اطبع هذه الصفحة


عاريَّة الله

أبوأنس-حسين بن سعيد الحسنية
@h_alhasaneih


بسم الله الرحمن الرحيم


عن أنس رضي الله عنه قال: " اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ ، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَتُوُفِّيَ الْغُلَامُ ، فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ الْمَيِّتَ ، وَقَالَتْ لِأَهْلِهَا : لَا يُخْبِرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَا طَلْحَةَ بِوَفَاةِ ابْنِهِ ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، قَالَ : مَا فَعَلَ الْغُلَامُ ؟ ، قَالَتْ : خَيْرٌ مَا كَانَ ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِمْ عَشَاءَهُمْ ، فَتَعَشَّوْا ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ ، وَقَامَتْ الْمَرْأَةُ إِلَى مَا تَقُومُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ ، قَالَتْ : يَا أَبَا طَلْحَةَ ، أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ فُلَانٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَةً ، فَتَمَتَّعُوا بِهَا ، فَلَمَّا طُلِبَتْ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَاكَ ، قَالَ : مَا أَنْصَفُوا ، قَالَتْ : فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَإِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ ، فَاسْتَرْجَعَ ، وَحَمِدَ اللَّهَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَآهُ ، قَالَ : " بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا " ، فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ ، فَوَلَدَتْهُ لَيْلًا ، وَكَرِهَتْ أَنْ تُحَنِّكَهُ حَتَّى يُحَنِّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال : فَحَمَلْتُهُ غُدْوَةً وَمَعِي تَمَرَاتُ عَجْوَةٍ ، فَوَجَدْتُهُ يَهْنَأُ أَبَاعِرَ لَهُ ، أَوْ يَسِمُهَا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ اللَّيْلَةَ ، فَكَرِهَتْ أَنْ تُحَنِّكَهُ حَتَّى يُحَنِّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " أَمَعَكَ شَيْءٌ ؟ " ، قُلْتُ : تَمَرَاتُ عَجْوَةٍ ، فَأَخَذَ بَعْضَهُنَّ فَمَضَغَهُنَّ ، ثُمَّ جَمَعَ بُزَاقَهُ فَأَوْجَرَهُ إِيَّاهُ ، فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُ ، فَقَالَ : " حِبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرُ " ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَمِّهِ ، قَالَ : " هُوَ عَبْدُ اللَّهِ " فقال رجل من الأنصار ( فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن " رواه البخاري وأحمد.

ما أجمل تفاعل المرأة الصالحة، وما أعظم تأثيرها على زوجها، وابناءها، وبيتها، وما أجمل ما تقدمه من عناية واهتمام، وخدمة لأسرتها، على وجه العموم، وفي قصتنا هذه يتجلى لنا نوع آخر من أنواع التضحية والصبر والمجاهدة، فأم سليم رضي الله عنها يموت بين يديها ابنها، وأبوه غائب عن البيت، فلا تريد أن ينزعج أو يتأثر تأثراً بالغاً، وكانت تحرص على مشاعره وعواطفه، وهو الأب الحاني المحب لابنه، تخيّل تريد مثل هذه الأجواء أن تتكون على ما يحمله قلبها من ألم الفراق، وعظم المصيبة، فهو في نهاية المطاف ولدها، وفلذة كبدها، فتغسل الغلام، وتطيّبه، وتكفّنه، ثم تجعله في زاوية من زوايا البيت بحيث لا يراه أبو طلحة عندما يعود، بل تؤكّد على جميع من في البيت من أهلها أن لا أحد يخبره بما حصل؛ حتى تخبره هي، فيأتي أبو طلحة مع مجموعة من أصحابه فيسأل عن الغلام، فتقول له: هو خير مما كان، وتصنع العشاء وتعشيه وتعشيهم جميعاً، ثم تذهب معه إلى الفراش، ويعاملها كما يعامل الزوج زوجته، وحينما استشعرت أنها قامت بكامل حقوقه عليها، أتته بأسلوب آخر جميل، للدخول من خلاله للموضوع الرئيس الذي تريد أن تخبره به، وهو وفاة الغلام، فابتدأته بسؤاله عن رأيه في آل فلان الذين استمتعوا بعاريَّة أخذوها ولم يعيدوها، فيجيبها بأنهم لم ينصفوا، فقالت له: فإن ابنك كان عاريَّة من الله تعالى وأن الله قبضة، فاستقبل الأمر أبا طلحة، بعد أن هيأته للاستقبال زوجته أم سليم، وكأنها تقول لما أخبرته بالذين لم يردوا العاريَّة وحكم عليهم هو بأنهم اخطأوا ولم ينصفوا، احذر من الخطأ، وعدم الانصاف يوم أن رد الله عاريَّته إليه، فتجزع، أو تسخط، أو تغضب، وكذلك كان هو، فقد حمد الله واسترجع، واستقبل الأمر بكل هدوء ورضى.
صبرت أم سليم صبراً عظيماً على وفاة ابنها، وكذلك زوجها أبو طلحة، ولما كان منهما ذلك استحقا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: " بارك الله لكما في ليلتكما "، وهذا العطاء الأول – وما أعظمه من عطاء – الناتج من صبر الأبوين على فراق ابنهما، والعطاء الثاني أن حملت أم سليم من ليلتها تلك استجابة لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهما في تلك الليلة، ولصبرهما أيضاً عوّضهما الله مباشرة عن ابنهما الذي فقداه، والعطاء الثالث أن يُحنِّك ذلك الغلام - والذي كان عوضاً من الله عن أخيه المتوفي - رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات عجوه، وأن يسميه بعبد الله.
العطاء الرابع هو ما قاله ذلك الانصاري في آخر الحديث حين قال: " فرأيت لهما تسعة اولاد كلهم قد قرأوا القرآن "، وهذا والله ليس له عد ولا حساب، فأبو طلحة وأم سليم، وبعد ما حدث منهما من صبر واحتساب ومجاهدة على فقد ابنهما فانهما يرزقان تسعة من الأبناء، ليس عبدالله لوحده بل تسعة أبناء، ولم يقف عطاء الله هنا – ولن يقف – بل جعل التسعة جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فما أعظم الصبر على البلاء وما أعظم جزاء الله للصابرين.

أذكر أني قرأت للشافعي – رحمه الله – بيتين من الشعر كان يعزي بهما رجل من الصالحين مات له ابن فجزع له جزعاً شديداً، حيث قال:

إني معزيكَ لا أنيِّ على ثقة
ٍمِنَ الخُلودِ،وَلكنْ سُنَّة ُالدِّينِ
فما المُعَزَّي بباقٍ بعدَ صاحِبِهِ
ولا المُعَزَّى وإنْ عاشَا إلى حَينِ
 


 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية