اطبع هذه الصفحة


ثبّتوا إخوانكم

أبوأنس-حسين بن سعيد الحسنية
@h_alhasaneih


بسم الله الرحمن الرحيم


إن أعظم ما يُسلّي المؤمن حين بلاءه، ويخفف من مصابه، حينما يجد من حوله أو بعضهم يشاركونه البلاء والمصاب، بالكلمة الجميلة تارة، أو الزيارة تارة أخرى، أو منحه شيئاً من الدعم النفسي والاجتماعي.

لقد تحدثنا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين اشتكوا له ما هُم فيه من ضيق وبلاء في مكة، كانوا يريدون في المقام الأول أن يشعروا أنه معهم، وأنه يشاركهم الأمر " ألا تدعو لنا " " ألا تستنصر لنا " فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بروح الأخ العارف بهموم إخوانه، المتلبِّس بلباسهم، الحزين المدرك لواقعهم ومآلات أمرهم، فيسلّيهم بأن ما تعانون منه قد عاناه من قبلكم بل أشد، وأنّ الثبات على البلاء من أقوى صفات المؤمنين، وأنّ بعد العسر يسراً، وبعد الشدة فرج، وأنّ الله ناصرُ دينه، ومُعلي كلمته، وكان لهذه الكلمات الأثر الكبير في نفوسهم؛ رغم ما يعانون منه من بلاء ومصاب.

وفي موقف تسلية آخر لمبتلى آخر، وهذه المرة الذي يشكو البلاء امرأة هدّها المرض، وأعياها الصرع، وفوق ذلك كله فهي تشكو ما يحصل لها من كشف لها أثناء الصرع، فتذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول له: " إني أصرع وإني اتكشف فادع الله لي.."، فيخبرها صلى الله عليه وسلم بين أن تصبر وهو أمر عظيم ويترتب عليه الأجر العظيم ومن بعد ذلك الجنة، أو أن يعافيها الله من هذا البلاء ويقول: " إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك "، فتجد تلك التسلية العظيمة في قلب تلك المرأة المبتلاة مكاناً عظيماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعِدُها بالجنة إن هي صبرت واحتسبت، فقالت: " اصْبِر "، ثم عرضت عليه بلاءها الآخر في قولها: " فإني اتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها "، يقول عطاء بن أبي رباح قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: " ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء ".

ما أعظم ما حصلت عليه هذه المرأة من جزاء نتيجة صبرها على البلاء والمصيبة، وما أقوى تأثير تسلية محمد صلى الله عليه وسلم لها بأن اعطاها الجنة إذا هي صبرت.

وفي موقف آخر ينزل محمد صلى الله عليه وسلم من على الجبل، وقد حصل ما حصل عليه بعد لقاءه مع جبريل عليه السلام في الغار، فالمشهد عظيم، والموقف مهيب، ارتاع صلى الله عليه وسلم منه، فدخل بيته وقلبه يخفق وفؤاده يرجف وأطرافه ترتعش، وهو يقول لأهل بيته زملوني زملوني، فتتلقّاه خديجة الطاهرة عليها السلام، وتقذف في قلبه قبل أذنيه كلمات تهوّن عليه مصابه، وتخفف من خوفه واضطرابه، فتقول: " كلا، أبشر، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق "، نعم فقد كانت هذه الكلمات كالبلسم اللطيف على قلبه صلى الله عليه وسلم، والذي قال بعدها: " لقد خشيت على نفسي ".

وفي بدر حين رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه حبيبه وصاحبه محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويلح في الدعاء بأن ينصره على جيش قريش، ولا شك أن في مقابلة العدو لوحدها بلاء عظيم، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم أني انشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " وأخذ يُلحّ على الله في الدعاء صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداؤه من على ظهره الشريف، قال أبو بكر رضي الله عنه: " كفاك مناشدتك ربك يا رسول الله، أبشر فو الذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك " رواه البخاري ومسلم.

وأنتقل بكم إلى فتنة عظيمة على مستوى الأمة الاسلامية قاطبة، وهي فتنة خلق القرآن، والتي ابتلي فيها الإمام احمد بن حنبل – رحمه الله – أشد البلاء، وأعظم المصاب، حتى أنه قيل لم يبق أحد على وجه الارض يقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق إلا أحمد بن حنبل، فلقد عُذّب عذاباً شديداً، وسجن سجناً طويلاً، وتكالبت عليه قوى الشر من كل مكان، فصبر واحتسب؛ إلاّ أن من أعظم ما أعانه على الصبر والثبات، هي رسائل التسلية، تلك التي أتته من أكثر من واحد ومنها: أن رجلاً من عامة المسلمين قابله في منطقة (الرحبة)على شاطئ الفرات، وكان يعمل في غزل الصوف فقال له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة "، وقال له أحد أصدقاءه القدامى واسمه أبو جعفر الانباري، في رسالة تسلية وثبيت أخرى: " يا هذا انت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت فاتق الله ولا تجب " فجعل الإمام أحمد يبكي وهو يقول: " ما شاء الله، أعد علىّ.

ثبتوا من ترون من إخوانكم الذين عصفت بهم رياح الابتلاءات، وعواصف المصائب، برسائل الايمان، وكلمات الصبر، وآيات الثبات، ومشاعر الاخوة، فهم والله أحوج ما يكونون لها في هذا الوقت من أي وقت آخر.

انتهى ..


 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية