن ويستفيده أيضاً أن الإحسان مهما صغر أو كبر , أو قلّ أو عظم , لإنسانٍ كان أو حيوان , لبعيدٍ كان أو قريب وافقه صدق وإخلاص لله تعالى يكون جزاءه الجنة بعد رضى الله تعالى عليه , تقول عائشة رضي الله عنها : " جاءتني مسكينةٌ تحملُ ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات , فأعطت كل واحدة منها تمرة , ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكُلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرةَ التي كانت تريد أن تأكلها بينهما , فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار " , وقد قال عليه الصلاة والسلام " اتقوا النار ولو بشق تمرة " .
وممّا يظفرُ به المحسن ويستفيده أيضاً من إحسانه للآخرين أن الإحسان سببٌ لتفريج الكرب وزوال الهم وزيادةٌ في التيسير والستر , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ..."
من يغرسِ الإحسانَ يجنِ محبةً
دونَ المُسيءِ المُبعدِ المصرومِ
أَقِلْ العِثَارَ تُقَلْ ولا تحسدْ ولا
تحقدْ فليسَ المرءُ بالمعصومِ
قال ابن القيم رحمه الله : ( من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به ، ومن رحِمهم رحِمه ، ومن أحسن إليهم أحسن إليه ، ومن جاد عليهم جاد الله عليه ، ومن نفعهم نفعه ، ومن سترهم ستره ، ومن منعهم خيره منعه خيره ، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة ، فالله تعالى لعبده حسب ما يكونُ العبد لخلقه ) أ.هـ كلامه رحمه الله .
يا عبد الله :
ليس للإحسانِ بيئةٌ واحدة , ولا يحدّ بحدود , ولا يقفُ عند أسلوبٍ واحد أو طريقةٍ محددة , فبحرهُ لا ساحل له , وأُفُقَهُ ليسَ أوسعُ منه , وهو بابُ الأمّة المفتوح .
بقي أن تُبادر بما وهبك الله من عطاءات , وأن تُحسن بما أعطاك الله من إمكانات , وأن تنشر الحق وتبذل المعروف وتقدم الخير , فأنت بدينك وأخلاقك وما تملك تستطيع أن تفعل وتحسن أضعاف ما تقدّمه الآن من إحسان , واعلم أن إخوانك بحاجة إليك , وأن الأمة تنتظر منك الكثير والكثير .
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور والرحيم .

الخطبة الثانية :

الحمد لله على إحسانه , والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه , ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين .

وبعد ,,,
من عجائب أخبار السلف الصالح ما رواه أهل السير عن أحمد بن مسكين أحد علماء القرن الثالث الهجري في البصرة قال : " ومن عجائب أخبار السلف الصالح ما روى أهل السير عن أحمدَ بن مسكين أحد علماء القرن الثالث الهجري في البصرة قال : ( امتُحِنتُ بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين ، فلم يكن عندنا شيء ، ولي امرأة وطفلها ، وقد طوينا على جوع يَخْسِفُ بالجوفِ خسفاً ، فجمعتُ نيّتي على بيع الدار والتحّول عنها ، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيَني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إليّ رُقاقتين من الخبز بينهما حلوى , وقال : أطعمها أهلك , ومضيتُ إلى داري فلما كنت في الطريق لقيَتني امرأة معها صبي ، فَنَظَرَتْ إلى الرُقاقتين وقالت : يا سيّدي : هذا طفلٌ يتيمٌ جائع ، ولا صبرَ له على الجوع فأطعمه شيئًا يرحمك الله ونظر إليَّ الطفل نظرة لا أنساها وخُيِّل أليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يُشْبِعُ هذا الطفلَ وأُمُّهُ ، فدفعت ما في يدي للمرأة وقلت لها : خذي وأطعمي ابنك , والله ما أملك بيضاء ولا صفراء وإنَّ في داري لمن هو أحوجُ إلى هذا الطعام ، فدمعت عيناها ، وأشرقَ وجهُ الصبي ، ومشيتُ وأنا مهموم ، وجلستُ إلى حائطٍ أفكّر في بيع الدار , وإذْ أنا كذلك إذْ مرّ أبو نصر وكأنه يطير فرحًا ، فقال : يا أبا محمد ، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخيرُ والغنى ؟! قلت : سبحان الله ! ومن أين يا أبا نصر ؟! قال : جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدٍ من أهله ، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال ، فقلت : ما خبره ؟ قال : إنّه تاجر من البصرة ، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة ، فأفلس وانكسر المال ، ثم ترك البصرة إلى خراسان ، فصلح أمره على التجارة هناك ، وأيسَر بعد المحنة ، وأقبل بالثراء والغنى ، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل ، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة , يقول أحمد بن مسكين : حمدت الله وشكرته ، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها ، فلقيتهما وأجرَيت عليهما رزقا ، ثم اتّجرت في المال وجعلت أرُبُّهُ بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص ، وكأني قد أعجبني نفسي وسرّني أني قد ملأَتُ سجلات الملائكة بحسناتي ، ورجوت أن أكون قد كُتِبتُ عند الله في الصالحين ، فنمتُ ليلةً فرأيتُني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض ورأيت الناس وقد وُسّعَت أبدانهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقةً مجسّمة ، حتى لكأن الفاسقَ على ظهرهِ مدينةٌ كلّها مخزيات ثم وضعت الموازين ، وجيء بي لوزن أعمالي ، فجُعلت سيئاتي في كِفّة وألقيت سجلاتُ حسناتي في الأخرى ، فطاشت السجلات ، ورجحت السيئات ، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه ، فإذا تحت كل حسنةٍ شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس كالرياء والغرور وحب المحمدَة عند الناس فلم يُسلّم لي شيء ، وهلكت عن حجتي وسمعت صوتًا : ألم يبق له شيء ؟ فقيل : بقي هذا ، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي ، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنتُ بهما على المرأة وابنها ، فأيقنت أني هالك فلقد كنت أُحسِنُ بمائة دينارٍ ضربةً واحدة فما أغنَت عني ، فانخذلتُ انخذالاً شديدًا ، فَوضِعَت الرقاقتان في الميزان ، فإذا بِكِفةِ الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرّجحان ، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها ، ومن إيثاري إيّاها وابنها على أهلي ، وإذا بالكِفة ترجِحُ ، ولا تزال ترجحُ حتى سمعت صوتًا يقول : قد نجا.)

اللهم إنا نسألك فعل الطاعات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين .

حسين بن سعيد الحسنية
04/08/1438هـ

 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية