اطبع هذه الصفحة


أيّها المقصّر عند والديه ,, إلى متى ؟

حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ,, وبعد .
فإن المؤمن يعتقد اعتقادا جازماً بحق الوالدين، وبوجوب برهما، وطاعتهما، والإحسان إليهما، لا لكونهما سببَ وجوده فحسب، أو لكونهما أسديا معروفاً أو جميلاً مما يجب المكافأة عليه بالمثل، ولكن لكون الله  أوجب تلك الطاعة، وفرض ذلك البر، بل قرن I عبادته بطاعتهما وبِرِّهما, قال تعالى: " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " الإسراء: 23 , فالدلالة على فضلهما ظاهرة، والإشارة إلى بِرِّهما واضحة، ولا ينكرها إلا جاحد عاق.
وما أعظمَ فضل الله، وما أوسعَ رحمته، فقد أعدّ لكل من الوالدين باباً من الجنة، يتفتح بالخير على الولد كلما خرج يسعى لهما، وتتساقط عليه رحمة الله I ما دام حريصاً على إرضائهما، فإنْ أغضبهما، أو أغضب أحدَهما، غضب الله عليه، فأغلق دونه باب الخير وإن كان الولد محقاً؛ ليتعلم الأبناء أن ليس لهم من الحق شيء تجاه آبائهم.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام مطلق، لا يخصّص، ولا يحدّد، ولا يُقبل أو يُرفض بشروط، ولا يُطرح لمناقشة أو جدال؛ ليتنبه أكثر الأبناء أو الذين يعتقدون أن برهما فقط فيما يوافق رغباتِهم أو ميولَهم.
ثم دعني أسألك – يا رعاك الله-:
أليست أمك مَن حملتك في بطنها تسعة أشهر، وحملت مع حملك آهات الألم، ودمعات الفرح، منتظرةً قدومك، ومتحفزةً لمجيئك؟.
أليست هي التي تجرعت عند وضعك زفرات الموت، وأحست بفراق حياتها بمجيء حياتك؟.
أليست هي التي أصبحت أنت أكبرَ همِّها، وأكثر شغلِها، بعد أن رأت عيناك النور، بل أصبحت تخشى عليك حتى من سفيف الريح؟.
أليست هي التي أرضعتك من صدرها، واحتضنتك في حجرها، وتحملت قذارتَك لكي تكون نظيفاً، وتلقفت كل ما كرِهَتْ لتجد أنت ما تحبه؟.
أليست هي التي لم يهدأ لها بال، ولم تقف لها دمعة، عند غيابك وبعدك عنها؟.
أليست هي التي لا زالت تعتبرك الطفل الصغير البريء، مهما بلغ عمرك، أو تنوّر فكرك، أو أصبح لك زوجة وأولاداً؟.
ثم ماذا يعني لك الأب؟. برضاه عنك، وتضحيته لأجلك، وعمله الدؤوب لأجل إمتاعك وإرضائك.
هل تشعر بدوره تجاهك؟ هل فكرت يوماً لماذا حَمَلَك من لهيب الأرض؟ وأسقاك من زلال الماء؟ وأعطاك من طيب الزاد؟.
هل تعي مدى حزنه عندما تحزن؟ وغاية سعادته عندما تسعد؟ وهل شَعَرْتَ – ولو لمرة واحدة – بتلك اللمسة الحانية من يده المشفقة، وهي تسير على شعر رأسك؟.
وهل تدرك تلك التكاليف الباهظة، والأثمان الغالية، والتي أجهدت كاهليه؛ لتلبس أجمل الملابس، وتأكل ألذ الأكل، وتعيش أفضل حياة.
وإن المقصّر في حق والديه وهو يقرأ الأسئلة السابقة ويتأملها جيداً ليسأل نفسه فعلاً إلى متى أعامل والدي بجفاء وقطيعة أو بعناد وعقوق وهما من هما في الفضل والمكانة , وقد أوصى الله  ورسول الله ﷺ ببرهما وطاعتهما والإحسان إليهما

لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بحق الوالدين، وأكّدت في مواضع كثيرة على وجوب طاعتهما وبِرِّهما، فبالإضافة إلى مقارنة عبادة الله تعالى برضى الوالدين، فقد حذرنا من الرد عليهما بالرفض، أو رفع الصوت بحضورهما، بل حتى من التأفف منهما، وهو أقل ما يقال أو يعبر به عن الغضب من الآخر. قال تعالى: " فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا " الإسراء: 23 , قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: – مرفوعاً- : " لو كان هناك شيئاً من العقوق أدنى من (أفٍّ) لحرمه الله ", وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: " فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا " الإسراء: 23 هي كلمة كراهة, وقال مقاتل عنها: "الكلام الرديء الغليظ".
وانظر – رحمك الله- كيف قرن شكرهما بشكره عزوجل في موضع آخر قال تعالى: " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ " لقمان: 14, وفي ذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما : "ثلاث آيات نزلت مقرونةً بثلاث، لا تُقبل منها واحدةٌ دون قرينتِها: إحداها: " أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ " النساء: 59, فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه, الثانية: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ" البقرة: 43, فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه, الثالثة: " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير" لقمان: 14, فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه, ولهذا قال النبي ﷺ: " رِضى الله من رضى الوالدين، وسَخَطُ الله من سخط الوالدين » رواه الترمذي.
وانظر مرة أخرى – يا رعاك الله- إلى أفضلية طاعتهما وبرهما على الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما جاء رجل إلى الرسول ﷺ يستأذنه في الجهاد فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» متفق عليه.

وحينما ندرك كل ما تقدم، كان لزاماً أن ندرك أيضاً الإثم الحاصل من عقوق الوالدين، ومن عدم الإحسان إليهما، وهنا يخبرنا نبينا محمد ﷺ أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والتي لا تغفر من رب العزة والجلال، إلا بالتوبة الصادقة الخالصة. قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ..." متفق عليه, ومن صور عقوق الوالدين على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي :-
• عصيانهما، وعدم الالتزام بأمرهما.
• البعد عنهما، وتركهما بدون سؤال ولا عناية.
• إبكاؤهما وتحزينهما بقولك أو فعلك.
• مزاولة المنكرات أمامهما، وإدخال الغضب بسببها
• تقديم الزوجة عليهما فيما للوالدين دخل فيه.
• أن يعتبر الابن أنه مساوٍ لأبيه.
• أن يتعاظم الابن عن تقبيل يدي والديه، ولا ينهض لهما.
• أن لا يُنسب إلى أبيه لحرج أو لغيره.
• عدم النفقة عليهما، سواء قضت الحاجة أم لم تقض.
• سبهما وشتمهما، وهذا من أكبر العقوق والمعاصي.
• ومن أقبح العقوق أن يتمنى الولد زوال أبيه ليرثه إن كان غنياً، أو ليتخلص منه إن كان فقيراً، أو لينجو من مراقبته إن كان مؤدباً.
• أن يمشي الابن أمام والده أو والدته أو يدخل مكاناً قبلهما.
• أن يمد يديه على الصحن أو المزودة قبلهما.
• أن ينظر إليهما بحدّة أثناء محادثتهما إياه.
• أن يحرمهما ما يريدان حتى ولو لم يفصحوا عن ذلك.

إن المؤمن وهو يقرأ في حال السلف الصالح مع الوالدين فإنك ترى أصنافاً من الولاء للوالدين، وأنواعاً من التفاني لهما, قال أبو بكر بن عياش: ربما كنت مع منصور في منْزله جالساً، فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى، وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها, وكان حيوة بن شريح – وهو أحد أئمة المسلمين- يقعد في حلقته يعلّم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعلم, وقال ابن المنكدر: بات أخي يصلي، وبت أغمز رِجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته. وكان حجر بن الأدبر يلمس فراش أمه بيده فيتهم غلظ يده، فيتقلب عليه على ظهره، فإذا أمِن أن يكون عليه شيء أضجعها.
ختاماً ,,
أيها المضيّع لآكد الحقوق، المعتاض من بر الوالدين بالعقوق، الناسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بِرُّ والديك عليك دين، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنة بزعمك، وهي تحت أقدام أمك.

ها هما بجوارك، قد بدأ المشيب عليهما، واحدوب منهما الظهر، وارتعشت الأطراف، لا يقومان إلا بصعوبة، ولا يجلسان إلا بمشقة، أنهكتهما الأمراض، وزارتهما الأوجاع والأسقام، فألِنْ جانبك لهما، وارع حقوقهما، وقبِّل رأسهما، واسكب الدمعة لعل الله يرحمهما، ويعفو عن تقصيرك في حقهما.
قال ﷺ : " بروا آباءكم تبركم أبناءكم " رواه الحاكم واعلم أنه كما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل.
 

كتبه
حسين بن سعيد الحسنية
الأربعاء 23/01/1424هـ


 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية